سيرته صلى الله عليه وسلم العدل والإحسان مع أهل الكتاب
الشيخ د. رضا بوشامة
الحمد لله القائل في كتابه: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾ [الممتحنة:8]، وصلى الله وسلم على خير الورى، محمد بن عبد الله المبعوث للثقلين الإنس والجن، المتخلق بأخلاق القرآن الكريم، والمأمور بمجاهدة الكافرين والمشركين من سائر الملل بقوة السيف والقلم، ومعاملة المعاهدين والمستأمنين بالَّتي هي أحسن شرط بقائهم على العهد المبرم، والميثاق المعقود معهم إلى أجل، وبعد:
فإنَّ الله تعالى بعث محمدًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، داعيًا إلى الله تعالى جميع الملل والنحل، فلم يفرِّق في هِداية النَّاس بين أعجمي وعربي، فأطاعه أقوام وعصاه آخرون، ووقفوا في وجه دعوته بشتى الأساليب، فجاهدهم صلى الله عليه وسلم في الله حقَّ جهاده، فنصره الله النصر المبين، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وكانت الغلبة للمؤمنين، فقامت بَعْدَ انتصارات جيوشِ الإسلام دولةٌ يهابها العدوُّ من اليهود والنصارى وغيرهم، فاضطرهم المؤمنون إلى أمرين لا ثالث لهما؛ إمَّا استسلام ودخول في دين الله تعالى، وإمَّا دفع للجزية والتعايش مع المسلمين في أمن وأمَان، فاختار طائفة من الكافرين من أهل الكتاب السِّلم والعيش في كنف المسلمين؛ لما رأوا من عدالة الإسلام وحسن التعامل مع المخالف في الدين، وهذا الذي أمر به الله عز وجل كما مر في الآية السابقة، وحثَّ عليه نبيُّ الرحمة أتباعَه المؤمنين، وفي ذلك عزٌّ ورفعة للمسلم، وإظهار لمحاسن هذا الدِّين الذي هو دين البشرية جمعاء.
وفي سيرة النبي ِّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ بيان لما تضمنته هذه الآية الكريمة من حُسن البِرِّ والتَّعامل الحسن مع الكافرين سواء كانوا هودًا أو نصارى، فحريٌّ بالمسلم أن يقف وقفات مع سيرة سيد الخلق، وسيرة من اتَّبعه بإحسان من صحابته الكرام، ويدرك كيف كان تعاملهم مع الذمِّي المعاهَد والمستأمَن، بل جاء التحذير الشديد من إيذائهم وقتلهم بغير حقٍّ؛ قال البخاري في «صحيحه» في كتاب الجزية: «باب إثم مَن قتل معاهدًا بغير جُرم» ثم أورد بسنده إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([1])، وأورده أيضًا في كتاب الديات، في «باب إثم من قتل ذمِّيًّا بغير جُرم» بلفظه: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([2])، قال الحافظ ابن حجر: «كذا ترجم بالذمِّيِّ، وأورد الخبر في المعاهد، وترجم في الجزية بلفظ: (مَن قتل معاهدًا)، كما هو ظاهر الخبر، والمراد به مَن له عهدٌ مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هُدنة من سلطان أو أمان من مسلم»([3]).
قلت: ورواه النسائي بلفظ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»([4]).
فهذا وعيد شديد، وتحذير أكيد من ظلم المعاهدين والمستأمنين.
وأما سيرته صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب ومعايشتهم له فالآثار فيها كثيرة، وحسن معاملته لهم معلومة، اقتداء بما أُمر به في كتاب الله تعالى من العدل فيهم وبرِّهم، وفي هذه العجالة نستعرض بعض مواقِفه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومواقف صحابته رضي الله عنهم تجاه الكافر بالله والذمِّيِّ، فمن ذلك:
1 ـ زيارتهم إذا مرضوا ودعوتهم للدخول في الدِّين:
قال الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» في كتاب المرضى: «باب: عيادة المشرك»، وأورد من طريق أنس رضي الله عنه: «أَنَّ غُلاَمًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَالَ: «أَسْلِمْ»، فَأَسْلَمَ([5]).
وأورده في كتاب الجنائز بلفظ: «كَانَ غلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عند رَأسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فنَظرَ إلى أبيه وهو عندَهُ، فقال له: أطِعْ أبا القَاسِم صلى الله عليه وسلم ، فأَسْلَمَ، فخرج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمدُ لله الَّذي أَنْقَذَهُ مِن النَّارِ»([6]).
قال ابن حجر: «وفي الحديث جوازُ استخدام المشرك، وعيادته إذا مرض، وفيه حُسن العهد، واستخدام الصغير، وعرض الإسلام على الصبي...»([7]).
وقال ابن بطال: «إنما يُعادُ المشرك ليُدعى إلى الإسلام إذا رجا إجابته إليه، ألا ترى أنَّ اليهوديَّ أسلم حين عرض عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإسلامَ وكذلك عرض الإسلام على عمِّه أبي طالب، فلم يقض الله له به، فأمَّا إذا لم يطمع بإسلام الكافر ولا رُجيت إنابته فلا تنبغي عيادته»([8]).
أورد معناه الحافظ ثم قال: «والذي يظهر أنَّ ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى، قال الماوردي: عيادة الذِّمِّي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة »([9]).
ويؤيد ذلك أيضًا زيارة عمِّه أبي طالب وعرضه الإسلام عليه.
2 ـ الدعاء لهم بالهداية والصلاح:
قال البخاري في كتاب «الأدب المفرد»: «باب إذا عطس اليهودي»، ثم أورد بإسناده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كان اليهود يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله، فكان يقول: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ»([10]).
قال المباركفوري: « ولا يقول لهم يرْحَمُكُم الله؛ لأَنَّ الرَّحْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالمؤمنِينَ، بَلْ يَدْعُو لهم بما يُصْلِحُ بَالَهُمْ من الهدايةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالإِيمَانِ»([11]).
3 ـ الوصية بهم للجوار:
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الوصيَّةُ بالجار، وحُسن معاملته، والأمر في ذلك عام، سواء كان مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ جبريلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُورِّثُه».
وقد فهم الصحابيُّ الجليل عبد الله بن عَمرو رضي الله عنها ـ وهو من رواة هذا الحديث أيضًا ـ العموم في هذا الخبر، وأنَّ ذلك لا يختص بالمسلم فقط، بل يتعدَّاه إلى غيره من أهل الكتاب؛ روى أبو داود والبخاري في «الأدب المفرد» وغيرهما عن مجاهد قال: «كنتُ عند عبد الله بن عمرو ـ وغلامُه يَسلَخ شاةً ـ فقال: يا غلام! إذا فرغتَ فابْدَأ بجارِنا اليهوديِّ، فقال رجلٌ من القوم: آليهوديَّ أصلحك الله؟! قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُوصي بالجار، حتى خَشِينا أو رُؤينا أنَّه سيوَرِّثه»([12]).
قال الحافظ ابن حجر: «وَاسْمُ الجَار يَشْمَل المسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ، وَالْغَرِيب وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِع وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالأَجْنَبِيَّ، وَالْأَقْرَب دَارًا وَالْأَبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِب بَعْضهَا أعلى من بعض، فَأَعْلَاهَا مَنْ اجتَمعَتْ فِيهِ الصِّفَات الْأُوَل كُلّهَا ثُمَّ أَكْثَرهَا وَهَلُمَّ جَرًّا إِلى الوَاحِد، وَعَكْسه مَن اجْتَمَعَتْ فيه الصِّفَات الأخْرَى كَذَلِكَ، فَيُعْطى كُلٌّ حَقه بِحَسَبِ حَاله، وَقَدْ تَتَعَارَض صفتان فأكثر فَيُرَجِّح أو يُسَاوِي، وقد حَمَلَه عبد الله بن عَمْرو ـ أحد من روى الحديث ـ على العموم، فَأَمَرَ لَـمَّا ذُبِحَتْ له شاة أَنْ يُهدَى منهَا لجاره اليهودِيّ، أخرجه البخاريّ في «الأدب المفرد» والتِّرمذيّ وحَسَّنَه، وقد ورَدتْ الإشَارة إلى ما ذَكَرْتُه في حديث مرفوع أخرجه الطَّبرانِيُّ مِن حَديث جابر رفَعَهُ: «الجِيرَانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وهو المشْرِكُ لَهُ حَقُّ الجِوَار، وجَارٌ لهُ حَقَّانِ وهو المسلِمُ له حَقُّ الجِوَار وَحَقُّ الإسلام، وجارٌ له ثلاثَةُ حُقُوقٍ: مُسْلِم له رَحِم لَهُ حَقُّ الجِوَار والإسلام والرَّحِم»([13]).
4 ـ الدُّعاء لهم بالهداية، وعدم لعنهم:
ومن سيرته صلى الله عليه وسلم عدم لعن الكفَّار، والحرص على دعوتهم واستقامتهم، فعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسُول الله! ادْعُ عَلَى المشرِكِينَ، قال: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»([14]).
وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وترجم له بقوله: «باب لعن الكافر».
وأمَّا ما ورد من نصوص في لعن الكافر من كتاب الله وسنة رسوله فهي محمولة على لعن الكافر الحربيِّ الذي يؤذي المؤمنين والمؤمنات، فقد أورد البخاري في «صحيحه» في كتاب الجهاد: «باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة»، وذكر فيه أحاديث عدَّة تشتمل على الدعاء عليهم، ثم أورد بعده بباب: «باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألَّفهم»، وذكر تحته حديث: «اللهمَّ اهْد دوسًا وائْتِ بهم»([15])، قال ابن حجر: «قوله: «ليتألَّفهم» مِن تَفَقُّه المصنف؛ إشارة منه إلى الفرق بين المقامين، وأنَّه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتدُّ شوكتُهم ويكثر أذاهم، كما تقدم في الأحاديث التي قبل هذا بباب، والحالة الثانية حيث تُؤمن غائِلتُهم ويُرجى تألُّفهم، كما في قصة دَوْس...»([16]).
قلت: بل كان من سيرته صلى الله عليه وسلم أن لا يفصح باللَّعن، بل قد يردُّ على مَن ظلمه مِن غير أن يكون في لسانه فُحش ولا لعن، فقد روى البخاريُّ ومسلم عن عائشة رضي الله عنها زوج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رَهْطٌ مِن اليهُودِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ علَيكُمْ. قَالت عَائشةُ: فَفَهِمْتُهَا، فقُلتُ: وعَلَيكُمُ السَّامُ واللَّعْنَةُ، قالت: فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: « مَهْلًا يا عَائشَةُ! إنَّ الله يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأَمْرِ كُلِّهِ». فقلت: يا رسول الله! ولَمْ تَسْمعْ ما قالوا؟ قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: «قد قلتُ: وعليكم»([17]).
قال الحافظ ابن حجر: «وإنَّما أطْلَقتْ عليهم اللَّعْنَةَ إمَّا لأَنَّها كانت تَرَى جَوازَ لَعْنِ الكَافِر المعَيَّن بِاعْتبارِ الحَالة الرَّاهِنة، لا سيما إذا صَدَرَ منه ما يَقتضِي التَّأْدِيب، وإمَّا لأنَّها تقَدَّم لَهَا عِلْمٌ بأنَّ المذكورين يَمُوتُون على الكفر، فأَطْلَقت اللَّعْنَ ولم تُقَيِّدهُ بالموتِ، والَّذي يَظْهَرُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يتَعَوَّدَ لسانُها بالفُحْشِ، أو أَنْكرَ عليها الإِفْرَاطَ في السَّبِّ»([18]).
وهذا التصرُّفُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ودعاؤه عليهم بما دَعوا هم عليه كان بعد أن تأكَّد من سَبِّهم له ودعائهم عليه بالموت، فكانوا هم أحقَّ بذلك.
5 ـ كيفية تحيتهم وردِّ السَّلام عليهم:
أمَّا إن سَلَّم اليهوديُّ أو النصرانيُّ على المسلم بصيغة لا يُفهَمُ منها الدعاء عليه فيُشرع له حينئذ أن يردَّ عليه السلام، لقوله تعالى: )وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا( [النساء:86].
وللشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله فيه كلامٌ يتعلق بكيفية ردِّ السلام على الكافر وبدئه به، نورده على طوله لما فيه من فوائد عزيزة تتعلق ببحثنا هذا، فقال عند كلامه على حديث: «لا تبدءوا اليهودَ والنَّصارَى بالسَّلام، وإذا لَقِيتُم أحدَهم في طَريقٍ فاضطرُّوهم إلى أضْيقِه».
قال رحمه الله: «...والغرضُ مِن إيراده هنا أنَّه جمعنا مجلسٌ فيه طائفةٌ مِن أصحابنا أهلِ الحديث، فورد سؤالٌ عن جواز بَدءِ غيرِ المسلمِ بالسَّلام، فأجبتُ بالنَّفيِ محتَجًّا بهذا الحديث، فأبدى أحدُهم فهمًا للحديث مُؤدَّاه أنَّ النَّهيَ الذي فيه إنَّما هو إذا لَقيَه في الطَّريقِ، وأمَّا إذا أتاه في حانوتِه أو منزلِه فلا مانِع مِن بَدئِه بالسَّلام! ثمَّ جَرى النقاشُ حوله طويلًا، وكلٌّ يُدلي بما عنده مِن رأي، وكان مِن قولي يومئذ: أنَّ قوله: «لا تبدؤوا» مطلَقٌ ليس مقيَّدًا بالطَّريق، وأنَّ قوله: «وإذا لَقيتُم أحدَهم في طريق...» لا يُقيِّدُه؛ فإنَّه مِن عَطف الجملة على الجملة، ودَعَّمتُ ذلك بالمعنى الذي تضمَّنته هذه الجملة، وهو أنَّ اضطرارَهم إلى أضْيَقِ الطُّرق إنَّما هو إشارة إلى تركِ إكرامِهم لكفرِهم، فناسب أن لا يُبدَؤوا مِن أجل ذلك بالسَّلام لهذا المعنى، وذلك يقتضي تعميم الحكم.
هذا ما ذكرتُه يومئذ، ثم وجدتُ ما يُقوِّيه ويشهدُ له في عدة روايات:
الأولى: قول راوي الحديث سهيل بن أبي صالح: «خرجت مع أبي إلى الشام، فكان أهل الشام يمرُّون بأهل الصوامع فيُسلِّمون عليهم، فسمعت أبي يقول: سمعتُ أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول...» فذكره. أخرجه أحمد ( /346) وأبو داود بسند صحيح على شرط مسلم.
فهذا نص من راوي الحديث ـ وهو أبو صالح واسمه ذكوان تابعي ثقة ـ أن النهي يشمل الكتابي ولو كان في منزله ولم يكن في الطريق.
وراوي الحديث أدرى بمرويِّه من غيره، فلا أقل من أن يصلح للاستعانة به على الترجيح.
ولا يشكل على هذا لفظ الحديث عند البخاري في «أدبه» (1111)، وأحمد في «مسنده» (2/444): «إذا لَقِيتُم المشركين في الطَّريق، فلا تَبْدَؤُوهم بالسَّلام واضطرُّوهُمْ إلى أَضْيَقِها»، فإنَّه شاذٌّ بهذا اللٌّفظ، فقد أخرجه البخاري أيضا (1103) ومسلم، وأحمد (2/266، 459) وغيرهما من طرق عن سهيل ابن أبي صالح باللفظ المذكور أعلاه.
الثانية: عن أبي عثمان النهدي قال: «كتب أبو موسى إلى دِهقان يسلم عليه في كتابه، فقيل له: أتسلم عليه وهو كافر؟! قال: إنَّه كتب إليَّ فسلمَ عليَّ، فرددتُ عليه» أخرجه البخاري في «أدبه» (1101) بسند جيد.
ووجه الاستدلال به، أن قول القائل: «أتسلم عليه وهو كافر؟!» يُشعر بأنَّ بدءَ الكافر بالسلام كان معروفا عندهم أنه لا يجوز على وجه العموم، وليس خاصًّا بلقائه في الطريق، ولذلك استنكر ذلك السائل على أبي موسى وأقرَّه هذا عليه ولم ينكره، بل اعتذر بأنَّه فعل ذلك ردًّا عليه لا مُبتدِئًا به، فثبت المراد».
ثم ذكر الشيخ حديث كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل ولم يبدأه بالسلام، ثم قال: «فلو كان النهي المذكور خاصا بالطريق لبدأه عليه السلام بالسلام الإسلامي، ولم يقل له: «سَلامٌ عَلى مَن اتَّبَعَ الهدَى».
ثم ذكر الرواية الرابعة وهي حديث عيادته صلى الله عليه وسلم الغلام اليهودي ولم يبدأه بالسلام، ثم قال: «فلو كان البدء الممنوع إنَّما هو إذا لقِيَه في الطريق لبدأه عليه السلام بالسَّلام؛ لأنَّه ليس في الطريق كما هو ظاهر».
وذكر الرواية الخامسة وهي مجيئه إلى عمِّه وهو يحتضر ولم يسلم عليه، ثم قال: «فثبت من هذه الروايات أنَّ بدء الكتابيِّ بالسَّلام لا يجوز مطلقًا، سواء كان في الطريق أو في المنزل أو غيره.
فإن قيل: فهل يجوز أن يبدأه بغير السَّلام، من مثل قوله: كيف أصبحت، أو أمسيت، أو كيف حالك ونحو ذلك؟ فأقول: الذي يبدو لي والله أعلم الجواز؛ لأنَّ النهيَ المذكور في الحديث إنَّما هو عن السَّلام، وهو عند الإطلاق إنَّما يُراد به السَّلام الإسلامي المتضمن لاسم الله عز وجل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَضَعَهُ فِي الأَرْضِ فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ» أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (989).
ومما يؤيِّد ما ذكرته قول علقمة: «إنَّما سلم عبد الله (يعني ابنَ مسعود) على الدَّهاقين إشارة» أخرجه البخاري (1104) مترجمًا له بقوله: «مَن سلَّم على الذِّمِّيِّ إشارة»، وسنده صحيح، فأجاز ابنُ مسعود ابتداءهم في السلام بالإشارة؛ لأنه ليس السَّلام الخاص بالمسلمين، فكذلك يُقال في السلام عليهم بنحو ما ذكرنا من الألفاظ ...».
ثم قال: «مسألة أخرى جرى البحث فيها في المجلس المشار إليه، وهي: هل يجوز أن يُقال في رَدِّ السلام على غير المسلم: وعليكم السلام؟ فأجبت بالجواز بشرط أن يكون سلامُه فصيحًا بيِّنًا لا يلوي فيه لسانه، كما كان اليهود يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقولهم: السَّام عليكم، فأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإجابتهم بـ «وعليكم» فقط، كما ثبت في «الصحيحين» وغيرهما من حديث عائشة.
قلت: فالنظر في سبب هذا التشريع، يقتضي جواز الرَّدِّ بالمثل عند تحقق الشرط المذكور، وأيَّدت ذلك بأمرين اثنين:
الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اليَهُودَ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكَ» أخرجه الشيخان، والبخاري أيضا في «الأدب المفرد» (1106)، فقد علَّل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «فقولوا: وعليك» بأنَّهم يقولون: السَّام عليك، فهذا التعليلُ يعطي أنَّهم إذا قالوا: «السلام عليك» أن يرُدَّ عليهم بالمثل: «وعليك السلام»، ويؤيِّده الأمر الآتي وهو:
الثاني: عمومُ قوله تعالى )وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا( [النساء:86] فإنَّها بعمومها تشمل غير المسلمين أيضًا.
هذا ما قلته في ذلك المجلس، وأزيد الآن فأقول: ويؤيِّد أنَّ الآية على عمومها أمران:
الأول: ما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1107) والسياق له، وابن جرير الطبري في «التفسير» (10039) من طريقين عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «رُدُّوا السلام على مَن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا، ذلك بأنَّ الله يقول: )وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ ...( الآية» ...».
إلى أن قال: «والآخر: قول الله تبارك وتعالى: )لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين( [الممتحنة:8].
فهذه الآية صريحة بالأمر بالإحسان إلى الكفار المواطنين الذين يسالمون المؤمنين ولا يؤذونهم، والعدل معهم، ومما لا ريب فيه أنَّ أحدَهم إذا سلَّم قائلًا بصراحة: «السلام عليكم»، فرددناه عليه باقتضاب: «وعليك» أنَّه ليس مِن العدل في شيء بَلْهَ البِر؛ لأنَّنا في هذه الحالة نُسَوِّي بينه وبين مَن قد يقول منهم: «السَّام عليكم»، وهذا ظلمٌ ظاهر، والله أعلم ». انتهى كلام الشيخ عليه رحمة الله([19]).
وبهذا العرض الموجز لبعض ما كان من سيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته يتبيَّن لنا طرق معاملة الصدر الأوَّل من الصحابة للكفَّار وأهل الكتاب، وأنَّهم سِلمٌ على مَن سالمَهم، حربٌ على مَن حاربهم، قوَّامون بالقسط والعدل، فحريٌّ بالمسلم أن يكون على نهجهم ويتبع سبيلهم ليسلم من الغلو والجفاء، والله ولي التوفيق والسداد.