الانضباط التنظيمي
محمد عبده
ذكرنا فيما سبق ، ونعيد التذكير والتأكيد على أن العمل الجماعي يعني اشتراك أكثر من فرد في إنجاز مهمة أو عدة مهام ، وإذا كانت هذه المهام متعددة وفي قطاعات متباعدة الأطراف (قطر – محافظة – مركز – قرية – نجع ) فإن إنجاز هذه المهمة في أقل وحداتها يحتاج إلى عمل جماعي موصوف بالتنظيم ومُحكم بآليات تضمن تحقيقها.
ولأن النشأة والبيئة المحيطة لها تأثيرها على الفرد الذي هو أداة لتحقيق هذه المهام فإنه من المتوقع أن يختلف أسلوب كل فريق عمل في هذه القطاعات تبعاً لهذه النشأة ، وربما اختلفت المناهج وتباينت الرؤى لكل فريق ، وحفظاً على وحدة الصف وتحقيقاً لأكبر قدر من الاستقرار للعمل ، ومنعاً لتدخل الأهواء ، وتغليباً لمصلحة الدعوة العامة على مصلحة الشخص الخاصة فإن الدعوة وضعت قوانيناً ونظماً ولوائحاً تضبط العمل وتسير فروعه المختلفة من أكبر وحدة تنظيمية في القطر إلى أصغر وحدة تنظيمية في النجع ، وعلى الجميع أن يلتزم بها ويطوع نفسه على نظامها واحترامها.
فمن صور الانضباط التنظيمي أن يتقبل كل فرد داخل فريق العمل الدعوي موضع الجندية بنفس الروح والهمة العالية التي يستقبل بها وضع المسئولية والقيادة ، وألا يتبرم أو يخرج على الصف أو يضيق صدره أو يتغير وجهه ، وألا يقل عطاؤه وإتقانه للعمل إذا تغيرت مهمته وتحول من موضع المسئولية إلى الجندية ، فإن ذلك من صميم العمل التنظيمي ، وغضبه أو تذمره أو خروجه على الصف يكشف خللاً واضحاً في نيته وصدق توجهه في العمل الدعوي.
ومن صور الانضباط التنظيمي الالتزام باللوائح والقوانين المنظمة للعمل الدعوي والتي وضعتها الجماعة لتحقيق ذلك ، وألا يطلب أي فرد فيها استثناءاً لنفسه يراه واجب التنفيذ لعطائه المتميز في إنجاح الأنشطة التي كُلف بها ، أو لإمكاناته العالية في الإدارة والإبداع ، أو لثقته الزائدة في نفسه التي تجعله يرى أن مصلحة العمل تستوجب ذلك وغيره.
ومن صور الانضباط التنظيمي الالتزام بعرض رأي الجماعة في الموضوعات التي تطرح على الساحة خاصة على المنابر الإعلامية أو التصريحات الصحفية ممن لهم صفة قيادية داخل الصف ، أو ممن يعتبرهم الإعلاميون قياديين وإن لم يكونوا كذلك حتى لا يُحدث بلبلة في الصف ، أو يختلط الأمر على المتلقي ، وتظهر الجماعة أمام الناس وكأنهم متناحرين مختلفين.
ومن صور الانضباط التنظيمي ألا تُحل الخلافات ومشاكل العمل الدعوي على الملأ وفي جو من التشاحن أو التلاسن ، بل يجب أن تُحل الخلافات وفق الأطر العامة للعمل ومن خلال القنوات الشرعية لذلك ، لا اعتلاء المنابر الإعلامية والصحفية وعرض وجهات النظر الشخصية وازدراء وجهة النظر الأخرى ، بل يجب النزول والاحتكام إلى نظم الجماعة ولوائحها والرضا بما تحكم به اللجنة الموكول إليها البت في هذا الخلاف.
ومن صور الانضباط التنظيمي الالتزام التام باختيارات الجماعة الفقهية التي تبنتها ، والتي لها علاقة مباشرة في تنظيم العمل وتسييره ، كاعتبار الشورى ملزمة في جميع مستويات العمل ، وإن كان هناك رأي بأنها معلمة وغير ملزمة ، فاختيار الجماعة الفقهي في هذه المسألة واجب التطبيق ، فلا يجوز أن يخالف أحد رأياً استقرت عليه الشورى وتبنته الجماعة بحجة أن الشورى معلمة غير ملزمة ، أو أنه لم يقتنع به ، أو أنه مغاير لوجهة نظره أياً كانت مكانة هذا الشخص التنظيمية.
ومن صور الانضباط التنظيمي السمع والطاعة للمسئولين في غير معصية ، فلا يُعقل أن يكون هناك عمل جماعي منظم أفراده لا يطيعون قادتهم ، والباب أمام تحقيق هذا النوع من الانضباط هو الثقة المتبادلة بين القادة والجنود ، فعلى الجندي الذي لا يسمع لقائده لشيء في نفسه أن يُصارحه به وأن يساعده في تجاوزه ، وعلى القائد أن يسعى للحصول على تلك الثقة من جنوده.وأن يبذل من الجهد ما يجعلهم مطمئنين إليه.
وامتثال الأمر الصادر من القائد أو المسئول وإنفاذه في التو والحال في العسر واليسر في المنشط والمكره من ضروريات الانضباط التنظيمي ، والجماعة لن تستطيع أن تُنجز عملاً أو تحقق هدفاً وأفرادها لا يطيعون أوامر قادتهم أو يترددون في تنفيذها أو يقتلونها بحثاً وجدلاً وتنظيراً ، فهذا كله لن يُنجز عملا " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "1
ومن صور الانضباط التنظيمي إتباع الأعراف المتبعة في تسوية أي خلاف فكري أو دعوي أو شخصي باتباع التسلسل القيادي لذلك وعدم تجاوزه أو الخروج به إلى وسائل الإعلام بحجة الانفتاح وأن هذا أمر صحي ، فأي فائدة ستعود من ذلك ، وأي عقل يقبل أن تناقش مشاكله على الملأ وبهذه الصورة العلنية التي تزيد هوة الخلاف لا تضييقه؟!!!!
ومن صور الانضباط التنظيمي الالتفاف حول القادة والمسئولين وتوحيد الصف وعدم الانسياق وراء دعاوى التفرق وتمزيق الصف بحجة الإبداع والتطور ، وما الضير من التطوير والإبداع من خلال العمل المؤسسي المنظم ومن خلال اللوائح الموضوعة لذلك وبعيداً عن الرغبة في الظهور وحب الشهرة.
فإن من أخطر ما يهدد وحدة الصف أن يستجيب البعض للتشكيك في قادتهم ، ويقبلوا التهكم عليهم ، ويرضوا ببعض التقسيمات التي يرددها من يريد فتنتنا وتمزيق وحدتنا ، وإضعاف قوتنا ، كمن يقسم الجماعة لحرس قديم وآخر جديد ، شباب وشيوخ ، قبلي وبحري ، رجال ونساء ، وغيرها من التقسيمات التي لا ينتبه إليها بعض الشباب المتحمس.
ومن صور الانضباط التنظيمي المحافظة على وحدة الصف وروح العمل الجماعي فيد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، وأن ما نكره في الجماعة خير مما نحب في الفرقة ، وكدر الجماعة ولا صفاء الفرد.
والعمل الجماعي المنظم مبني على قيادة مسئولة لها حق الطاعة ، وأفراد عاملون مترابطون فيما بينهم ، مخلصون لدعوتهم التي رضوا بأن يكونوا جنوداً في صفوفها ، أي أن هناك شراكة بين القادة والجنود ، هذه الشراكة قائمة على وحدة الفكر ، ووحدة المقصد ، وقد يتفق هذين الشريكين ، وربما يختلفا في بعض الأحيان ، ولكن تبقى الأخوة والوحدة ركيزتان لا يمكن التفريط فيهما عندما تصدق النفوس وتخلص النوايا ، وتبقى الشورى الملزمة هي الفيصل في حسم أي خلاف ، وكمال الطاعة المبصرة هي التي يجب أن ينزل عليها كلا الطرفين.
ومن صور الانضباط التنظيمي أن يعرض - كل صاحب فكرة متطورة ، أو برنامج جديد يرى أن فيه مصلحة للجماعة- على القيادة من خلال التسلسل الإداري المعمول به ، والمنظم لتلك الآلية وله كل الحق في عرض فكرته من جميع جوانبها ، وعلى القيادة أن توفر له هذا المناخ الحر الذي يُعبر فيه الفرد عن أفكاره وبرامجه مع عدم التشكيك في نواياه.
وعلى صاحب الفكرة أو المقترح أن لا يلزم قادته أو يسعى لإجبارهم أو يُخيرهم بين تطبيق فكرته والأخذ برأيه وبين الخروج عن الصف ، والانشقاق عليه ، فلو أن كل صاحب فكرة - رأى فيها صالحاً للجماعة- لم يوافق عليها تذمر واعترض ووصف الرافضون لفكرته بضيق الأفق ، والتسلط والجمود ، وأنهم ضد الإبداع والتطور ، وجعل من ذلك سبباً للخروج منها ، وتكوين جبهة مناهضة مدعياً أن الحق معه ولابساً ثوب المظلوم المضطهد مستجلباً عطف الآخرين ، لما كان هناك جماعة ولا تنظيم ولا عمل ، والحقيقة أنه ما اعترض ولا خرج على إخوانه وما فعل ذلك إلا انتصاراً لرأيه ، وتحيزاً لفكرته.
وإن مما يجب أن يلتزم به الجميع أن يتجنبوا الأساليب الحزبية ونعني بها التحزب لأشخاص بعينهم أو التعصب لأرائهم في مسائل مختلف فيها ، بل يجب أن يلتزم الجميع للرأي الذي انتهت إليه الشورى ، لما يترتب على عدم الالتزام من متاعب وتصديع للصف ، وتعويق للعمل.
ومن صور فقه الانضباط التنظيمي أن يعلم الأخ أن هناك دوائر مختلفة للشورى وليس من الضروري أن يتم تداول كل الأمور في كافة المستويات الشورية حتى تصل لأقل وحدة تنظيمية بل إن هناك قضايا يتم مدارستها وتقليبها على كافة الأوجه والاحتمالات وتمحيص عواقبها ونتائجها الايجابي منها والسلبي في مستوى أعلى ثم تنزل إلى المستويات الأدنى للتنفيذ ، فيجب هنالك السمع والطاعة وعدم إضاعة الوقت والجهد في مدارستها مرة أخرى ، مع كفالة الحق لأي فرد أن يبدى ملاحظاته وآراؤها حولها ، ويتقدم بذلك رسمياً إن أراد ، فإن جاء الجواب بالسلب أو الإيجاب طويت الصفحة وانخرط الجميع في التنفيذ الموافقون والمعارضون.
ومن صور الانضباط التنظيمي الالتزام التام بكل مواعيد العمل الدعوي وأنشطته وعدم التخلف عنه إلا بعذر شرعي يقبله الله تعالى قبل أن يقبله المسئولين ، فإن هذا الالتزام كفيل بإنجاح العمل وتميزه ، وصبغة بصبغة الجدية والانضباط ، أما التفلت والاستهتار فيعني إهدار الوقت والجهد دون فائدة.