مشاكل البيئة وتلوث
مشكلات البيئة وتلوث الوسط المحيط مشكلات عالمية، يزداد تفاقمها وتجذرها في بلدان العالم الثالث، حيث الفقر والتخلف والمرض والتزايد السكاني وانتفاء الوعي البيئي.
وفي الواقع، تنهمك دول العالم في عملية التنمية تلبية لاحتياجات شعوبها، وللقضاء على البطالة المتعاظمة ومعالجة الواقع الاقتصادي المتردي. وما من دولة واحدة تنظر بجدية إلى المستقبل والأخطار المحيقة بالبيئة والوسط المحيط، خاصة بسبب استخدام المبيدات الكيميائية الزراعية، التي يُروَّج لها، وتُستخدَم أحياناً استخداماً غير عقلاني بعيداً عن الانضباط والرقابة الصحية والبيئية.
لقد تزايد حجم استهلاك المبيدات في النصف الأخير من القرن العشرين، وارتبط ذلك بشعار (زيادة الإنتاج)، فبلغ حجم ما استهلكته الدول النامية من المبيدات في عقد السبعينيات 20% من الإنتاج الكلي العالمي، وتزايد هذا الاستهلاك في الفترة المحصورة بين عامي 1974 و1980 بنسبة 15% فقط، ثم تزايد في الثمانينيات والتسعينيات عدة أضعاف عمَّا كان في السبعينيات، واكتسب في بعض الأحيان طبيعة هستيرية، تفاخرت من خلالها الجهات المعنية الإدارية والفنية بسعة المساحات المعاملة وكمية المبيدات الزراعية المستهلكة في الحملات المنظمة تحت أسماء فضفاضة شتى (الإجبارية، والوطنية... إلخ).
لقد جرى ذلك بجهل مطبق، أو تجاهل مقصود للنواحي البيئية وقواعد سلامة الإنسان والحياة البرية والبيئة المحيطة، خلافاً لألفباء إدارة وقاية المزروعات وحمايتها من الآفات. فكانت هذه المكافحات عبثية، جرت دونما تقدير لما ينتج عنها من عواقب وخيمة على البيئة الحية عموماً.
في البداية، حقق استخدام الـDDT نجاحاً ملموساً وسيطرة على بعوض الملاريا، لكن بعد عقدين من الزمن، وتحديداً في عقد السبعينيات، عادت لتظهر من جديد سلالات شرسة من بعوض الملاريا، لا تؤثر فيها المبيدات لاكتسابها المناعة والمقاومة. ووفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، حصد وباء الملاريا بين عامي 1972 و1982 مليون شخص في القارة الإفريقية، كما ظهرت إصابات ووفيات في الهند ودول آسيوية أخرى.
لقد أقحم الإنسان المواد الملوِّثة في كل مكان (التربة، المياه، الهواء، الغذاء، طبقة الجو العليا)، فالتربة ملوَّثة بشتى أنواع السموم، التي ابتدعها تقدم العلوم الكيميائية (المخصِّبات، الأسمدة، المبيدات بأنواعها. والبيئة ملوَّثة بالنفايات الصناعية التي تُقذف في الطبيعة والأقنية والمقالب، وتأخذ طريقها لتلوِّث التربة والمصادر المائية (أنهار، سدود، بحيرات، شطآن، وأعالي البحار). وأدَّت هذه الحالة من التلوث إلى اغتيال وإبادة أنواع وأعداد لا حصر لها من الأحياء المائية والحيوانات البحرية.
أنهار عديدة في العالم أُعْدِمَت فيها الحياة، إذ سجَّل لنا التاريخ حدث صيف عام 1989 الكارثي بالنسبة إلى أعالي نهر الراين، عندما تسرَّبَ مبيد حشري من معمل مبيدات سويسري، مما أدَّى إلى إبادة نحو 90% من أشكال الحياة في النهر. وأدَّت حرب الأمريكان في البلقان إلى اغتيال الحياة في نهر الدانوب، وهي الحرب العدوانية على البيئة والطبيعة التي جرى التعتيم على حجم الأضرار التي خلـَّفتها.
وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أدى استخدام مبيدات الأعشاب في مزارع الرز في جمهوريات جنوب الاتحاد السوفييتي السابق إلى القضاء المبرم على أنواع السمك النادر والفاخر التي كانت تقطن في الأنهار والبحيرات الجنوبية، مما جعل الناس ومعهم الفنيون يرددون القول المشهور (أكل الرزُّ السَّمكَ).
وتأتي الإحصائيات من الولايات المتحدة لتؤكد أن ثلث الآبار الجوفية الاحتياطية لمياه الشرب ملوَّثة بالمبيدات الكيميائية الزراعية السامة.
وفي الحقيقة، أدَّى استخدام الكيمياويات الزراعية خلال النصف الثاني من القرن العشرين إلى حدوث اختلال في ديناميكية التوازن الأبدي الموجود في الطبيعة بين جميع الكائنات الحية.
وتحصل أحياناً حالات تلوث كيميائي خطير على غرار ما حصل من معمل بهوباي في الهند، وتلوث مدينة سيفيزو الإيطالية قبل ذلك. وتؤكد الإحصائيات تزايد المعدل السنوي لموت بني البشر نتيجة استنشاق المواد السامة الملوِّثة للجو المتزايدة باستمرار، ففي عام واحد هو عام 1986 ارتفع هذا المعدل بنسبة 7.6% مقارنة بنسبته في عام 1985.
وحديثاً ظهر نوع من التلوث بالمواد المشعة، مثل التلوث الناجم عن انفجار محطة تشيرنوبل النووية، وينتج عن مثل هذا التلوث الموت المباشر والإصابة بحالات مرضية خطيرة ومستعصية تؤدي هي أيضاً إلى الوفاة. ومثاله أيضاً التلوث الناجم عن حربي الخليج الثانية والثالثة، اللتان سببتا تلوثاً باليورانيوم المنضَّب طال أرض العراق وشعبه، ولم يوفـِّر حتى الغزاة المعتدين، الذين ظهرت عليهم أعراض مرضية مزمنة وخطيرة، دُعيت أعراض (مرض حرب الخليج).
وتقرع الدراسات الجارية اليوم في الغرب ناقوس خطر ما يُسمَّى التلوث الغذائي، فأنواع الأطعمة التي يتناولها إنسان اليوم هي واحد من مسببات السرطان، إذ تقول (التايمز) في تقرير لها (إن الوجبات الغربية قاتلة)، وتخص بذلك الوجبات السريعة والمأكولات الغربية المعلـَّبة واللحوم والأسماك المثلجة الرائجة في دول العالم الثالث.
إن الحديث عن التلوث الغذائي يبدأ ولا ينتهي، إذ تغيب المعطيات الخاصة باللحوم الحمراء والبيضاء والحليب المجفف والأجبان والخضار والفواكه التي تورِّدها الشركات الغربية المتخصصة بالصناعات الغذائية إلى الدول الفقيرة، فلا نعرف نوع الأعلاف المستخدمة للحصول عليها أو نوع الملوثات الكيميائية المتسربة إليها أو الهرمونات التي حُقنت بها الحيوانات والطيور أثناء تربيتها وتسميتها وزيادة وزنها.
وتحذر التقارير الفنية من أن كثيراً من العلل والأمراض التي تصيب مواطني دول العالم الثالث ناتجة عن تناول تلك المنتجات الملوَّثة، وأخطر ما في الأمر أن معظم هذه المواد الغذائية، تعبر الحدود تهريباً وفي غفلة من القوانين، دون أن تخضع لأي رقابة صحية أو غذائية أو مطابقتها مع المواصفات القياسية.
وهنا يجب ألا يغيب عن البال أن الزبدة الصناعية والحليب المجفف والحلويات الصناعية وسلسلة طويلة من المنتجات الصناعية الغذائية، التي تُعد في العالم الثالث منتجات حضارية طيِّبة المذاق رخيصة الثمن، هي منتجات بالغة الضرر على صحة متناوليها. وتسدل وسائل الإعلام الغربية ستاراً كثيفاً على التقارير التي تعالج مضار الأغذية الغربية هذه، كي لا ينعكس ذلك سلباً على المصالح التجارية لصانعي الغذائيات الجاهزة أو نصف الجاهزة.
ورغم أن المشكلة تكمن في تناقض مصالح الاحتكارات المصنعة لهذه المنتجات مع صحة المواطنين الذين يعيشون في الدول الغربية، إلا أنها في دول العالم الثالث أعقد وأعمق بكثير، فهنا يسود الفقر الثقافي والتربوي والصحي والبيئي، إضافة إلى الفقر المادي وتدني مستوى المعيشة.
لقد اكتشفت بعض الدول الأوربية ظاهرة التلوث بالكلورايد، الذي صار أحد عوامل تلويث حليب الأبقار وحليب الأمهات المرضعات. وحملت الأخبار نبأ تلوث الشواطئ السياحية غرب الجزائر، وهو الأمر الذي دفع إلى طرح أسئلة كبيرة وإشارات استفهام عن السبب: هل هو ناجم عن نفايات مجهولة قذفتها البواخر في عرض البحر وحملتها الأمواج إلى تلك الشواطئ الجميلة؟ أم هو ناجم عن انصباب مياه الصرف والمجارير الحاملة لملوثات جرثومية وكيميائية؟ أم إن الزلزال الذي ضرب الجزائر أظهر إلى السطح ما خبأته الأيام من ملوثات ضارة وممرضة.
لقد آن لإنسان اليوم أن يعرف الحقيقة، لكي يضع حداً لما فعله إنسان الأمس الاستغلالي الذي قهر الطبيعة، وكي يعرف مكانه الحقيقي على هذا الكوكب، وإلا فإن أمله بالاستمرار على قيد الحياة سيكون ضئيلاً، فتصرفات هذا الإنسان أخذت تماثل تصرفات الطفيلي الفائق النجاح oversuccessful parasite، الذي يحكم على