وردت كلمة البخل في القرآن ووردت كلمة الشح ... فهل هناك فرق دلالي بينهما مع أنهما جميعا تدلان على منع ما عند الإنسان حرصا عليه ؟؟ ..
إن كلتا الكلمتين تجمعها بالأخرى دلالة المنع والحرص ... ولكن التأمل .. وما أدراك ما التأمل ؟؟؟؟ فإنه مفتاح الخيرات مادام مرتبطا بالحق ومضبوطا بضوابط الشرع .... أقول: التأمل في الاستعمال القرآني المبارك للكلمتين يقود إلى فرق دقييق ومغزى عميق ....
وتعالوا نذكر آية ذكر فيها البخل وأخرى ذكر فيها الشح :
قال تعالى:
((هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد/38]
أن الآية واضحة في ذم البخل وهو هنا مقابل للعطاء ؛ لأن الله دعاهم إلى الإنفاق الذي هو عطاء المال فمنهم من بخل ...
والذي يدل على أنه مقابل للعطاء قوله تعالى:
((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) [الليل/5-10]
إذن هو إجراء عملي مقابل للعطاء .... يقوم على المنع والحرص كما يقوم العطاء على البذل والتضحية ..
وأما الشح فخذوا هذه الآية:
((أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراًً )) [الأحزاب/19]
إن الشح ههنا هو خلق في النفس وطبيعة تسيرها وتوجه طاقاتها نحو المنع ... فهو مثل السخاء الذي هو خلق نفسي يوجه النفس نحو العطاء ...
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى:
((((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر/9]
فهو هنا بعد أن ذكر العطاء والإيثار أشار إلى أن ذلك ناتج عن أن هذا المؤثر قد تجنب الشح الذي هو شيء نفسي فقال : ((خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) .. وتأملوا طويلا كلمة ((شُحَّ نَفْسِهِ)) إذ أضاف الشح إلى النفس باعتباره خلقا متوغلا في النفس يحثها على المنع كما أن السخاء هو خلق عميق فيها يحثها على البذل ..
وهذا المعنى أشار إليه المفسرون بشيء من الإبهام لكن وضحه الإمام ابن القيم بقوله في الوابل الصيب ص49: " والفرق بين الشحّ والبخل أنّ الشحّ هو شدّة الحرص على الشيء والإحفاء في طلبه والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبّه، وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشحّ، والشحّ يدعو إلى البخل، والشحّ كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحّه، ومن لم يبخل فقد عصي شحّه، ووقي شرّه، وذلك هو المفلح { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }" .