لشرك والكبر أساس كل ذنب
الشيخ حسن آيت علجت
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وبعد:
ففإنَّ أساسَ الذُّنوب الَّتي عُصيَ بها اللهُ -عزَّ وجلَّ-، ذنبان عظيمان مُوبِقَان وهمـا: الشِّرْكُ والكِبْرُ([1] ).
أمَّا الكِبْرُ
وهو أوَّل الذَّنْبَيْن من حيث التَّرتيبُ الزَّمنيُّ ـ فإنَّ أصْلَه إبليسُ، وهو الَّذي فعَلَ ذلك أوَّلًا، وذلك عندما خلَق اللهُ آدمَ بيَدَيْهِ، ونفَخَ فيه من رُوحِه، وأَسْجَدَ له ملائكتَه، وكان إبليسُ يعبدُ اللهَ معهم، فلمَّا سجد الملائكةُ لآدمَ، امتنعَ إبليسُ وأبى واستكبر، فكان ذلك سببًا لطَرْدِه من الجَنَّة.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين﴾ [البقرة:34]، وقال أيضًا: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِين (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِين (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيم (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّين (35)﴾ [الحِجر:28-35]، في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى تبيِّنُ أنَّ سببَ امتناعِ إبليسَ من السُّجود لآدمَ، وعِصْيَانِه لله ـ تعالى ـ حينما أمَرَه بذلك هو الكِبْرُ.
وحقيقةُ الكِبْرِ جاء بيانُها في الحديث الذي يَرْوِيه مسلم عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا: «الكِبْرُ بَطْرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ»، وبطْرُ الحَقِّ: هو دفْعُه وإنكارُه ترفُّعًا وتجبُّرًا، وغمطُ النَّاس: احتقارُهم وازدراؤُهم([2] ).
أمَّا جزاءُ الكِبْرِ فهو مذْكُورٌ في قول الله ـ تعالى ـ: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار﴾ [غافر:35] كما أنَّه مذكور أيضًا في أوَّلِ حديث ابن مسعودٍ الذي سبَق ذِكْرُه حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِه ِمثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ».
أمَّا الشِّرك:
فهو أعظمُ الذَّنْبَيْن وأخطرُهما؛ إذْ إنَّه الذَّنبُ الَّذي لا يغفِرُه الله ـ تعالى ـ إذا لمْ يَتُبِ الإنسانُ منه، قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ [النساء:48].
وحقيقةُ الشِّرك أنْ تجْعَلَ لله نِدًّا وهو خلَقَك، كما جاء بيانُه على لسان النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الَّذي رواه الشَّيخان عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «قُلتُ: يا رسولَ الله! أيُّ الذَّنْب أعظَمُ عندَ الله؟» قال: «أنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وهُوَ خلَقَك»، والنِّدُّ: الشَّبيه، يُقال: فلانٌ نِدُّ فلانٍ ونَديدُه، أيْ: مِثْلُهُ وشَبِيهُهُ.
والشِّركُ أيضا أصلُهُ من إبليسَ فهو الذي أمَرَ به وزيَّنَه في قلوب مُقْتَرِفِيهِ، وكان بَدْءُ ذلك في قوم نُوحٍ ـ عليه السلام ـ، وكان كيدُه لهُم من جِهةِ الغلوِّ في الأموات الصَّالحين، كما روى ذلك الإمام البخاري عن تَرْجُمانِ القرآنِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح:23]، قال: «هذه أسماءُ رجالٍ صالحينَ مِن قوم نوح، فلمَّا هلَكوا، أوحى الشَّيطانُ إلى قومهم أن اِنْصِبوا إلى مجَالِسهِم الَّتي كانوا يَجلسون أنْصَابًا، وسَمُّوها بأسمائهم، ففعَلوا، فلم تُعْبَدْ؛ حتَّى إذا هلَكَ أولئك، ونُسِخَ العِلْمُ: عُبِدَتْ».
فكان هؤلاء المشركون من قوم نوحٍ هم أوَّلَ صِنفٍ من المشركين، وشِرْكُهُم هذا: تَعْظِيمُ الموتى، هو الشِّرك الأرضيُّ، وهو أوَّلُ شِرْكٍ بالله طَرَقَ العالَم؛ فبعَثَ اللهُ نبيَّهُ نُوحًا ـ عليه السلام ـ ـ وهو أوَّلُ رسولٍ بُعِثَ إلى المشركين ـ فمكَثَ في قومه ألفَ سنةٍ إلَّا خمسين عامًا يدعُوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه.
ولم يقْنَعْ عدوُّ الله إبليسُ بهذا الشِّركِ حتَّى زيَّنَ لأوليائه شِركًا من طِرَازٍ جديدٍ، ألَا وهو عِبَادَةُ الكواكب، وهو الشِّرك السَّماويُّ، وكان هذا الشِّركُ من حظِّ قومِ إبراهيمَ ـ عليه السلام ـ، وهم النَّماردة أهلُ بابِلَ، وكانوا مع هذا يعبدون الأوثان التي هي تماثيلُ وطلاسِمُ لتلك الكواكب، أو هي أمْثَالٌ لِـمَن ماتَ من الأنبياء والصَّالحين وغيرِهِم؛ فبعث الله ُرسولَه إمامَ الحنفاءِ وأبا الأنبياءِ إبراهيمَ خليلَ الرحمن ـ عليه السلام ـ، فأنكَرَ عليهم عبادة الأوثان، وكسَرَها بيده، وناظَر ملكَ بابلَ وحاجَّه، ودعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له([3] ).
أمَّا جزاء الشِّرك
فمذكورٌ في قوْلِ الله ـ جلَّ وعلا ـ: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار﴾ [المائدة:72]، مِن أجْلِ ذلك كان من وصايا الأنبياءِ والصَّالحين التحذيرُ والتَّنفيرُ من هذيْن الذَّنْبَيْن القَبيحَيْن:
أمَّا الأنبياءُ:
فلِمَا رَوَى عبدُ الله بن عمرو بن العاص ـ عنهما ـ عن رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ نَبِيَّ اللهِ نُوحًا لمَّا حَضَرَتْه الوَفَاةُ، قَالَ لابْنِهِ: إنِّي قاصٌّ عَلَيْكَ الوَصِيَّةَ: آمُرُك باثْنَتَيْنِ وأنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْن؛ آمُرُك بِـ«لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ»، فإنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ والأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، ولوْ أنَّ السَّماواتِ السَّبْعَ والأَرَضينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلَقَةً مُبْهَمَةً إلَّا قَصَمَتْهُنَّ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، و«سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» فإنَّها صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا يُرْزَقُ الخَلْقُ، وَأنْهَاكَ عَنِ: الشِّرْكِ وَالكِبْرِ»([4] ).
والمقصود بالوصيَّة هنا: الوصيَّةُ المعهودةُ لدى الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ، فـ«أل» هنا للعهد الذِّهنيِّ، لاسيَّما وقد جاء ما يُؤيِّدُ ذلك في القرآن الكريم، كقوله سبحانه: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾ [البقرة:133].
وأمَّا الصَّالحون:
فقد قال الله ـ عز وجل ـ: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم(13)﴾ إلى أنْ قال: ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور﴾[لقمان:13-18]؛ والمخْتَالُ هُوَ المُتَكَبِّرُ.
هذا؛ وقد كان من كَيْدِ إبْليسَ لليهودِ والنَّصارى أنْ أخذوا من هاتين الخصلتين المذمومتين بِأَوْفَرِ حظٍّ ونصيب: فأمَّا اليهود فيَغلِبُ عليهم الكبْرُ ويقلُّ فيهم الشِّرك، أمَّا النَّصارى فيغلِبُ عَليهِم الشِّرك ويقلُّ فيهِم الكِبْرُ.
قال الله تعالى في شأن اليهود: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُون﴾ [البقرة:87]، وقال أيضًا ـ جلَّ في عُلاه ـ: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِين﴾ [الأعراف:144] إلى أنْ قال ـ عز وجل ـ: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِين﴾ [الأعراف:146]، وهذا هو حالُ المُسْتَكْبِرِ مِنْ أمْثَالِ هؤلاء اليهود، فإنَّه لا يقبلُ إلَّا ما يهواه، ويرُدُّ الحقَّ ويجْحَدُه إذا خالَفَ هَوَاهُ.
أمَّا النَّصارى فقال الله تعالى في شأنهم واصِفًا ما هُمْ عليه من الشِّرك: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾ [التوبة:31]، وقال أيضًا في سِيَاق الكلام عنهم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون﴾ [آل عمران:64]، وقال ـ عز وجل ـ: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار﴾ [المائدة:72]، فأخْبَرَ سبحانه أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ أمَرَهم بالتَّوحيد، ونهَاهُم أن يُشرِكوا به أو بغيْرِه كما فعَلوه.
ومن عجائِبِ حِكْمَةِ اللهِ تعالى، أنْ عاقَب كُلاًّ من الأُمَّتيْن بنقيضِ قَصْدِها: فلمَّا كان أصْلُ دينِ اليهودِ الكبرَ: عاقَبَهم بالذِّلَّة، فقال سبحانه فيهم: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 112]، وكذلك لمَّا كان أصْلُ دينِ النَّصارى الإشراكَ بتعديد الطُّرُق إلى الله: أضلَّهم عن سبيلِه القويم وصراطِه المستقيم، فقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل﴾ [المائدة: 77]([5] ).
أمَّا السَّبيل إلى علاج هاتين الآفتين:
فإنَّ من رحمة الله تعالى بعباده أنْ جَعَلَ لِكُلِّ داءٍ ضِدًّا من الدَّوَاء يُعَالَجُ به، فقد قرَّر الإمامُ ابن القيِّم في «زاد المَعَاد» (4/3 ـ 11) أنَّ مِنْ أصُولِ الطبِّ وقوَاعِدِه: اِسْتِفْرَاغُ الموادِّ الفاسدة، ودفْعُ العلَّةِ الموجودةِ بالضدِّ والنَّقيضِ؛ وعليه فإنَّ من أضْدَادِ الشِّرك والكِبْر: الإسلامُ الذي هو دينُ الله الَّذي أنزَلَ به كُتُبَهُ وبعَثَ به رُسُلَه، ذلك بأنَّ الإسلامَ يتضمَّنُ معنيَيْن( [6]): معنى السَّلامةِ، ومعنى الاستسلام.
أمَّا السَّلاَمَةُ:
فهي الإخلاصُ الَّذي هو: إفرادُ الله تعالى بالقصْدِ في الطَّاعة، وهو ضدُّ الشِّرك ونقيضُهُ، تقول العرب([7] ): سلِمَ لي الشَّيء الفلانيُّ، أي: خَلُصَ لي، ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ﴾ [الزُّمَر:29]، أي عبدًا خالصًا لسيِّده، لهذا قال ابن كثير في «تفسيره» (1/559) عند تفسير قوله ـ عز وجل ـ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله﴾ [النساء:125]: «أي: مَنْ أخْلَص العمَلَ لله وحده لا شريك له، كما قال ـ عز وجل ـ: ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران:20]» اهـ.
أمَّا الاسْتِسْلامُ:
فهو الانقيادُ والخضوعُ المنافيان للكِبْرِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون﴾ [آل عمران: 83]، أي: وله انْقَاد وخضَعَ مَنْ في السَّماوات مِنَ الملائكة، ومَنْ في الأرض مِنَ سائِرِ المخلوقات الأرضيَّة، طائعين أو مُكْرَهين([8] ).
ومن أضدادِ الشِّرك والكبْر الَّذي يُدْفَعان به: التحقُّقُ بـ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ [الفاتحة: 5] عِلْمًا ومَعْرِفَةً، وعَمَلاً وتَطْبِيقًا.
ذلك بأنَّ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ معناه: لا نعبُدُ غيرَك، ويتضمَّنُ إفرادَ الله ـ جلَّ وعَلاَ ـ بالعِبَادَةِ والتَّألُّه دُونَ مَن سِوَاه، وهذا هو حقيقةُ الكلِمَةِ الطيِّبَةِ التي هي رأسُ الإسلامِ، وأفْضَلُ الكلام وهي: «شهادة أن لا إلهَ إلَّا الله»، وهذا الَّذي يَنْقُضُ بُنيانَ الشِّرك، ويُقَوِّضُ أساسَه وأركانَهُ.
أمَّا ﴿وإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ فمعناها لا نستعينُ بسواكَ، ويتضمَّنُ التبرُّؤَ من حوْلِ العبد وقُوَّته وطَوْلِهِ، وهو عَيْنُ التَّواضُعِ والاستسلام لله تعالى اللَّذَيْن يقصمان الكِبْرَ ويَجْتَثَّانِهِ من أُصُولِهِ.
لهذا قال ابن القيِّم في «مدارج السَّالكين» (1/54): «وكثيرًا ما كُنتُ أسمَعُ شيخَ الإسلام ابْنَ تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ تدْفَعُ الرِّياءَ، و﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ تدفَعُ الكِبْريَاءَ»» اهـ.
والرِّياءُ مِن الشِّرك، كما ثبَت ذلك مِنْ حديث مَحْمُود بْنِ لَبِيدٍ ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إنَّ أخْوَفَ مَا أخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الأصْغَرُ»، قالوا: ومَا الشِّرْكُ الأصغر؟ قال: «الرِّيَاءُ، يقولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأَصْحَابِ ذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا جَازَى النَّاسَ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً»([9] ).
من أجْل ما ذُكِرَ فإنَّ اللهَ تعالى شَرَعَ لنا قراءة هاتَيْنِ الكلمتين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ في كُلِّ رَكعَةٍ من كُلِّ صَلاَةٍ، وذكَرَ سبحانه بعدَهُما الأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ خالفتَا مُقْتَضَاهُما: أُمَّةَ اليهودِ المغضوبِ عليهم، وأمَّةَ النصارى الضَّالِّين، كما في حديث عديِّ بن حاتم الطَّائي ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا: «اليَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ»([10] )، فقال ـ عز وجل ـ: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّين﴾ [الفاتحة:6-7].
والمقصودُ من هذا كلِّه التَّحذيرُ من هذَيْن الشُّبْهَين الفاسِدَيْن( [11]): مِنْ حَالِ قَوْمٍ فيهم اسْتِكْبَارٌ وقَسْوَةٌ عن العبادة والتَّألُّه، وقد أُوتُوا نصِيبًا من الكتاب وحظًّا من العِلْم؛ وقَوْمٍ فيهِمْ عِبَادةٌ وتألُّهٌ بإِشْرَاكٍ بالله، وضلالٍ عن سبيل الله وَوَحْيِه وشَرْعِه.
فيتقرَّرُ من هذا كُلِّه أنَّ الشِّركَ والكِبْرَ أساسُ كلِّ ذَنْب في الإنس والجِنِّ، ثُمَّ إنَّ مِن النَّاس مَنْ يجمَعُ بين هاتيْن الخصلَتيْن المذمومتيْن، ومنهم مَن ينفرِدُ بأَحَدِهما، والمؤمنُ الصَّالحُ عافاهُ الله منهما.
فعلى كلِّ مُسْلِمٍ أن يحْذَرَ أشدَّ الحَذَرِ من هذَيْن الذّنبَيْن الممقوتَيْنِ ويجتَنِبَهُما كُلَّ الاجْتِناَبِ.
وسبحانك اللَّهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرُك وأتوبُ إليك.
( 1 ) انظر: «فتاوى ابن تيمية» (18/330)، و«تفسير ابن كثير» (1/78 ـ ط: دار التراث).
( 2 ( انظر: «شرح النووي على مسلم» (1/275 ـ ط: دار المعرفة).
( 3 ) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (2/303 ـ 304 ـ ط: العَقْل), «تصحيح الدعاء» لبكر أبو زيد (216 ـ 219).
( 4 ) صحيح؛ أخرجه أحمد، والبخاري في «الأدب المفرد»، انظر: «الصحيحة» (134)، «صحيح الأدب المفرد» (426).
( 5 ) انظر: «فتاوى ابن تيمية» (7/624 ـ 628).
( 6 ) انظر: «فتاوى ابن تيمية» (7/623 و635) و(10/14)، وانظر له أيضًا «الاقتضاء» (2/376).
( 7) انظر: «لسان العرب» لابن منظور (باب: سلم وباب: شكس).
( 8 ) انظر: «أيسر التفاسير» لأبي بكر جابر الجزائري (1/340).
( 9) صحيح؛ رواه أحمد وغيره، «الصحيحة» (951).
( 10 ) صحيح؛ رواه أحمد والترمذي وابن حِبَّان، انظر: «صحيح الترمذي» (2354)، «تخريج الطّحَاوية» (811).
( 11 ) انظر «فتاوى ابن تيمية» (7/634).