برتراند راسل (1872- 1970)
برتراند راسل (Bertrand Russell) عالم رياضيات وفيلسوف بريطاني، ومن اشهر المفكرين والشخصيات العامة في بريطانيا، حتى وفاته في عام 1970 عن ثمانية وتسعين عاماً.
بالإضافة إلى إنجازاته في الفلسفة والرياضيات والمنطق، اشتهر على نطاق واسع بفضل كتاباته المتعددة والمتنوعة في السياسة والشؤون العامة. اتسم أسلوبه في الكتابة بالأناقة في استخدام اللغة وبروح الفكاهة، وبالاستخراج الحاذق للمثل النافي والاستثناء، بهدف إضعاف موقف الخصم وإيجاد ثغرات منطقية فيه. وهو من افضل كتّاب "المقالة" كنوع من أنواع الكتابة. عمل طيلة حياته من اجل السلم ومناهضة الأسلحة النووية وكان نصيرا للعدالة الاجتماعية في معظم كتاباته.
وقد ساهم راسل مساهمة كبيرة في تطور المنطق الرياضي الحديث. فقد طور منطق "الإضافة" وحسن لغة الرموز المنطقية. ولقد حاول راسل مع هوايتهد في بداية القرن العشرين، وهما يتبعان فريغه (Frege) ان يستكملا الأساس المنطقي للرياضيات. وقد كتب عدداً كبيراً من الأعمال الفلسفية عن مشكلات العلم الطبيعي. وقد ذهب راسل إلى ان الفلسفة تستمد مشكلاتها من العالم الطبيعي وان مهمتها هي تقديم تحليل وتفسير مادي لمفاهيم العالم الطبيعي، وان ماهية الفلسفة هي المنطق والتحليل المنطقي للغة. ويعد راسل بحق اكبر ممثل بارز للوضعية الجديدة المحدثة. وقد طرأ على نظرة راسل، في حل المشكلة الرئيسية للفلسفة، تطور من المثالية الموضوعية إلى المثالية الذاتية. فالإنسان في رأيه عليه أن يشتغل بالمعطيات الحسية. ان ما يدركه الإنسان هو "واقعه" ومركبا من "الوقائع". والوقائع لا تعد فيزيقية أو حسية، إنها محايدة. وعند راسل ان ما يتجسد بشكل تجريبي لا يجب ان يعزى إلى مجال الفيزياء المحضة، بل إلى الفيزياء مضافاً إليها القطاع المقابل من علم النفس. فعلم النفس جزء جوهري لكل علم تربوي. وراسل في نظرية المعرفة لا-أدري (agnostic): فهو بإنكاره للنظرية المادية للمعرفة أورد فلسفة الشك محلها. وكان راسل في السنوات الأخيرة من حياته مساهماً فعالاً في حركة نزع السلاح العام. وقد خدمت مقالاته وخطبه ضد الحرب والدعوة إلى السلام، قضية التقدم الإنساني.
راسل: مختارات من "أسس لإعادة البناء الاجتماعي"
الفصل الثاني: الدولة
يبدو أن التفكير الليبرالي قد أخذ يميل في السنوات الأخيرة، تحت تأثير النظرة الاشتراكية، إلى منح الدولة سلطة متزايدة مظهرا بعض العداوة نحو مكانة الملكية الخاصة. نجد مقابل ذلك أن النظرة النقابية تظهر عداوة لكل من الدولة والملكية الخاصة معا. أنا أميل إلى الاعتقاد بأن النظرة السنديكالية أقرب إلى الصواب من النظرة الاشتراكية في هذا الشأن وذلك لأن كلا من الملكية الخاصة والدولة، اللتين هما أكثر المؤسسات سيطرة في العالم المعاصر، يزيد من فقدان الحيوية التي يشكو العالم منها بشكل مضطرد. تتعلق هاتان المؤسستان ببعضهما تعلقا وثيقا، ولكن دراستي ستقتصر في الوقت الحاضر على الدولة، وإلى أي حد هي غير ضرورية وضارة، وسأبين كيف يمكن تخفيفها من دون إجراء أية خسارة في منافعها. ولكنني سوف أقدم اقتراحا يرمي إلى تمديد مهام الدولة في نواحٍ أخرى بدلا من تقصيرها.
يمكن أن تقوم بمهام الدولة التي تتعلق بالبريد والتعليم الابتدائي مؤسسات خاصة، ولكن الدولة تقوم بها بدافع من الملائمة. ولكن هناك أمور ثانية يتعذر أن نتصورها في أيد أخرى، ما دام هناك دولة، مثل القانون والبوليس والجيش والبحرية. يختلف الاشتراكي والفردي حول مهام الدولة غير الأساسية إذ يتمنى الاشتراكي تمديدها والفردي تقصيرها. يتفق الاشتراكيون والفرديون على بعض مهام الدولة الأساسية، وهذه هي الأمور التي أرغب في انتقادها لأن المهام غير الأساسية هي، بحد ذاتها، غير جديرة بالاعتراض.
إن الشيء الجوهري في الدولة هو كونها مصب قوى المواطنين مجتمعة. تأخذ هذه القوى شكلين: شكلا داخليا وشكلا خارجيا. يتمثل الشكل الداخلي بالقانون، والشكل الخارجي يتمثل بالمقدرة، التي تتجسد في الجيش والبحرية، على شن حرب ما. تتكون الدولة من جراء ضم قوى كل سكان منطقة معينة تحت إمرة حكومة ما. تستعمل الدولة المتحضرة القوى ضد مواطنيها وفقا لشروط يعينها القانون الجزائي. أما استخدام القوة ضد الغرباء فلا تضبطه أية أنظمة أو قواعد، بل يترك، باستثناء بعض الحالات الخاصة، إلى تقلبات المصلحة القومية أكانت هذه حقيقة أم وهمية.
ليس من شك في أن القوة التي تستخدم طبقا للقواعد والقانون هي أقل أذى من القوة التي تحركها الأهواء. فلو تسنى للقانون الدولي أن يسيطر على عواطف الولاء عند الناس سيطرة كافية في تنظيم العلاقات بين الدول، لأحرزنا تقدما كبيرا على وضعنا الحالي. الفوضى البدائية التي تسبق تشكيل القانون هي أسوأ من أسوأ القوانين. أنا أعتقد أن من السهل إيجاد منزلة تعلو على القانون، نتمتع فيها بذات المنافع التي يمكن ان نحصل عليها من خلال القانون ومن دون أية خسارة في الحرية ومن دون التعرض لذات المضمار التي يجعلها القانون أو البوليس محتمة. من المحتمل أن يكون وجود بعض قوى الاحتياط ضروريا ولكن استخدام القوة الفعلي يصبح نادرا كما تصبح درجة القوة المطلوبة ضئيلة. إن الفوضى التي تسبق القانون تعطي حرية إلى الرجل القوي فقط، ولكن الحرية التي نطمح إليها تجعل كل فرد تقريبا حرا. نستطيع تحقيق مثل هذه الحرية ليس بمحو وجود القوة المجهزة محوا كليا، بل بوضع أكبر حد ممكن لمناسبات استخدامها.
يحد سلطة الدولة داخليا الخوف من الانقلاب وخارجيا الخوف من الانهزام في الحرب. وإذا صرف النظر عن هذه المخاوف، فسلطة الدولة مطلقة. يمكن أن تستولي الدولة في الواقع من خلال الضرائب على ممتلكات الناس، كما يمكنها أن تحدد قانون الزواج والميراث، وأن تعاقب التعبير عن الآراء التي لا تعجبها، وأن تنكل بمن يطالب بضم مقاطعته إلى دولة أخرى، وأن تأمر كل ذكر ذي بنية سليمة بالسير إلى الحرب كلما وجدت أن شن الحرب هو في صالحها. وفي نواحٍ أخرى متعددة تعتبر مخالفة أهداف الدولة وآرائها جريمة. لربما كانت أميركا وبريطانيا قبل الحرب أكثر دول العالم تمتعا بالحرية، ولكن حتى في أميركا لا يسمح لأي مهاجر أن يطأ أرضها قبل أن يعترف بعدم إيمانه بالفوضوية السياسية وتعدد الأزواج، بينما كان الناس في إنكلترا في السنوات الأخيرة يزجون في السجون لمجرد إعلانهم عن مخالفتهم للديانة المسيحية، أو لموافقتهم لتعاليم المسيح. يعتبر كل انتقاد للسياسة الخارجية عملا إجراميا. فإذا رغبت الأكثرية، أو أصحاب السلطة الفعلية، في شيء ما، كان من المفترض أن كل من لا يرغب في ذلك الشيء تعرض لأشنع أنواع العذابات والعقوبات مثل العذابات والعقوبات التي تعرض لها الهراطقة في الماضي. إن مدى الطغيان الذي يطبق في هذه الحالة يتوقف على مدى نجاحه. قليل من الناس يحجم عن فتح باب الاضطهاد عندما يتأكد أنه سيكون اضطهادا ساحقا.
خدمة العلم الإلزامية ربما هي المثل الأقصى عن قوة الدولة والشاهد الأول عن الفرق بين نظرتها إلى مواطنيها ومواطني الدول الأخرى. تجازي الدولة بصرامة تامة كل من يقتل مواطنيه وكل من يرفض قتل مواطني الدول الأخرى. وبوجه عام يعتبر الوضع الأخير جريمة أسوأ. إن الحرب ظاهرة مألوفة ويفشل الناس في ملاحظة غرابتها، إنها في الواقع تبدو لِمن يعيش طبقا لغرائزه الحربية طبيعية ومعقولة، أما من يأبى أن يعيش وفقا لتلك الغرائز، فيجد استغرابه للحرب ينمو بشكل مألوف تماما. من المدهش كيف تتساهل أكثرية الناس بوجود نظام يجبرهم على الخضوع لأهوال المعركة في أية لحظة تشاؤها حكوماتهم. يجد الفنان الفرنسي غير العابئ بالسياسة والمنكب على لوحاته فقط، نفسه فجأة مدعوا لقتل الألمان الذين هم، كما يؤكد له رفاقه، سخطة على الجنس البشري كله. وكذلك يجد الموسيقي الألماني نفسه مدعوا لقتل الفرنسي الخداع. فلماذا لا يستطيع الاثنان أن يتركا الحرب إلى أولئك الذين يهوونها ويشهرونها؟ والفظاعة في الأمر أنه إذا أعلن الفنانان حيادهما، قتلهما على الفور بقية المواطنين: أما إذا حاولا التخلص من هذا المصير، أرغما على قتل أحدهما الآخر. فإذا خسر العالم الفنان وبقي الموسيقي حيا فرحت ألمانيا أما إذا خسر العالم الموسيقي وليس الفنان، ابتهجت فرنسا. ولكن لا أحد يفتكر أن خسارة الحضارة متساوية أيهما قتل.
إن سياسة كهذه هي سياسة "بدلامية" جنوبية. فلو سمح للفنان وللموسيقي بأن يتجنبا الحرب، لحصدت البشرية خيرا كليا. إن سلطة دولة، تجعل ذلك التجنب مستحيلا، هي شر كلها كسلطة الكنيسة حينما كانت تدفع الناس إلى الجحيم لمجرد أن أفكارهم غير مستقيمة. لو نشأت في أيام السلم منظمة دولية تمثل فيها الألمان والفرنسيون بأعداد متساوية وأقسموا على أن لا يشتركوا في الحرب، لوجدت تلك المنظمة اضطهادا متساويا من كلا الدولتين: الفرنسية والألمانية. يطيع المواطنون المعاصرون بلدانهم الديمقراطية طاعة عمياء ويظهرون رغبة غير محدودة في القتل والاضطهاد، كما كان يفعل تماما جيش الانكشارية عند السلاطنة العثمانيين والعملاء السريون عند الطغاة الشرقيين.
يمكن أن تؤثر سلطة الدولة ليس من خلال القانون فقط، بل من خلال الرأي العام أيضا، كما هي الحال في إنكلترا. تكون الدولة، بواسطة الخطابة والصحافة، الرأي العام تكوينا شبه تام. والرأي القاسي هو عدو الحرية، وعداوته ليست بأٌقل وطأة من عداوة القوانين المجحفة. إذا وجد الفتى الذي يرفض أن يذهب إلى الحرب، نفسه مصروفا من عمله، مهانا في وسط الشوارع، متجنبا من رفاقه ومزدرى من صاحبته، فسيشعر أن العقاب صعب الاحتمال صعوبة الحكم بالإعدام. لا يتطلب المجتمع الحر حرية قانونية قط، بل كذلك رأي عام متساهل وغياب ذاك التدخل الغريزي في شؤون جيراننا الذي يتيح المجال، تحت ستار المحافظة على وضع خلقي عال، أمام أناس حسني النية لكي يشبعوا، بلا وعي منهم، ميلهم إلى القسوة والاضطهاد. ليس اتهام الآخرين بالسوء بحد ذاته سببا لأن نظن الخير في أنفسنا. ولطالما تبقى هذه الحقيقة غير مفهومة، ولطالما تقدر الدولة أن تكون الرأي العام باستثناء بعض الحالات حيث تكون الدولة ثورية، فمن الضروري أن يحسب الرأي العام كأنه جزء مما يؤلف سلطة الدولة.
تستمد الدولة، على الأرجح، سلطتها في خارج حدودها من الحرب أو التهديد بالحرب. تستطيع أيضا فرض سطوتها خارجيا من خلال قدرتها على إقناع مواطنيها بإعطاء قروض إلى البلدان الأخرى أم لا، ولكن هذه السطوة لا تعتبر شيئا مهما إذا ما قيست بقوتها المستمدة من الجيوش والبحرية. إن أعمال الدولة الخارجية هي أنانية، فيما عدا بعض الحالات النادرة التي لا تستأهل أن تذكر. تحد في بعض الأحيان الحاجة إلى الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع الدول الأخرى من الأنانية، ولكن هذا التعديل يطرأ على الأساليب المستخدمة لتحقيق الأهداف وليس على الأهداف ذاتها. الأهداف المبتغاة، بصرف النظر عن الحاجة إلى الدفاع عن النفس في وجه الدول الأخرى، هي مناسبات للاستثمار الفعال للدول الضعيفة أو غير المتحضرة من ناحية، ولتضخيم العز والسيادة التي تعتبر شيئا أكثر مجدا وأكثر تعاليا من الأموال، من ناحية أخرى. لا تتوانى أي دولة في سبيل تحقيق هذه الأهداف عن قتل العديد من الأجانب الذين لا تتناسب سعادتهم مع الاستعمار والخضوع أو عن تخريب المقاطعات التي يظن أن من الضروري أن يصيبها الهلع. ارتكبت هذه الفظائع كل الدول الكبيرة وبعض الدول الصغيرة، ما عدا النمسا التي لا تنقصها الإرادة وإنما المناسبة خلال السنوات العشرين الماضية باستثناء الحرب الحاضرة.
لماذا يرضخ الناس لسلطة الدولة؟ هناك أسباب متعددة يعود بعضها إلى التقليد وبعضها الآخر يرجع إلى أشياء حاضرة وحرجة جدا.
السبب التقليدي لطاعة الدولة هو الخضوع الشخصي للسلطان أو الحاكم. نمت الدول الأوروبية على مخلفات النظام الإقطاعي إذ أن أراضيها كانت مقاطعات يمتلكها سادة الإقطاع. اندثر مصدر هذه الطاعة التقليدية وربما لم يبق له وجود إلا في اليابان وإلى درجة ما في روسيا.
لكن لا يزال الإحساس القبلي، أو العصبية، الذي كان دائما أساس طاعة الحاكم، قويا وهو يشكل الآن الدعامة الأولى لسلطة الدولة. يجد كل إنسان تقريبا أن من الضروري لشعوره بالسعادة أن يكون عضوا في جماعة تحركها صداقات وعداءات مشتركة وتتلاحم سوية في الدفاع وفي الهجوم. ولكن هناك نوعان من هذه الجماعات التي هي مكبرات عن العائلة، والجماعات التي تبنى على هدف مشترك مدروس. ترجع الأمم إلى الفئة الأولى والكنائس إلى الفئة الثانية. فعندما تهيج الناس عقائد دينية، فغالبا ما تتبخر الفوارق القومية، كما حصل في الحروب الدينية بعد حركة الإصلاح. في هذه الحالة تصبح العقيدة الدينية رابطا أقوى من الوطنية المشتركة. مع قدوم الاشتراكية إلى العالم المعاصر، حصل وضع كهذا، ولكن إلى درجة أقل. ففي الناس الذين لا يؤمنون بالملكية الخاصة بل يشعرون أن الرأسمالي هو عدوهم الحقيقي رابطة تعلو على الفوارق القومية. لم يظهر بعد ما إذا كانت تلك الرابطة هي من القوة بحيث تستطيع مقاومة الميول التي تغذي الحرب الحاضرة، ولكن ما ظهر منها يدل على أنها جعلت ميول الاشتراكيين إلى الحرب أقل حدة من غيرهم وبهذا أحيت الأمل بإعادة بناء مجتمع أوروبي بعد انتهاء الحرب. لكن الرفض الشامل، بوجه عام، لكل العقائد الدينية ترك الشعور القبلي منتصرا والشعور القومي أقوى مما كان في أي حقبة من التاريخ. لقد أنِس بعض المسيحيين المخلصين والاشتراكيين الصادقين قوة في معتقداتهم، قادرة على مقاومة هجمات الشعور القومي ولكنهم كانوا قلة ضئيلة لم تستطع تغيير مجرى الحوادث أو تسبيب قلق فعلي للحكومات.
يولد الشعور العصبي الوحدة في الأمة بشكل رئيسي، ولكنه لا يولد قوتها بمفرده. تتولد قوة الأمة بشكل رئيسي من تخوفين اثنين من دون أن يكون أيهما بعيدا عن العقل: أولا الخوف من تفشي الجريمة والفوضى في الداخل، وثانيا الخوف من الاعتداء الخارجي.
إن الاستقرار الداخلي في مجتمع متحضر هو إنجاز كبير والدولة هي المسؤول الأول عن إيجاده. كم هو مزعج أن يجد المواطنون الآمنون أنفسهم في حالة دائمة من الخوف والجزع على ممتلكاتهم وأرواحهم؟ إذا ما جهز هواة المغامرات جيوشا خاصة للنهب والسرقة، أصبح الأمل بحياة راقية مستحيلا. لقد ولت ظروف هذه المغامرات مع القرون الوسطى وما كان مضيها بغير مقاومة شرسة. ولا يزال الاعتقاد شائعا حتى الآن، وخاصة بين الأثرياء الذين يستفيدون أكثر ما يمكن تحت ظل النظام والقانون، ان أي انخفاض في سلطة الدولة يقود إلى فوضى عامة. فينظرون إلى الاضطرابات كأنها طلائع الفتك الاجتماعي وترتعد فرائصهم لرؤية منظمات مثل الفيدرالية العامة للعمل (Confederation Generale du Travail) والاتحاد العالمي للعمال (International Workers of the World) يتذكر أصحاب ذلك الاعتقاد الثورة الفرنسية فيرتعدون ويتلمسون رؤوسهم إذ أنها الشيء الوحيد الذي يرغبون في المحافظة عليه. يرهبون بشكل خاص كل نظرية يبدو أنها تجد عذرا للجرائم الخاصة كأعمال التخريب (sabotage) والاغتيال السياسي. لا يجدون حماية من هذه المخاطر إلا في قوة الدولة ولهذا يعتقدون أن كل مقاومة للدولة هي شر بحد ذاتها.
يزيد الخوف من الاعتداء الخارجي الخوف من خطر داخلي. كل دولة هي معرضة في كل وقت لخطر الغزو من الخارج. لم تبتدع حتى الآن أي وسيلة لتخفيف ذلك الخطر سوى وسيلة التسابق في التسلح. ولكن السلاح الذي يراد به دفع الغزو الخارجي هو نفس السلاح الذي يمكن أن يستخدم للغزو. هكذا نجد الوسيلة التي يمكن أن تزيل الخوف من الغزو الخارجي هي ذات الوسيلة التي يمكنها أن تزكيه وبالتالي تجعل الحرب إذا ما وقعت بالفعل ذات مفعول هدام. وبهذا تنزل بالناس حالة من الرعب وتأخذ الدولة في كل مكان صفة المجالس الثورية (Comité du Salvt Public).
إن الشعور الذي تنمو منه الدولة هو شعور طبيعي، ولهذا نجد الخوف على الدولة معقولا في الظروف الحاضرة. بالإضافة إلى هذين المصدرين لقوة الدولة، هناك مصدر آخر ألا وهو الوطنية المتطرفة والمشابهة للغيرة الدينية.
الوطنية هي شعور مركب مبني على غرائز أولية ومعتقدات سامية. يدخل في تركيب الشعور الوطني حب المنزل والعائلة والأصحاب الذي يجعلنا حريصين جدا على المحافظة على وطننا من الغزاة، ومحبة غريزية نضفيها على المواطنين ونمنعها عن الأجانب، وافتخار بنجاح مجتمعنا الذي نشكل جزءا منه. يعتقد كل إنسان اعتقادا يزكيه حب الافتخار ويثبته التاريخ بأن وطنه يمثل تقليدا عظيما ويقف بجانب المثل التي تهم الجنس البشري كله. ولكن هناك بالإضافة إلى كل هذا، عنصر هو في الوقت نفسه أكثر نبلا وأكثر تعرضا للمهاجمة، هو عنصر العبادة، عنصر الإرادة المضحية، عنصر الفرح بذوبان حياة الفرد في حياة الأمة. يشكل هذا العنصر الناحية الدينية في الوطنية التي هي أساسية لقوة الدولة ويضع أفضل شيء في حياة الناس تحت لواء التضحية في سبيل الأمة.
يزكي التعليم العنصر الديني في الوطنية وخاصة دراسة تاريخ وأدب الأمة التي ننتمي إليها، لا سيما حينما تكون غير مرفقة بدراسة لتاريخ الأمم الأخرى وآدابها. يشدد في تعليم النشىء، في كل الأمم المتحضرة، على حسنات أمتهم وسيئات الأمم الأخرى. فيؤمن الفرد بأن أمته تستحق الدعم في أي نزاع، مهما كان سبب نشوئه، لأنها أمة متفوقة. يصبح هذا الإيمان طبيعيا جدا لدرجة أنه يجعل الناس تحتمل كل الخسائر. هذا الإيمان، الذي يشابه الإيمان في الديانات المقبولة بكل صدق وطواعية، هو نظرة شاملة للحياة مبنية على غريزة متعالية (sublimated) تدفع إلى التعلق بغاية تعلو كل غاية شخصية، غاية تحتوي على غايات شخصية متعددة كما لو كانت في حالة انصهار.
إن الوطنية كديانة هي غير مُرْضيَة إذ ينقصها الشمول الكلي. الخير الذي ترمي إليه الوطنية هو خير أمة الفرد منا وليس خير العالم أجمع. والرغائب التي توحيها الوطنية في الرجل الإنكليزي هي غير الرغائب التي تكشفها للألماني. ولذلك يصبح العالم الممتلئ بالوطنيين عالم نزاع وصراع. وكلما اشتد إيمان الأمة بوطنيتها اشتدت لا مبالاتها بنكبات الأمم الأخرى. عندما يتعلم الناس إخضاع خيرهم لخير مجموعة أكبر، لا يبقى أي سبب شرعي يمنعهم من معانقة الجنس البشري بأسره. ما يجعل ميول الناس إلى التضحية تتوقف عند حدود وطنهم هو في الواقع (admixture) دفعة من التكبر القومي. وهذه الدفعة تسمم القومية وتجعلها فيما إذا قيست بالمعتقدات التي تهدف إلى خلاص البشرية جمعا، ديانة دنيا. نحن لا نستطيع أن نهرب من الحقيقة، كلنا يحب وطنه أكثر من بقية الأوطان الأخرى، وليس من مبرر لهذا التهرب كما ليس من مبرر لافتراض أن من الضروري أن تحب كل النساء والرجال في العالم بشكل متساو. ولكن واجب كل ديانة على أقل تعديل، الديانة التي تحترم ذاتها، أن تقودنا إلى أن نعرف كيف نوفق بين محبتنا للأفراد غير المتساوية وبين شعورنا بإنصافهم، وأن نعرف كيف نجعل أهدافنا عالمية لنحقق مطالب يشترك فيها كل إنسان. لقد أدخلت المسيحية هذا التغيير على اليهودية، ومن الضروري أن يدخل هذا التغيير على أي وطنية دينية قبل ما تنفى من شرورها الأخرى.