إصلاح النفوس: (دوره وأهميته)
فضيلة الشيخ عمر الحاج مسعود
إنَّ اللهَ ـ جلَّ وعلا ـ بعث الأنبياءَ والمرسلين ـ عليهم الصَّلاة والسَّلام ـ وأنزل الكتبَ وشرع الأحكامَ لتطهير القلوب من أَدْرَانِها وتزكيةِ النُّفوس من أَوْضَارِهَا، وأصلُ ذلك وأساسُه توحيدُ الله وعبادتُه وحده لا شريك له، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾ [الأنبياء: 25].
فلا سعادةَ للعبد ولا صَلاَحَ لقلبه ونفسه إلَّا بتوحيد ربِّه وعبادته ومحبَّتِه وتعظيمه وخوفه ورجائه، قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22].(1).
وقال ـ عزَّ وجلَّ ـ مُبَيِّنًا وظيفةَ نبِيِّه محمدٍ ـ صلَّى الله علَيه وسلَّم ـ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)﴾ [الجمعة: 2].
يُزكِّيهم: يطهِّرُهم من الشِّرك والجهلِ والبدعة والأعمال الفاسدةِ والأخلاق القبيحةِ والصِّفات الذَّميمة، ويُنَمِّي نفوسَهم بالتَّوحيد والطَّاعة والأخلاق الحسنة.
ويعلِّمُهم الكتابَ والحكمةَ؛ أي القرآن والسُّنَّة، فبالعلم والتَّزكية ـ وإن شئتَ قلتَ: «التَّصفية والتَّربية» ـ تَطْهرُ قلُوبُهم وتَزْكُو نفوسُهم وتَصْلُح أعمالُهم وتَحسُن أخلاقُهم، ولهذا لمَّا هاجر بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الحبشة سألهم النَّجَاشيُّ عن دينهم، فقال له جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «أيُّها الملِك كنَّا قومًا أهلَ جاهليةٍ نعبُد الأصنامَ، ونأكل الميتةَ، ونأتي الفواحشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونُسِيءُ الجوارَ، ويأكل القويُّ منَّا الضَّعيفَ، فَكُنَّا على ذلك حتَّى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرف نسبَه وصِدْقَه وأمانتَه وعَفَافَه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبدَه ونخلعَ ما كنَّا نعبد نحن وآباؤُنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرنا بصِدق الحديثِ، وأداء الأمانةِ، وصلة الرَّحِمِ وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارمِ والدِّماءِ، ونهانا عن الفواحشِ وقولِ الزور ... ».(2).
وقام النَّبِيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بهذا العمل ـ إصلاح النُّفوس ـ أحسنَ قيام وأكملَه وأَتَمَّهُ حتَّى صار جيلُ الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ أعظمَ النَّاس عِلْمًا وأكملَهم إيمانًا وأبَرَّهُم قلوبًا وأتقنَهم عَمَلاً وأحسنَهم خُلُقًا، وجعل الله منهم خيرَ أمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاس، قال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [آل عمران: 110].
إنَّ إصلاحَ النُّفوس وتربيتَها بالعلم النَّافع والعملِ الصالح والتَّوحيدِ والسُّنَّةِ أصلٌ في بِنَاءِ المجتمع على منهاج النبوَّة.
وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم وجدنا انحرافًا كبيرًا في عقيدتهم وأخلاقهم، ورأينا فسادًا عريضًا في عباداتهم ومعاملاتهم، فيتعيَّن على أهل العلم وطلبته ـ وهم المصلحون حقًّا ـ تعليمُ النَّاسِ عقيدتَهم وعباداتِهم وجميعَ أمورِ دينِهم، وتحذيرُهم من الأهواء المضِلَّة والفِتَنِ المهلكة، وإصلاحُ الفساد الواقع في العقيدةِ، مثل: عبادةِ القبور ودعاءِ الموتى ومعاملةِ السَّحرةِ والمشعوذين، وإزالةُ الآفات الاجتماعيَّة الَّتي عمَّتْ وأَعْمَتْ، مثل: الرِّبَا والزِّنَا والرّشوة وتعاطي المخدِّرات ... ، وتصحيحُ المفاهيم الخاطئةِ المتعلِّقة بمسائل الإيمان والكفر، والسُّنَّةِ والبدعةِ، والولاء والبراء، والمعروفِ والمنكر ... حتَّى تُفْهَم فهمًا صحيحًا يُوافق الكتابَ والسُّنَّةَ بفهم سَلَفِ الأمَّةِ.
إنَّ الإصلاح هو عمليَّةُ إنقاذ النُّفوس والقلوب من ظُلمات الجهل والشِّرك والبدعة والمعصية إلى نور العلم والتَّوحيد والسُّنَّةِ والطَّاعة، قال الله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾ [الأنعام: 122]، وبذلك تَعْمُرُ البواطنُ بالإيمان والتَّقوى والإخلاص والمراقبة والمحبَّة والخوف والرَّجاء، وتصلحُ الظَّواهر بالعمل بالشريعة السَّمْحَةِ والسُّنَّةِ المطهَّرة، وتظهر عليها الأخلاقُ الحسنةُ والمعاملاتُ الطَّيِّبَة، قال الله تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)﴾ [آل عمران: 113 ـ 114].
وقال النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ».(3).
إنَّ إصلاح الفرد والمجتمع والأمَّة هو السَّبَبُ في رجوع مَجْدِ المسلمين الأصيل، وعَوْدَةِ عِزّهم الأثيل، قال الله تعالى: ﴿وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 08]، وقال النَّبِيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلى دِينِكُمْ»(4).
وهو سببٌ كذلك لنيل الرِّفعة والشَّرفِ والبعدِ عن الهلاك والتَّلَفِ، وانتشار الأمن والسَّلام وحلول الأمان والوِئام، قال الله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ [العصر: 1 ـ 3]، وقال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾ [الأنعام: 82]، وقال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ [النحل: 97]، وقال النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»(5) .
وجاء تفسير الغرباء عند غير مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قيل: مَنْ هُم يا رسول الله؟! قال: «الَّذِينَ يَصلُحُون إذَا فَسَدَ النَّاسُ» (6) .
وهو سبيل النَّصْرِ والتَّمْكين والانتصار على أعداء الدِّين، قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ [النور: 55]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾ [محمد: 07]، وقال النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ»(7).
وهو كذلك سبيلُ النَّجاة من الفِتَنِ وطريقُ السَّلامة من المحَنِ، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ [هود: 116 ـ 117]، وقال النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ»(8).
إنَّ شخصيةَ المسلم المنشودَةَ ومكانَتَه المفقودةَ لن تعود إلاَّ بالصَّلاَحِ والإصْلاَحِ بالمعنى الشرعيِّ الصَّحيح، ومن رَامَ الوصولَ إلى ذلك دونَ تحقيقِ التَّوحيدِ الخالصِ والعبادةِ الصَّحيحةِ والأخلاق الحسنةِ والاجتماعِ على الكتاب والسُّنَّة بفهم سلف الأمَّة، فَمَرَامُهُ ضَرْبٌ مِنَ المُحَالِ، وسُؤالُه نوعٌ من الخيالِ.
قال الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: 109].
وصدَق إمامُنا مالك، إمامُ دار الهِجْرَةِ ـ رحمه الله ـ، حيث قال في كلمتِه الذَّهبيَّة: «لا يَصلُح آخرُ هذه الأمَّة إلاَّ بما صَلَح به أوَّلها».
فنسأل الله العظيمَ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا صالحين مُصلحين هداةً مُهْتَدِين، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ونبيِّه محمَّد وعلى آله وصَحْبِه أجمعين.
(1 ) انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 24)، «جامع العلوم والحكم» (1/ 153).
(2) أخرجه أحمد (رقم1740).
(3) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(4) أخرجه أبو داود (3462).
(5) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة (145).
(6) انظر: «الصحيحة» (1273).
(7) أخرجه البخاري (2896)، والنَّسائي (3178) واللَّفظ له.
(8) رواه أحمد (23620)، والتِّرمذي: (2169)، وقال: «هذا حديث حسن».