ميزان الصداقة
المتأمّل في هذا الدين يجده أتى بكلّ ما يسعدُ المسلمَ في حياته ومعاده، فهو يوجّه أفراده دائمًا إلى تعميق الصّلة والأخوة بينهم، وتثبيت أواصر المودّة والمحبة، وغرس أسس الترابط والتآلف بين القلوب، ولمّ شمل الأفراد والتقريب بينهم. وباعتبار أن المؤمنين في المجتمع الإسلامي إخوة فلا وجه إذًا لكلّ ما يعكّر صفو العلاقة والأخوة القائمة في صدورهم، بل إن عليهم أن يعملوا على رسوِّها وثباتها ونمائها، وينأوا بِها عن كل ما يخدشها أو يعمل على زعزعتها وعدم استقرارها، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
وينبغي أن تكون هذه الرابطة على أساس الحب في الله والبغض في الله، كما قال : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)) وذكر منها: ((وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله)) متفق عليه.
وهذه المحبة الصادقة الصافية في الله تعالى ينتج عنها علوُّ المنزلة ورفعةُ الدرجة يوم القيامة، ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله ذكر منهم: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) متفق عليه.
فهذان الرجلان ـ كما يقول أحد شراح الحديث ـ تمكنت بينهما أواصر المحبة والصداقة، صداقة قوية وخالصة لله تعالى، لم يعلق بِها شيء من شوائب النفاق والتملق وابتغاء المنفعة وتحصيل المصلحة الدنيوية، لا يؤثر فيها غنى، ولا يقطعها فقر، بل تزداد يومًا بعد آخر وثوقًا وإحكامًا ورسوخًا وثباتًا، سِرُّهما في طاعة الله تعالى، وجهرهما في مرضاة خالقهما، لا يتناجيان في معصية، ولا يُسِرَّان منكرًا، يسعيان بأقدامهما إلى طاعة الله تعالى، لا يمشيان إلى فسق أو فجور؛ لأن هذين جمعت بينهما رابطة الدين وحبه، لم يجتمعا لزيادة رصيدهما من حطام الدنيا، أو السعي للوصول إلى درجة عالية أو مرتبة دنيوية زائلة.
فهنيئًا لهذين اللذين يزداد شرفهما حين يدنيهما الله تعالى في ذلك اليوم العظيم، ((ويقول: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلّ إلا ظلي)) رواه مسلم.
إن هذا الشرف وتلك المكانة العالية ليست بالأمر الهين، ولا المطلب السهل، إنها صعبةُ المُرْتَقى، عسيرة المُبْتَغى إلا على أناس زهدوا في هذه الحياة وفي زخارفها وزينتها، باعوا قصورها ونعيمها وملاذها، وراحوا ينشدون مرضاة الله تعالى، اشْرَأَبّت نفوسهم، وتطلعت قلوبهم، وارتفعت هممهم إلى الجزاء الأخروي، إلى ما أعده الله تعالى للمتحابين فيه من المنازل العالية والدرجات السامية، يطمعون في محبة الله تعالى لهم ورضاه عنهم، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ـ أي: على طريقه ـ ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربها عليه ـ أي: تقوم بِها ـ؟ قال: لا، غير أني أحببتُه في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
بل إن النبي بشَّرهم بعلو منازلهم وتميّزهم عن غيرهم وسبقهم لمن سواهم وحصولهم على ما لا يحصل عليه أحد، ففي مسند الإمام أحمد أنه قال مخاطبًا أصحابه رضي الله عنهم: ((يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله))، فجاء رجل من الأعراب من قاصِيَة الناس، وأشار بيده إلى رسول الله فقال: يا نبي الله، ناس من الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! صِفهم لنا. فسُرّ وجهُ رسول الله لسؤال الأعرابي وقال: ((هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورًا وثيابهم نورًا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد.
فأي تشريف وتكريم أسمى من هذا وأرفع منه؟! يحظى به من سمت نفوسهم، وصفت قلوبهم، وفاضت بالحب الإيماني الصادق في الله عز وجل، إنها دعوة نبوية وحفز لتأسيس صداقة قوية، تجمع القلوب على حب صادق خالص لله تعالى، لما لهذا الحب من نتائج إيجابية في الدنيا والآخرة، تظهر آثارها بين أفراد المجتمع المسلم، فهم متآلفون متواصلون، ضمتهم هذه الرابطة القوية، وحوتهم تلك العلاقة الإيمانية، يسعدون بسعادة أحدهم، ويحزنون لحزنه، يستبشرون بنجاحه، ويتألمون لألمه وإخفاقه.
أما الصداقة الزائفة، والمحبة المبنية على تحصيل المصالح الدنيوية وجلب المنافع العاجلة، فإن الحب فيها مصطنع مزيف، إذا هبت عليها رياح المصلحة فرقتها ومزقتها؛ لأنها لم تبن على أساس راسخ ولا أصل ثابت.
إن كل صداقة في غير الله تعالى تنقلب يوم القيامة عداوة، قال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فالأصدقاء في هذه الحياة يعادي بعضهم بعضًا يوم القيامة إلا أصدقاء الإيمان، الذين بنوا صداقاتهم على الحب في الله والبغض في الله.
ويتضح ذلك يوم القيامة، حين تظهر الندامة والحسرة والأسى على تلك العلاقة الزائفة في الدنيا، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
عدوك من صديقك مستفادُ**** فأقلل ما استطعت مِن الصحابِ
فإن الداء أكثـر مـا تراه **** يكون من الطعـام أو الشرابِ
وإنك قلمـا استكثرت إلا**** وقعت على ذئـابٍ في ثيـابِ
فدع عنك الكثير فكم كثيرٍ**** يعـابُ وكم قليـل مستطابِ
وما اللُّجَج الملاحُ بمروياتٍ**** وتَلقَى الرِّيَّ في النطفِ العذابِ
للشيخ : عبد الكريم العمري ــ المدينه المنوره