بقلم توفيق منصور
من خلال ميثاق الأمم المتحدة وإيماناً منها بخطورة حمى التسلح النووي تحركت في الخمسينات من القرن الماضي بعض الدولِ لوضع اتفاقيةٍ للحد من انتشار الأسلحة النووية . وكانت جمهورية ايرلندا سباقةً في هذا الموضوع وذلك من خلال أجهزة الجمعية العامة للأمم المتحدة ، حيث تقدمت بمشروع قرارٍ في أكتوبر (1958) يشير إلى تشكيل لجنةٍ لاستقصاء خطورة أمر الأسلحة النووية وانتشارها .
وعلى الرغم من أن المشروع لم يحظ بالتصويت فإنه شكّل المحاولة الأولى في هذا الطريق . وفي عام (1959) عاودت جمهورية ايرلندا الكرة مرة أخرى مستشهدة بالانتشار المتسارع والخطير للسلاح النووي حيث أشارت إلى أن الأمر يتطلب إنشاء أجهزة للسيطرة والتفتيش والى استحداث اتفاق دولي في هذا الشأن . في هذه المرة وجد اقتراح جمهورية ايرلندا التأييد اللازم واعتُبر بمثابة الخطوة الأولى على مستوى الأمم المتحدة نحو الهدف المنشود . ومع أوائل الستينات احتلت فرنسا مقعدها كعضو في النادي النووي مما أعطى دفعة قوية للتفكير الجاد في إيجاد آليات لمنع الانتشار ، (ملحوظة : العضو في النادي النووي المقصود به الدولة التي أثبتت من خلال التجربة بأنها تمتلك السلاح النووي ، ولكن يوجد في العالم أكثر من 42 دولة تتعامل مع الطاقة النووية السلمية بما فيها إيران) . هذا وفي عام (1961) دفعت جمهورية ايرلندا باقتراحها الثالث في هذا المجال والذي أُقر من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي اشتهر بمشروع (الاقتراح الايرلندي) والذي تركز على التوصل إلى اتفاقٍ دولي لمنع انتشار السلاح النووي يعتمد على مبدأ التفتيش والرقابة ، وفيه تم تقسيم الدول إلى فئتين ، فئة سميت بالنووية والأخرى الغير نووية بحيث تقع على كل فئةٍ التزامات وضوابط وقواعد يجب اتباعها واحترامها .
وفي ديسمبر (1961) صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على عقد مؤتمرٍ لنزع السلاح النووي شاركت فيه كل من كندا، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا، فرنسا، إيطاليا، رومانيا، بولندا، الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة، بريطانيا، البرازيل، بورما، أثيوبيا، الهند، المكسيك، نيجيريا، السويد ومصر . وقد اعتبرت الدول الثمانية الأخيرة دول (عدم انحياز) وعُرّفت بهذا الاسم ، هذا وقد شَكلت تلك الدول لجنةً نظرت في أمر مناقشةِ وصياغةِ مقترحٍ لمعاهدةٍ تمنع انتشار الأسلحة النووية .
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه حقيقة ومنذ بداية الستينات وخلالها فقد انتاب دول النادي النووي نفسها الكثير من القلق من جراء التجارب و التفجيرات النووية بحيث توصلت في عام (1963) إلى اتفاقية تم توقيعها تحرم إجراء التجارب النووية في الجو والفضاء وتحت الماء وذلك من خلال لجنة بدأت مفاوضاتها في جنيف وانتهت في موسكو ولم تشارك فيها بطريقة جادة دول عدم الانحياز ، وركزت على حضور اجتماعاتها دول ثلاث هي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا .
وفي عام (1964) فاجأت الصين العالم باقتحامها للنادي النووي وذلك بإجراء تفجيرٍ محظورٍ ألا وهو التفجير الجوي ، وأصبحت بذلك الدولة الخامسة التي تمتلك السلاح النووي . وعندها تحركت أمريكا وبصحبتها الاتحاد السوفيتي وبقوة نحو إيجاد معاهدة أو اتفاقية لمنع الانتشار النووي ، وذلك لعدة أسباب أهمها الانفراد بامتلاك هذا السلاح ، وتضيق فرص امتلاكه على الآخرين ، وكذلك التخوف من هول ما يحدثه هذا السلاح من كوارث خلال تجاربه أو استعماله خاصة وأن أدبياته باتت معروفة بمعظم وأهم حذافيرها . ومع هذا فقد كانت تصطدم الصيغ المقترحة للمعاهدة بالخلافات الحادة مما أدى إلى أن تنقضي معظم سنوات الستينات في مناقشات حامية واختلافات في وجهات النظر فيما يتعلق بكيفية حظر الانتشار النووي . وتمثلت المشكلة الأساسية في كيفية التوصل إلى مفاهيم مشتركة لمحتويات عددٍ من بنود المعاهدة أو الاتفاقية خاصة بالنسبة للدول النووية . هذا وفي عام (1967) حصل تقاربٌ كبير بين وجهتي نظر الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة تمثل في تقديم مقترحات متماثلة وأدى هذا الأمر إلى أن يتقدم الوفدان السوفييتي والأمريكي في 27/8/1967 بالمسودة الأولى لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية . ومع هذا فقد كانت هناك بعض التحفظات والآراء لدول أخرى أدت إلى إعادة النظر في الصيغة المقدمة من الدولتين العظميين . وبعد مداولات ومشاورات مضنية ومكثفة صدر القرار رقم (2373) من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12/6/1968 حاملاً عنوان (معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية) أي (Non- Proliferation Treaty of Nuclear Weapons) والتي اشتهرت اختصاراً ب(NPT) .
وقد حظي ذلك القرار بتصويت (95) دولة لصالحه في حين امتنعت (21) دولة عن التصويت وعارضت القرار (4) دول . وعليه أصبحت المعاهدة جاهزة للتوقيع في 1/7/1968.. وبناءً على ذلك وفي أغسطس (1968) عُقد في جنيف مؤتمرٌ للدول غير النووية لبحث أمر مستقبلهم وأمنهم من تلك المعاهدة و الأسلحة المحظورة وكيفية مساهمتهم في آلية عدم الانتشار ، إضافة إلى قضية الاستعمالات السلمية للطاقة النووية ومساعدة الدول النووية لهم في هذا الأمر . هذا وقد دخلت رسمياً المعاهدة إلى حيز والتنفيذ عندما تكامل العدد اللازم لها من التصديقات في (5/3/1970) ، ونعطي هنا وصفاً مختصراً لبعض أهم بنودها ..
في شكلها العام تكونت المعاهدة من (ديباجة) شكلت مقدمة لأهمية الموضوع بالنسبة للبشرية ، إضافة إلى موادها الإحدى عشرة الأساسية . وفي إشارة سريعة سنتطرق إلى المواد الثلاث الأولى ، خاصة وأن المادة الثالثة ستربطنا بموضوع آخر مهم بالنسبة للمعاهدة . فالمادة الأولى ركزت على أن لا تساعد الدول النووية أيٍ من الدول الأخرى لأجل الحصول على السلاح النووي وأن لا تشجع أو تحفز بأية طريقة مباشرة أو غير مباشرة بقية الدول للحصول على هذا السلاح . والمادة الثانية تمثلت في أن تتعهد الدول الغير ممتلكة للسلاح النووي بأن لا تسعى بأية طريقةٍ أو أخرى للحصول على السلاح النووي ، وأن لا تقبل (حتى) أية مساعداتٍ أو مِنَحٍ تساعد على الحصول على هذا السلاح . أما المادة الثالثة فهي مادة الضمانات . ومفادها أن توافق الدول غير النووية في تقبل ضمانات يحددها اتفاق يتعين عقده مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يسمى (اتفاقية الضمانات بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية) . وكما جاء في مجلة عالم الذرة السورية (1995) ، فقد التزمت الدول الأطراف واستناداً إلى المادة الثالثة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية بالتعهد بقبول نظام ضمانات يطبق على جميع المواد الانشطارية والمستخدمة في جميع الأنشطة السلمية ، للتحقق من أن هذه المواد لا يتم تحريفها نحو أسلحة نووية أو أجهزة تفجيرية . ونظام الضمانات هو اتفاق على مجموعة من الإجراءات والتدابير الواجب الالتزام بها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بهدف الرقابة الفعالة على جميع ما يجري وسيجري في البلد العضو من نشاطٍ نووي . ويُمَكّن هذا النظام الوكالة من التحقق من عدم تحريف المواد النووية والمعدات النووية إلى أجهزة تفجيرية نووية سواء كانت المواد النووية اللازمة لذلك مستوردة أو من إنتاج محلي . ويشتمل هذا الاتفاق على إلزامٍ أساسي يتضمن تنظيم عمليات محاسبة ومراقبة على المواد النووية الخاضعة لهذا النظام ، وكذلك تنظيم عمليات تفتيش دورية تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتأكد من دقة وصحة المعلومات الواردة لها من البلد العضو .
هذا ويمكن لدولة ما الانسحاب من الاتفاقية وذلك على ضوء المادة العاشرة التي تُقرأ (يكون لكل طرفٍ حق الانسحابِ من المعاهدة ممارسةً منه لسيادته القومية إذا قرر أن أحداثاً استثنائية ذات صلة بموضوع المعاهدة قد أضرت بمصالحه الوطنية العليا وعليه أن يبلغ جميع أطراف المعاهدة ومجلس الأمن الدولي بذلك الانسحاب قبل ثلاثة أشهر من حصوله ببلاغٍ عن الأحداث الاستثنائية التي يرى أنها تهدد مصالحه العليا) . وكمثالٍ لذلك فإن كوريا الشمالية كانت قد انسحبت من المعاهدة في عام (2003) .. هذا ونشير هنا إلى أن (186) دولة قد وقعت على الاتفاقية حتى يناير (2003) ، وقد وقعت إيران على الاتفاقية و (اتفاق الضمانات) في عام (1970) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت قد أعدت بروتوكولاً إضافياً لاتفاق الضمانات في 15/5/1997 يتكون من مقدمة وملحقين و(18) مادة ويركز على أن من حق مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية مراقبة البرنامج النووي لأية دولة بصورة دقيقة ولهم الصلاحية في القيام بعمليات تفتيشٍ بناءً على إشعارٍ يصل إلى حد ساعتين فقط .. هذا وتجدر الإشارة إلى أن الصين كانت قد وقعت على هذا البروتوكول الإضافي في (1998) ، وحتى نوفمبر (2001) قد وقعت عليه أيضاً (57) دولة . ونؤكد هنا و للمرة الثانية بأن المعاهدة وبروتوكولاتها تتيح للدول والوكالة الدولية التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية !. ولكن يبقى أن نقول بأنّ (معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية) ومنذ أن دخلت حيز التنفيذ في (1970) ورغم العدد الكبير الذي انضم إليها من دول العالم إلا أنها ستظل من وجهة النظر العملية ضعيفة وسيظل أمرها كذلك ما لم تنضم إليها كافة دول العالم ، أما في منطقتنا فسيظل أمرها عجباً دون انضمام إسرائيل لها !!.
في هذه السانحة أود أن أتطرق لمعاهدة إخلاء القارة الأفريقية من الأسلحة النووية المعروفة باسم بلندابا (PELINDABA) ، والاسم يرمز لموقع أحد المفاعلات النووية لجنوب أفريقيا ، ويعني الاسم (القرار الذي لا رجعة فيه) أو (نهاية النقاش) وهذا بعد أن اتجهت جنوب أفريقيا نحو النووي السلمي . (وللعلم فإن جنوب أفريقيا هي من أول الدول التي تخلت عن قنابلها النووية ، فقد أنتجت ست قنابل خلال الثمانينات وتخلصت منها خلال التسعينات) . ففي القاهرة في 11 أبريل من عام (1996) تم التوقيع على معاهدة بلندابا التي تلزم الدول الأفريقية الموقعة عليها بعدم امتلاك أو تخزين أسلحة نووية أو دفن نفايات نووية أو إجراء تجارب نووية على أراضيها ، وبموجب هذه المعاهدة تتعهد الدول الداخلة في نطاقها بتشجيع الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وإنشاء الآليات الثنائية والجماعية لدعم التعاون في مجال الاستغلال السلمي للطاقة النووية ، إضافة إلى إخضاع الدول الأعضاء للتحقق من التزاماتها بأحكام معاهدة (بلندابا) من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية . وتكريساً للتوجه السلمي المتضمن في معاهدة (بلندابا) تم إعداد ملحقين بالمعاهدة وقعا من طرف أربع دول نووية وهي فرنسا و بريطانيا وأمريكا والصين الشعبية ، على أن تتعهد هذه الدول النووية الموقعة على الاتفاقية بعدم مهاجمة أو التهديد بمهاجمة الدول الموقعة على المعاهدة ، وكذلك عدم إجراء اختبارات نووية بأفريقيا أو تشجيع أو إغراء الدول الأفريقية لأجل أية اختبارات نووية . ويلاحظ غياب روسيا عن التوقيع على ملحقي المعاهدة وذلك بعد أن رفض مندوبها التوقيع بحجة وجود قاعدة أمريكية لتخزين وعبور أسلحة نووية بالمحيط الهادي . أما الرئيس حسني مبارك وعلى الرغم من امتناع روسيا كقوى نووية كبرى من التوقيع على تلك الاتفاقية إلا أنه وصفها أي الاتفاقية بالحدث التاريخي الهام داعياً في نفس الوقت بأهمية التوقيع على معاهدةٍ مماثلةٍ لمنطقة الشرق الأوسط . هذا والجدير بالذكر هو أن القارة الأفريقية كإقليم تعتبر خامس منطقة في العالم توقع على معاهدة إقليمية خاصة بإخلاء الأسلحة النووية من أراضيها بعد أمريكا اللاتينية وجنوب المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا ومنطقة البحر الأدرياتيكي . هذا وأشير هنا إلى أن (المعاهدات الإقليمية) في هذا الشأن إنما ترتكز على المادة السابعة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية والتي تشير إلى (لا مساس في هذه المعاهدة بحق أية مجموعة من الدول في عقد معاهداتٍ إقليمية تضمن عدم وجود أية أسلحة نووية إطلاقاً في أقاليمها المختلفة) ..
هذا وفي الحلقة القادمة نتطرق للشرق الأوسط ودعوات مصر وإيران لجعله خالياً من السلاح النووي ، وكذلك مبادرات الرئيس حسني مبارك في هذا الشأن ، إضافة إلى مراوغات إسرائيل وموقف أمريكا من (نووياتها) ونياتها ، ومن ثم تنتظرنا في الحلقات التي تلي ذلك دهاليز الأسرار المرعبة فكونوا معنا