البيولوجيا
بيولوجيا هي كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين وهما (بيوس) أي حياة (ولوغوس) أي كلام ومعناهما علم الحياة وهو علم يبحث في الحياة المنبثة في سائر الأجسام الحية من نبات وحيوان وإنسان وغرضه استقراء مظاهره المتباينة وعرض جميع اَثارها على الأحياء المختلفة توصلاً لاستكناه نواميسها والإشراف على أسرارها قال الحيويون يمكن مقارنة سائر الكائنات الطبيعية بعضها ببعض من جهتين مختلفتين أولاهما من جهة ثبوتها واستقرارها وثانيتها من جهة حركتها واضطرابها فمن الجهة الأولىَ يمكن درس ثلاثة أشياء منها:
(1) مادتها أي العناصر المركبة لها والأصول الناتجة من اتحاد العناصر.
(2) مزج تلك المادة وشكل تركب تلك الأصول الناتجة من اتحاد عناصرها.
(3) شكلها الخارجي الذي يعطيه مجموعها.
ثم أنها من جهة حركتها يمكن أن يدرس فيه أمران
(1) كيفية تكونها ونشوها
(2) كيفية تركيبها الذي ينتج منه زيادة مادتها الجسدية وكيفية تحللها الذي ينتج انحلالها وتلاشيها.
تحديد الحياة على حسب مبادىء الماديين قال الأستاذ (بيشا) العالم بالتشريح المتوفي سنة (1802) م ما معناه يبحث الباحثون أن يجدوا بالنسبة للعلوم النظرية تحديداً للحياة وسيجدونه فيما أظن في هذه النظرية الجميلة العامة وهي (أن الحياة هي مجموع الوظائف التي تقاوم الموت) فهذا في الواقع ما عليه حال الأجسام الحية فإن كل ما يحيط بها يميل لملاشاتها وهذه الأجسام الجامدة الثابتة دائبة في التأثير عليها من كافة جهاتها وأشخاصها فيما بينها في حركة وانفعال مستمرين ولولا ما فيها من أصل فعال يبعثها للمقاومة والمقاواة لتلاشت حالاً ولم تبق طرفة عين. هذا الأصل الذي يسمح لها بالمقاومة هو (الحياة) وهي بالنسبة لطبيعتها وكنهها مجهولة لنا فلا يمكن تقديرها إلا بمشاهدة اَثارها وأعم تلك الاَثار هو ما يشاهد من أمر ذلك التفاعل العادي المتعاقب بين الأجسام الخارجية وبين الأجسام الحية وهو تفاعل يختلف باختلاف السن فما يشاهد من غلبة حياة الطفل على ما يحيط به من المبيدات هو لأن الحياة في الطفل مركزة شديدة أما بين الكهل من الرجال والطبيعة فيحصل تعادل في التفاعل وتتلاشى منه تلك الحمية الحيوية التي كانت فيه وهو طفل أما في سن الشيخوخة فينقص تأثير الحياة الداخلة على ما يحيط بها من المبيدات بينما يكون تأثير الطبيعة عليه حافظاً قوته وشدته وحينئذ تتصوح زهرة الحياة فيه شيئاً فشيئاً فمقياس الحياة والحالة هذه هو مقدار الفرق الموجود بين قوة الموثرات الخارجية المبيدة وبين قوة المقاومة الموجودة في الجسم الحي.
من هنا نرى أن الحياة في نظر (بيشا) هي المقاومة المشاهدة من الأحياء في مغالبة أشياء الطبيعة ولكن لا حظ عليه اَخرون بقولهم من الغلط اتهام الطبيعة بأنها مجتمع قوى مبيدة للحياة وملاشية لها فإن الطبيعة فضلاً عن كونها بريئة من ذلك هي العاملة لنمو تلك الحياة في الأجسام الحية ما تهيئه لها من البيئات المناسبة والشروط المحيية والأغذية المنمية فلا يجوز أن يقول الإنسان أن بين الطبيعة والإنسان حرباً مستعرة بل ميلا مستمراً من كليهما للوفاق والتلاوم. نعم أن القوة الحيوية متميزة عن القوة الطبيعية الكيماوية المختصة بالأجسام الجامدة ولكنها بتأثيرها فيها تستخدمها في أغراضها أكثر مما تقاومها وتعارضها، وبتعديل قواها وتوجيهها وجهات معينة تستخدمها في إظهار ضمائرها وتحقيق اَمالها أكثر مما تقف أمامها في حالة موازنة. فزعمه أن الطبيعة المميتة والأجسام الحية في نزاع مستمر زعم ليس له حقيقة لأنه يحذف عنصراً من العنصرين اللذين على تاَلفهما اتحادهما يقوم أمر الحياة بمعناها العامل.
فالحياة لا تقوم إلا بعاملين وهما الجسد المنتظم الذي تتجدد خلاياه على الدوام بحركة الحياة.
والوسط الموافق الذي هو مجموع عوامل خارجة توتي ذلك الجسد الحي بالمواد التي يتجدد بها. فإذا كان الحال كما قال بيشا أن الجسم الحي محاط بالمبيدات من سائر جهاته كان أمر الحياة فيه يكون غير معقول بالمرة وإلا فمن أين يتحصل على القوة التي تتيح له تلك المقاومة المستمرة ولو موقتاً نعم لا ينكر أن الطبيعة الخارجية قد تكون أحياناً ذات اَثار مبيدة مهلكة متى اعتراها حادث غيرها من وجهتها الصالحة ولكن هل هذا يمنع من القول بأن الطبيعة مادامت في حالتها العادية فهي ذات اَثار حافظة للحياة ومنمية لها
وجاء العالم الفزيولوجي كوفييه الفرنسي المتوفى سنة (1832) م بعد بيشا فوضع للحياة تعريفاً اَخر فقال ما معناه: «إذا أردنا أن يكون لدينا فكر صحيح على حقيقة الحياة ونظرنا إلى الكائنات المنحطة التي لا تعدو مظاهر الحياة فيها ظاهرتي التغذي والإفراز لرأينا أن الحياة هي عين الخاصة المتمتعة بها بعض الأجزاء الكيماوية المتحد بعضها ببعض من البقاء على حالة محدودة زمناً بدوام جذبها للمواد المحيطة بها وإدخالها في تركيبها وبإعطائها من مادتها جزءاً للعناصر المجاورة لها. فالحياة بهذا الاعتبار حركة ذات سرعة مناسبة وذات تركب قليل أو كثير اتجاهها ثابت وهي عاملة على جذب الذرات المتحدة النوع إليها وإبعادها عنها بطريقة مستمرة على صفة تكون الذرة معها أقرب شبهاً بالجسم الحي منها بالمادة التي جاءت منها.
وقال (بلانفيل) الطبيعي الفرنسي المتوفى سنة (1850) م «الجسم الحي هو نوع من وسط كيماوي دائم التحلل والتركب فتجذب إليه ذرات من الخارج جديدة وتخرج منه ذرات قديمة فهو جسم لا يثبت تركيبه على حالة واحدة مطلقاً» ثم قال: «فالحياة إذن هي نتيجة اتحاد كيماوي مستمر ومتكرر».
أما أوجست كونت الفيلسوف الفرنسي موسس الفلسفة الحسية المتوفي سنة (1850) م فسلك في تحديد الحياة مسلك (بلانفيل) المتقدم إلا أنه مال لبيان الفرق الكبير بين النواميس الطبيعية الكيماوية وبين النواميس الحيوية التي زعم كما زعم سابقه أنها نوع منها. فقال هو وتلامذته إن نظرنا إلى ظاهرة اتحاد كيماوي وجدنا في تفاعل أجزائها ما يشبه فعل الحياة في الجسم الحي الموجود ولكن مع هذا الفارق الهائل وهو أن أثر الاتحاد في هذه الظاهرة وقتي ينقطع بمجرد حصوله ولكن هذه الظاهرة نفسها في الجسم الحي الموجود في وسط مناسب له يتجدد بطريقة مستمرة بالتدافع الحاصل بين اَثار التحليل والتركيب. من هنا ترى أن الجسم الحي يحفظ قوامه وينمو ويترقى بخلاف الظاهرة الكيماوية المجردة في الجسم الجامد فإنها تتلاشى بمجرد تمامها وتنتهي ولا تتجدد.
وقال مولفو دائرة معارف القرن التاسع عشر الفرنسية عقب إيراد هذه الاَراء ما معناه أننا نوافق القائلين بأن حركة التحليل والتركيب هي حادث كيماوي وإن هذا الحادث الكيماوي وهو الشرط الأصلي للحياة هو أعم واَصل صفاتها ولكنه فيما يظهر لنا غير كاف لتجديد الحياة مثال ذلك كل نوتة (علامة موسيقية) من نوتات الموسيقى هي في ذاتها شيء طبيعي ولكن هذا لا يمنع أن الموسيقى بمجموعها هي شيء اَخر لا تدل عليه النوتة الواحدة كذلك يجب اعتبار حركة الذرات الداخلة في التحليل والتركيب وسيلة طبيعة ثابتة تستخدمها الطبيعة في تكوين بدائعها ولكن يجب الاعتراف بأنه مع هذا الناموس الكيماوي الثابت يوجد ما يدل على وجود قوى تدفع كل كائن لبلوغ غاية ما لا تحفظ فقط الحالة العضوية في الجسم الحي ولكنها تكونها أيضاً ولا تجدد الجسم الاَلي فقط ولكنها توجده أيضاً وتشكله حتى أنه يمكن أن يقال أن محض تجديد ذلك الجسم يمكن اعتباره تكويناً وإيجاداً مستمراً فهذا التكوين والاإيجاد هو الغاية من فعل الحياة أما الظاهرة الكيماوية من التحلل والتركيب فليست إلا وسيلة لذلك. قال مولفو دائرة معارف القرن التاسع عشر عقب ذلك أنه مما يسرنا أن ترانا موافقين في هذا الرأي علامتنا كلود برنار حيث قال: إن وسائل هذه الظواهر الطبيعية الكيماوية هي واحدة بالنسبة لجميع حوادث الطبيعة ولكنها في حالة اختلاط وعدم نظام على مثل الحالة التي تكون عليها الحروف المطبعية في علبة حتى تأتي القوة الحيوية المكونة فتستخدمها في تكوين الأجسام الحية المختلفة.
هذه أكبر الاَراء العلمية في الحياة وأنت ترى أنها كلها لم تخرج عن مجال الحدس والتخمين فإن سألت عما يقوله أولئك الماديون عن الروح الإنسانية التي تجلت للطبيعة بأفعالها واَثارها فأحدثت ولم تزل تحدث فيها أكبر الاَثار وأجملها أسمعتك عنهم اَراء عجيبة لا أقول أن علمهم أداهم إليها بل أهواوهم وأدعاوهم الإحاطة بكل شيء ولو توهماً ولا أقول أن كل العلماء على هذه الشاكلة فإن منهم من أدبه بالعلم فلزم حده كما تراه في كلمة حياة وروح. ما هي الروح الإنسانية; قال الدكتور هرمن شفلر ليست الروح إلا قوة من قوى المادة ناتجة من الأعصاب مباشرة. وقال (ويرشو) ليست الحياة إلا نوعاً من أنواع الميكانيكا. وقال بوخنر ليس الإنسان إلا نتيجة المادة وليس هو ذلك الكائن الذي يطريه الأخلاقيون فما له أدنى خاصة تميزه عن الحيوان. وقال (دوبواريمرن) يوجد في كل عصب تيار كهربائي وما الفكر إلا حركة من المادة. ونقل العلامة كامبل فلامريون الفرنسي عن بعض الماديين أنه قال: ليست خواص الروح غير وظائف المادة المخية فهي بالنسبة للمخ كالإفراز بالنسبة للغدد المفرزة. ونقل عن غير من تقدم أنه قال: إن إدراك الإنسان لوجود نفسه ليس إلا إحساساً بالحركات المادية المرتبطة في الأعصاب بتيارات كهربائية ومدركة بواسطة المخ. ونقل أيضاً ذلك العلامة الفلكي المعاصر لنا أنه ورد في أحد أعداد (المجلة الطبية) الباربسية يوماً هذه العبارة «ليست الفكرة الواحدة إلا اتحاد يشبه اتحاد حمض الفورميك والتفكر نفسه ناتج من الفوسفور الموجود في تركيب المخ فالفضيلة والإخلاص والشجاعة ليست إلا تيارات كهربائية عضوية» فرد عليها ذلك الأستاذ رداً بليغاً نريد إثباته هنا بياناً لموقف كبار العلماء. ودلالة على أن مثال هذه الخيالات تقابل بالمقت والازدراء من أهل الرزانة من العلماء الماديين أنفسهم فقال: «من أخبركم بذلك يا حضرات المحررين أن الناس يتوهمون أن معلميكم هم الذين علموكم هذا الهذيان مع أن الأمر غير ذلك. لأن هذه المزاعم ليست أمام النظر العلمي إلا هباء منثوراً على أني لا أدري أي الأمرين يستحق العجب أكثر أهذه الجسارة الصادرة من هولاء الممثلين العجيبين للعلم أم سخافة مزاعمهم إن نيوتن كان يقول إذا قرر أمراً يظهر لي أنه كذا وكذا. وكبر كان يبدأ أراءه بقوله استنزل حكمكم في هذه الاَراء. ولكن هولاء يقولون نحن نثبت نحن ننكر، هذا موجود، هذا غير موجود، العلم أقر العلم دحض.
مع أنه ليس فيما يقولون ظل من البرهان العلمي. إلى أن قال أنكم تجسرون على أن تعزوا العلم هذا العبء الثقيل من ضلالكم ولئن سمعكم لأنكم أبناوه فقد حق له أن يضحك استهزاء بغروركم. إنكم تقولون العلم يثبت. العلم ينفي. العلم يأمر. العلم ينهى. وبذلك فإنكم تضعون على شفتي هذا العلم المسكين هذه الكلمات الضخمة وتدخلون إلى فواده هزة الكبر والعجب، لا أيها السادة إن العلم في هذه المسائل لا ينكر شيئاً ولا يثبت شيئاً ولكنه يبحث إلخ.
وقال العلامة الطبيعي الإنحليزي (ميلين إدوارد) «يجب أن يدهش الإنسان حينما يرى أن أمام هذه المشاهدات الناطقة المتكررة رجالاً يدعون لك أن كل هذه العجائب الكونية ليست إلا نتائج الاتفاق أو بعبارة أخرى نتائج الخواص العامة للمادة وأثر لتلك الطبيعة التي تكون مادة الخشب ومادة الحجر وإن الهامات النمل مثل أسمى مدركات القوة المدركة الإنسانية ليست إلا نتيجة عمل القوى الطبيعية أو الكيماوية التي يتم بها تجمد الماء واحتراق الفحم وسقوط الأجسام. إن هذه الفروض الباطلة والأولى أن نقول أن هذه الأضاليل العقلية التي يفترونها باسم العلم الحسي قد دحضها العلم الصحيح دحضاً فإن الطبيعي لا يستطيع أن يعتقدها أبداً» إلخ.
نقول أن هذه الأقاويل في الحياة نشأت من حصر الماديين أنفسهم في عالم هذا الطين الأرضي وقصرهم قوى الفكر والنظر على الطبيعة المحسوسة حرصاً على أصلهم القائل لا موجود غير المادة فلم يصلوا إلا للمدركات المادية الصرفة ولكنهم لو لم يتعصبوا لأصلهم ذلك وألانوا شكمائمهم قليلاً وبحثوا عن روح الإنسان في الإنسان ذاته لتجلت لهم اَثار الروح كما تجلت الاَن على من يبحثون في المانييزم والأبنوتزم والأسبرتزم انظر: هذه الكلمات ولأصبح لديهم على وجود الروح برهان محسوس ولكن لهم على الطبيعة فكر لا حد له ولا نكشف لهم من عالم الجمال مدى لا يتوهم وجوده العالم المادي توهماً. قام الأستاذ (لودج) الرياضي الشهير الذي يفتخر به الإنكليز في موتمر جمعية تقدم العلوم الإنجليزية الذي انعقد في سنة (1892) م وتلا مقالة كان لها تأثير كبير في العالم كله قال منها مشيراً للأسبرتزم «إن الحد الفصل بين العالمين المادي والروحاني قد قرب أن ينهار كما انهارت قبله فواصل كثيرة غيره وبهذا فسنصل إلى علم سام على وحدة الطبيعة. إن الأشياء لا حد لها كما أن الوجود نفسه لا غاية له ولا نهاية وإن الذي نعلمه الاَن منه لا يساوي شيئاً بالنسبة لما غاب عنا علمه. ولو اكتفينا بما اكتشفناه للاَن واقتنعنا به نكون إذاً قد خنا أقدس الواجبات العلمية».
إذا تقرر هذا كله نقول أن كل شرقي أو غربي يلحظ فيه أنه لا يزال على المذاهب المادية فهو على الفكر القديم البائد يمثل دوراً مضى لشأنه ويجني سنة أماتها اللّه ويدل دلالة صريحة على أنه ابن جيل سابق وتريكة قوم لم يقم لهم الوجود وزناً فسبحان المعز المذل.