يا اخواني في المنتدى سارعوا للخيرات
عمرة في رمضان
الشيخ محمد الوزاني
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
هذا بحث مختصر جمعت فيه ما تيسَّر من طرق حديث فضل العمرة في رمضان، وعقَّبت ذلك بالكلام على مسألتين ورد ذكرهما في الحديث.
الأولى: تحقيق معنى كون العمرة في رمضان تعدل حجَّة، وهل يعني ذلك أنَّها تجزئ عن الحجِّ وتسقطه.
الثَّانية: دخول الحجِّ في قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيل﴾ [التوبة 60].
وعليه فإنَّه يجوز إعطاء من يريد الحج ولم يقدر عليه من مال الزَّكاة.
عن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجَّ، فقالت امرأة لزوجها حجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: فحجني على ناضحك، قال: ذاك يعتقبه أنا وولدك، قالت: حجني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس سبيل الله، قالت: فبع تمرتك، قال: ذاك قوتي وقوتك، فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكَّة أرسلت إليه زوجها، فقالت: اقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني سلام الله وسَلْهُ ما تعدل حجَّة معك؟ فأتى زوجُها النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنَّ امرأتي تقرئك سلام الله، وإنَّها كانت سألتني أن أحجَّ بها معك، فقلت لها: ليس عندي ما أحجك عليه، فقالت: حجني على جملك فلان، فقلت لها: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: «أَمَا أَنَّكَ لَوْ كُنْتَ حَجَجْتَهَا فَكَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ»، فقالت: حجني على ناضحك، فقلت: ذاك يعتقبه أنا وولدك، قالت: فبع تمرتك، فقلت: ذاك قوتي وقوتك، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا من حرصها على الحجِّ، قال: وإنَّها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجَّة معك، قال: «اقْرأْهَا مِنِّي سَلاَم اللهِ وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدلُ حَجَّة مَعِي عُمْرَة فِي رَمَضَانَ».
أخرجه أبو داود (1/609) وابن خزيمة (4/361) والحاكم (1/658) والبيهقي (6/164) والطَّبراني (12/207) والضَّياء في «المختارة» (9/514) من طريق عامر الأحول عن بكر بن عبد الله المزني.
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخين ولم يخرِّجاه».
وتعقَّبه الذَّهبي بأنَّ عامرًا الأحول مُخْتَلَفٌ فيه، ولم يحتجَّ به البخاري، وقال فيه الحافظ: «صدوق يخطئ» [«التقريب» (1/463)].
ومثل هذا يحسن حديثه.
وهذه المرأة الَّتي لم تُسَمَّ الأظهر أنَّها أمُّ سنان، ويحتمل أن تكون غيرها؛ لأنَّه قد وقع نظير هذه القصَّة لثلاث نساء غيرها وهنَّ: أمّ معقل وأمّ سليم وأمّ طليق.
قال الحافظ: «ولا معدل عن تفسير المبهمة في حديث ابن عبَّاس بأنَّها أمّ سنان أو أمّ سليم، لما في القصَّة الَّتي في حديث ابن عبَّاس من التَّغاير للقصَّة الَّتي في حديث غيره، ولقوله في حديث ابن عبَّاس أنَّها أنصاريَّة وأمَّا أمُّ معقل فإنَّها أسدية» [«الفتح» (3/604)].
* حديث أمِّ سنان:
رواه البخاري (2/659) ومسلم (2/917) وابن الجارود (1/133) والضياء في «المختارة» (5/77) من طريق يزيد بن زريع، أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء به.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لما رجع النَّبي صلى الله عليه وسلم من حجَّته، قال لأمِّ سنان الأنصارية: «مَا مَنَعَكِ مِنَ الحَجِّ»، قالت: أبو فلان، تعني زوجها، كان له ناضحان حجَّ على أحدهما والآخر يسقي أرضًا لنا، قال: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي».
هناك امرأتان تكنَّيان أمُّ سنان كلتاهما صحابيَّتان؛ إحداهما أنصاريَّة وهي صاحبة هذه القصَّة، وزوجها أبو سنان، والأخرى أسلميَّة، قال ابن سعد: «أسلمت وبايعت بعد الهجرة وشهدت خيبر وكانت تداوي الجرحى» [«الطبقات» (8/292)].
* حديث أمِّ سليم:
أخرجه ابن حبان (9/12) من طريق يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبَّاس قال : جاءت أمُّ سليم إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: حجَّ أبو طلحة وابنُه وتركاني، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّ سليمٍ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّة».
وهذا الإسناد ضعيفٌ؛ لضعف يعقوب بن عطاء لكنَّه لم يتفرَّد به، بل تابعه ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عبَّاس عند ابن سعد (8/430) والطَّبراني في «الكبير» (11/184).
ولفظه: «إنَّ عمرة في رمضان تجزئ من حجة».
وأخرجه ابن سعد (8/430) من طريق معقل بن عبيد الله عن عطاء عن أمِّ سليم مرسلاً.
* حديث أم مَعْقِل الأسديَّة:
أخرجه أبو داود (1/608) والتِّرمذي (3/276) وابن خزيمة (4/72) والبيهقي (6/274) من طريق محمَّد بن إسحاق عن عيسى بن معقل بن أبي معقل الأسدي ـ أسد خزيمة ـ أخبرني يوسف بن عبد الله ابن سلام عن جدَّته أمِّ معقل، قالت: لمَّا حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أمر النَّاس أن يتهيَّئوا معه فتجهَّزنا فأصابتني هذه القرحة الحصبة أو الجدري، قالت: فدخل علينا من ذلك ما شاء الله فأصابني مرض وأصاب أبا معقل، فأمَّا أبو معقل فهلك فيها، قالت: وكان لنا جمل ينضح عليه نخلات لنا، وكان هو الذي نريد أن نحجَّ عليه، قالت: فجعله أبو معقل في سبيل الله، قالت: وشغلنا بما أصابنا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فرغ من حجَّته جِئت حين تماثلتُ من وجعي، فدخلت عليه، فقال: «يَا أُمَّ مَعْقل مَا مَنَعَكِ أَنْ تخرجي معنا فِي وَجهنا هَذَا»، قالت: قلت: والله لقد تهيَّأنا لذلك فأصابتنا هذه القرحة فهلك فيها أبو معقل وأصابني منها مرض فهذا حين صححت منها وكان لنا جمل هو الذي نريد أن نخرج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله، قال: «فَهَلاَّ خَرَجْتِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ، أَمَا إِذْ فَاتَتْكِ هَذِهِ فَاعْتَمِرِي عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهَا كَحَجَّةٍ»، قال: فكانت تقول: الحجّ حج والعمرة عمرة، وقد قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري أخاصَّة لي لما فاتني من الحجِّ أم هي للنَّاس عامَّة.
قال يوسف: فحدَّثت بهذا الحديث مروان ابن الحكم وهو أمير المدينة في زمن معاوية، فقال: من سمع هذا الحديث معك منها؟ فقلت: معقل بن أبي معقل، وهو رجل بدوي، قال: فأرسل إليه مروان فحدَّثه بمثل ما حدَّثته، فقلت: يا مروان إنَّها حيَّة في دارها بعد فوالله ما اطمأنَّ إلى حديثنا حتَّى ركب إليها في النَّاس فدخل عليها فحدَّثته بهذا الحديث.
وهذا الإسناد ضعيف بسبب عيسى بن معقل، فقد قال فيه الحافظ: «مقبول»، ومحمد بن إسحاق مدلِّس وقد عنعن.
غير أنَّ للحديث طرقًا أخرى:
فقد أخرج النَّسائي في «الكبرى» (2/472) والحميدي (2/384) وأحمد (4/35) والطبراني (22/286) وابن أبي شيبة (3/158) من حديث سفيان عن محمد بن المنكدر، قال: سمعت يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار وامرأته: «اعْتَمِرَا فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ لَكُمَا كَحَجَّةٍ».
وأخرجه أبو داود (1/608) وأحمد (6/405) من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن: أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أمِّ معقل وفيه: قالت: يا رسول الله إنِّي امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزئ عنِّي عن حجَّتي؟ قال: فقال: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تُجْزِئُ لِحَجَّتِكِ».
وإبراهيم بن مهاجر، قال الحافظ: «صدوق، ليِّن الحفظ».
وأخرجه أحمد (6/406) والنسائي في «الكبرى» (2/472) من طريق معمر عن الزُّهري عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن بن الحرث بن هشام عن امرأة من بني أسد بن خزيمة يقال لها أمُّ معقل، قالت: أردت الحجَّ فضلَّ بعيري فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «اعْتَمِرِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَعْدلُ حَجَّة».
وأخرجه أحمد (4/210 ـ 6/375) وابن قانع في «معجمه» من طريق هشام: ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن معقل بن أبي معقل الأسدي، قال أرادت أمِّي الحجَّ وكان جملها أعجف فذكر ذلك للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ».
وأخرجه أحمد (6/504) والبيهقي (4/346) والطَّبراني (25/155) وابن عساكر (15/53) من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن عن أم معقل أنَّها قالت: يا رسول الله إنِّي أريد الحجَّ وإنَّ جملي أعجف فما تأمرني؟ قال: «اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدلُ حَجَّة».
قال الألباني رحمه الله: «وهذه أسانيد صحيحة وإن اخْتُلِفَ فيها على يحيى، هل هو من سند أم معقل أو ابنها معقل، وسواء كان الصَّواب هذا أو ذاك فهو صحيح؛ لأنَّ معقلاً صحابيٌّ أيضًا» [«الإرواء» (2/375)].
لكن يبقي النَّظر في الاختلاف الواقع في سبب امتناعها عن الحجِّ فقد اختلفت الرِّوايات في ذلك، ففي بعضها أنَّ السَّبب هو كون جملها أعجف، وفي بعضها أن بعيرها ضلَّ، وفي بعضها أنَّ زوجها أوصى به في سبيل الله.
ويمكن الجمع بأنْ يقال أنَّها حين أرادت الحجَّ ضلَّ بعيرها والَّذي بقي لها أعجف لا يمكن أن تحجَّ عليه، فطلبت بعير زوجها فأخبرت بأنَّه موقوف في سبيل الله.
* حديث أم طليق:
وأمُّ طليق هذه هي غير أمّ معقل، قال الحافظ: «وزعم ابن عبد البرِّ أنَّ أمَّ معقل هي أمُّ طليق لها كنيتان، وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّ أبا معقل مات في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتَّى سمع منه طلق بن حبيب، وهو من صغار التَّابعين فدلَّ على تغاير المرأتين» [«الفتح» (3/604)].
روى حديثها الطَّبراني (22/324) وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (5/176) من طرق عن المختار بن فلفل عن طلق بن حبيب عن أبي طليق أنَّ امرأته قالت له ـ وله جمل وناقة ـ: أعطني جملك أحجُّ عليه، فقال: هو حبيس في سبيل الله، فقالت: إنِّه في سبيل الله أن أحجَّ عليه، قالت: فأعطني النَّاقة وحجَّ على جملك، قال: لا أوثر على نفسي أحدًا، قالت: فأعطني من نفقتك، فقال: ما عندي فضل عمَّا أخرج به وأدع لكم، ولو كان معي لأعطيتك، قالت: فإذا فعلت ما فعلت فأقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذَا لقيته وقل له الَّذي قلت لك، فلمَّا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه منها السَّلام وأخبره بالَّذي قالت له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَتْ أُمُّ طليقٍ لَوْ أَعْطَيْتَهَا جَمَلَكَ كَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ أَعْطَيْتَهَا نَاقَتَكَ كَانَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَوْ أَعْطَيْتَهَا مِنْ نَفَقَتِكَ أَخْلَفَهَا اللهُ لَكَ»، قال: قلت يا رسول الله، فما يعدل بحج، قال: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ».
قال الحافظ: «أخرجها أبو علي بن السكن وابن منده في «الصحابة» والدولابي في «الكنى» من طريق طلق بن حبيب أنَّ أبا طليق حدَّثه أنَّ امرأته قالت له وله جمل وناقة» [«الفتح» (3/604)].
قال ابن حجر: «إسناده صحيح» [«الدراية» (1/266)].
وقال الهيثمي: «رواه الطبراني في «الكبير» والبزَّار باختصار عنه، ورجال الطبراني رجال الصَّحيح» [«المجمع» (3/353)].
من الفوائد الَّتي تضمَّنها الحديث بالنَّظر إلى مجموع رواياته:
أوَّلاً: فضل العمرة في رمضان، وأنَّها تعدل في الأجر حجَّة.
يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَخْبِرْهَا أَنَّهَا تَعْدِلُ حَجَّة مَعِي عمْرَة فِي رَمَضَانَ».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي».
وهذا بالنِّسبة لتلك المرأة الَّتي كانت أرادت الحجَّ معه وعزمت عليه فتعذَّر ذلك عليها، ويلحق بها من كان بمنزلتها من الصَّحابة رضي الله عنهم.
أمَّا العمرة بالنِّسبة إلينا، ولو كانت في رمضان، فليست كالحجِّ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنَّه من المعلوم بالاضطرار أنَّ الحجَّ التَّامَّ أفضل من عمرة في رمضان، ومع ذلك فإنَّ أحدنا لو حجَّ الحجَّ المفروض لم يكن كالحجِّ معه فكيف بعمرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في بيان معنى الحديث:
«ومعلوم أنَّ مراده أنَّ عمرتك في رمضان تعدل حجَّة معي، فإنَّها كانت قد أرادت الحجَّ معه فتعذَّر ذلك عليها فأخبرها بما يقوم مقام ذلك وهكذا من كان بمنزلتها من الصَّحابة ولا يقول عاقل ما يظنُّه بعض الجهَّال أنَّ عمرة الواحد منَّا من الميقات أو من مكة تعدل حجَّة معه» [«مجموع الفتاوى» (26/91)].
أمَّا الحديث فغاية ما يدلُّ عليه أن تكون عمرة أحدنا في رمضان بمنزلة حجَّة كما تشير إليه بعض الرِّوايات مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
«اعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ كَحَجَّة».
وهذا الفضل لا يحصل لكلِّ من اعتمر في رمضان وإنَّما يستحقُّه من كان أراد الحجَّ وعزم عليه فعجز عنه فيصير بنيَّة الحجِّ مع عمرة رمضان كليهما تعدل حجَّة لا أحدهما مجرَّدًا، وكذلك الإنسان إذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع أنَّه لو قدر لفعله كلّه فإنَّه يكون بمنزلة العامل في الأجر؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إِذَا كَانَ العَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلاً صَالِحًا فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ».
أخرجه البخاري وغيره من حديث أبى موسى رضي الله عنه.
قد يتساءل البعض فيقول: إذا كان الاعتمار في رمضان له هذا الفضل العظيم لماذا لم يعتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيه، بل إنَّ عمره كلّها كانت في أشهر الحجِّ ولم تكن ولا واحدة منها في رمضان، وما كان الله تعالى ليختار لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في عمره إلاَّ أولي الأوقات وأحقّها بها، أجاب ابن القيِّم عن ذلك فقال:
«والمقصود أنَّ عمره كلَّها كانت في أشهر الحجِّ مخالفة لهدي المشركين فإنَّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحجِّ ويقولون هي من أفجر الفجور وهذا دليل على أنَّ الاعتمار في أشهر الحجِّ أفضل منه في رجب بلا شكٍّ، وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان فموضع نَظَرٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه أمر أمَّ معقل لما فاتها الحجُّ معه أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أنَّ عمرة في رمضان تعدل حجَّة، وأيضًا فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزَّمان وأفضل البقاع، ولكنَّ الله لم يكن ليختار لنبيِّه في عمره إلاَّ أولي الأوقات وأحقّها بها، فكانت العمرة في أشهر الحجِّ نظير وقوع الحجِّ في أشهره وهذه الأشهر قد خصَّها الله تعالى بهذه العبادة وجعلها وقتًا لها والعمرة حجٌّ أصغر فأولى الأزمنة بها أشهر الحجِّ وذو العقدة أوسطها وهذا ممَّا نستخير الله فيه كان عنده فضل علم فليرشد إليه، وقد يقال: إنَّ رسول الله كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهمُّ من العمرة ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخَّر العمرة إلى أشهر الحجِّ ووفَّر نفسه على تلك العبادات في رمضان مع ما في ترك ذلك، وكان يشقُّ عليها الجمع بين العمرة والصَّوم وربَّما لا تسمح أكثر النُّفوس بالفطر في هذه العبادة حرصًا على تحصيل العمرة وصوم رمضان فتحصل المشقَّة فأخَّرها إلى أشهر الحجِّ وقد كان يترك كثيرًا من العمل وهو يحبت أن يعمله خشيةً عليهم، ولما دخل البيت خرد منه فقالت له عائشة في ذلك فقال: «إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي»، وَهمَّ أن ينزل يستسقي مع سقاه زمزم للحاج فخاف أن يغلب أهلها على سقايتهم بعده والله أعلم» [«زاد المعاد» (2/95 ـ 97)].
ورد في بعض طرق الحديث ألفاظ يفهم منها أنَّ العمرة في رمضان تجزئ عن الحجِّ.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم لأمِّ سليم: «فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تُجْزِئُكِ مِنْ حَجَّةٍ».
وفي رواية من حديث أمِّ معقل: قالت: يا رسول الله إنِّي امرأة قد كبرت وسقمت، فهل من عمل يجزئ عنِّي عن حجَّتي، قال: فقال: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تُجْزِئُ لِحَجَّتِكِ».
وهذا اللَّفظ فيه إشكال؛ لأنَّ ظاهره يفيد أنَّ العمرة تجزئ عن الحجِّ وتسقطه، وهذا مخالف لما أجمع عليه المسلمون، قال ابن حجر: «العمرة في رمضان تعدل الحجَّة في الثَّواب، لا أنَّها تقوم مقامها في إسقاط الفرض، للإجماع على أنَّ الاعتمار لا يجزئ عن حجِّ الفرض» [«الفتح» (3/406)].
ودرءًا لهذا الإشكال قال بعض أهل العلم بأنَّه خاصٌّ بتلك المرأة، قال ابن حجر: «قال به بعض المتقدِّمين، ففي رواية أحمد بن منيع المذكورة قال سعيد بن جبير: ولا نعلم هذا إلاَّ لهذه المرأة وحدها» [«الفتح» (3/605)].
واستدلَّ لذلك بما وقع في بعض طرق حديث أمِّ معقل: «قال: فكانت تقول: الحج حج والعمرة عمرة، وقد قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري أخاصة لي لما فاتني من الحج أم هي للنَّاس عامة».
وأولى من القول بالخصوصيَّة أن يقال بأنَّ الحَجَّة التي تجزئ عنها عمرة رمضان هي حجَّة التَّطوُّع، قال ابن بطَّال: «فيه دليل على أنَّ الحجَّ الذي ندبها إليه كان تطوُّعًا لإجماع الأمَّة على أنَّ العمرة لا تجزئ عن حجَّة الفريضة بالإجماع» (8/15).
أمَّا الرِّواية المشار إليها فلا حجَّة فيها لأمور:
الأوَّل: أنَّها هي الَّتي فهمت الخصوصيَّة ولم ترفعه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ إنَّها لم تجزم به بل تردَّدت وقالت: «ما أدري أخاصة بي لما فاتني من الحج... » فكيف يجعل هذا الحجَّة على الخصوصية.
الثَّاني: هذه الزِّيادة ضعيفة في إسنادها عيسى ابن معقل وهو ضعيف، ومحمد بن إسحاق مدلِّس وقد عنعن، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وما كان كذلك ليس بِحُجَّة.
أمَّا ما اعتُرِض به على هذا من أنَّ الحَجَّة المذكورة هي حَجَّة الوداع وكانت أوَّل حجَّة أقيمت في الإسلام فرضًا، فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحجِّ، فأجاب عنه ابن حجر فقال: «لا مانع أن تكون حجَّت مع أبي بكر وسقط عنها الفرض بذلك» [«الفتح» (3/605)].
الثانية: أنَّ الحجَّ من سبيل الله، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: «أَمَا أَنَّك لَوْ كُنْت حَجَجْتهَا فَكَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ».
وقوله صلى الله عليه وسلم لأمِّ معقل: «فَهَلاَّ خَرَجْت عَلَيْهِ فَإِنَّ الحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ».
وقوله صلى الله عليه وسلم لزوج أمِّ طليق: «صَدَقَتْ أُمُّ طليقٍ لَوْ أَعْطَيْتَهَا جَمَلَكَ كَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ».
وعلى هذا يدخل الحجُّ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...﴾[التوبة:60].
وعليه فيجوز أن يصرف من مال الزَّكاة لمن يريد الحجَّ، قال الشَّوكاني: «وأحاديث الباب تدلُّ على أنَّ الحجَّ والعمرة من سبيل الله وأنَّ من جعل شيئًا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجَّاج والمعتمرين، وإذا كان شيئًا مركوبًا جاز حمل الحاجِّ والمعتمر عليه، وتدلُّ أيضًا على أنَّه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزَّكاة إلى قاصدين الحجِّ والعمرة» [«نيل الأوطار» (4/171)].
وهو مرويٌّ عن ابن عمر وابن عبَّاس، وهو أحد القولين عن أحمد وبه قال إسحاق.
قال ابن قدامة: «اختلف الرِّواية عن أحمد رحمه الله في ذلك، فرُوي عنه أنَّه لا يصرف منها في الحجِّ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري والشَّافعي وأبو ثور وابن المنذر وهي أصح... وروي عنه أنَّ الفقير يعطى قدر ما يحجُّ به الفرض أو يستعين به فيه، يروى إعطاء الزَّكاة في الحجِّ عن ابن عباس وعن ابن عمر الحجّ من سبيل الله وهو قول إسحاق» [«الشرح الكبير» (2/701 ـ 702)].
وهو ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: «ولهذا يقرن بين الحجِّ والجهاد لدخول كلّ منهما في سبيل الله فأمَّا الجهاد فهو أعظم سبيل الله بالنَّصِّ والإجماع وكذلك الحجّ في الأصحِّ كما قال: «الحج من سبيل الله» » [«المجموع» (14/43)].
ذكر ابن قدامة رحمه الله شرطين كي يجوز لمن يريد الحجَّ أن يأخذ من مال الزَّكاة وهما:
الشَّرط الأول: أن يكون ممَّن ليس له مال يحجُّ به سواها.
الشَّرط الثاني: أن يأخذ لحجَّة الفرض؛ لأنَّه يحتاج إلى إسقاط فرضه وإبراء ذمَّته، أمَّا التَّطوُّع فله عنه مندوحة.
سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاَّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وإذا عجزت عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفّارة عنك لقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعُهَا﴾ [البقرة: 286].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال : لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلّم فبينما هو على ذلك أتي النبيّ صلى الله عليه وسلّم بعرق فيه تمر، قال: من السائل؟ فقال: أنا قال: خذ هذا فتصدّق به، قال الرجل: على أفقر منّي يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها ـ يريد الحرّتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبيّ حتى بدت أنيابه ثمّ قال: أطعمه أهلك» (25).
وإذا أتممت الصوم فاعلم أن الله تعالى أوجب عليك زكاة الفطر طهرة لك من اللّغو والرفث، وطعمة للمساكين، تؤديها عن نفسك وعن كلّ من تمونه من صغير وكبير، ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحرّ والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» (26) وتخرجها من الأقوات المنصوص عليها أو من أقوات أهل كلّ بلد مقدار صاع من صاع أهل المدينة.
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نؤدّي زكاة رمضان صاعا من طعام عن الصغير والكبير والحرّ والمملوك من أدّى سلتا قبل منه وأحسبه قال: ومن أدى دقيقا قبل منه ومن أدّى سويقا قبل منه» (27).
وأما القمح فمقداره نصف صاع على الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم رحمهما الله كما في زاد المعاد (2/21).
لما رواه ثعلبة بن صعير قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيبا، فأمر بصدقة الفطر صاع تمر، أو صاع شعير على كلّ رأس، أو صاع برّ أو قمح بين اثنين عن الصغير والكبير والحرّ والعبد» (28).
وعن عروة بن الزبير: «أنَّ أسماء بنت أبي بكر كانت تخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها الحر منهم والمملوك مدين من الحنطة أو صاعا من التمر بالمد أو بالصاع الذي يقتاتون به» (29).
ولا يجوز لك أن تخرجها بدل العين قيمة أو نقودًا في قول عامة أهل العلم قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم يعني في صدقة الفطر قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقال أبو طالب: قال لي أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة، قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويقولون قال فلان! قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الّرَّسُولَ﴾ [النساء: 59]، وقال قوم يردّون السنن: قال فلان، قال فلان» (30).
ويجب عليك أن تصرفها للمساكين خاصة، ولا تصرفها لغيرهم من الأصناف الثمانية المنصوص عليهم في القرآن.
لما رواه ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللّغو والرفث، وطعمة للمساكين...» (31).
ويجب عليك أن تخرجها قبل صلاة العيد، ولا يجوز لك تأخيرها عن ذلك لحديث ابن عبّاس السابق: «من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».
ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة» (32).
ويجوز لك أن تخرجها إلى من تجمع عنده بيوم أو يومين لما رواه نافع: «كان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها للذين يقبلونها، وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» (33).
وعنه أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.
هذا ما يسر الله تعالى لي جمعه بمنّه وتوفيقه، بشيء من الإيجاز والاختصار، وإلاّ فهناك مسائل أخرى مشهورة ومنثورة في كتب الفقه، فلتراجع لمن أراد التوسع، وبالله التوفيق.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك .
1- رواه أبو داود (2454) وسنده صحيح " صحيح أبي داود" (2143).
2- متفق عليه.
3- متفق عليه.
4- رواه أصحاب السنن بسند صحيح، "صحيح أبي داود" (2073)
5- رواه أبو داود (2365) بسند صحيح، "أبي داود" (2072).