وبشر الصابرين
الشيخ نجيب جلواح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فلقد حض ربنا تعالى الخلق ـ في آيات قرآنية كثيرة ـ كما حث رسولنا صلى الله عليه وسلم العباد ـ في أحاديث نبوية صحيحة ـ على التحلي بالأخلاق الحسنة والتخلق بالخصال النبيلة، ورتب ـ تعالى ـ على ذلك ثوابا، وجزاء كبيرا، ألا وهو الفوز بالجنة ـ دار الأبرار ـ وقد أشاد الله تعالى بتلك الأخلاق ـ في كتابه العزيز ـ ورغّب نبيه صلى الله عليه وسلم في خلال حسنة كثيرة.
وفي هذه المحاولة المتواضعة، نحاول أن نسلط الضوء على خلق من تلك الأخلاق السامية، ألا وهو خلق: «الصبر» ولنبدأ ـ أولا ـ بتعريفه:
معنى الصبر:
لغة: الصبر ـ في الأصل ـ الحبس المادي، والمنع.
اصطلاحا: الصبر ـ في المعنى المعنوي ـ حبس النفس على طاعة الله تعالى ـ على ما يقتضيه الشرع ـ وكفها عن المعاصي، والرضى بقضاء الله وقدره، والصبر: حبس النفس عن التسخط، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب... إلخ.
تحدث القرآن الكريم عن أخلاق كثيرة، وتفاوت ذكر ذلك ـ حسب أهميتها ـ ومن أجل تلك الخلال الرفيعة: خلق «الصبر» الذي هو أعظم أخلاق ديننا، بل إن أغلب خصال الخير مردها إليه؛ وبرهان ذلك: أن هذه الكلمة المباركة كررت ـ بمشتقاتها ـ في كتاب ربنا تعالى: أكثر من مائة مرة، مما يدل على أهميته، وعلو مكانته، لذا رتب الله على خلق «الصبر» كل خير ـ في الدنيا والآخرة ـ و«إن الله ـ سبحانه ـ جعل الصبر جوادا لا يكبو، وجندا غالبا لا يهزم، وحصنا حصينا لا يهدم ولا يلثم، فهو والنصر أخوان شقيقان» [«عدة الصابرين» لابن القيم (ص6)].
ولما كان الصبر عظيما، علق الله فلاح المسلمين به، ودخولهم إلى الجنة، فقال تعالى: ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان: 12]، وقال سبحانه: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 23 ـ 24]، وقال عزَّ من قائل: ﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا﴾ [الفرقان: 75].
وللصبر فضائل كثيرة ـ بالإضافة إلى ما ذكر ـ منها:
ـ أنه خير ما رزق العبد؛ قال تعالى: ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النساء: 25] وقال أيضا: ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ [النحل: 126]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ، وَلاَ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه الحاكم عن أبي هريرة [«صحيح الجامع» (5626) و«السلسلة الصحيحة» (448)].
ـ استحقاق الصابر لمعية الله تعالى، قال سبحانه: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾ [الأنفال: 46].
ـ محبة الله تعالى للصابرين، قال سبحانه: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146].
ـ ثناء الله تعالى على الصابرين، قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون﴾ [البقرة: 177].
ـ استحقاق الصابرين للأجر العظيم والثواب الكبير، قال تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 96]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [لزمر: 10].
ـ للصابرين البشرى ـ في الدارين ـ قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
ـ صلوات الله تعالى على الصابرين، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 156 ـ 157].
ـ الإمامة في الدين: تنال بالصبر واليقين؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
ألوان من الصبر:
الصبر أنواع كثيرة ـ بحسب المتعلقات ـ لاشتماله على خلال الإسلام، وأخلاقه الفاضلة؛ لذا لا تكاد تجد مقاما من مقامات الدين ـ من أولها إلى آخرها ـ إلا ولها ارتباط متين، وصلة وطيدة بخلق «الصبر» ولنضرب لذلك أمثلة:
الصبر على شهوة المعدة يسمى: قناعة، وضده: الشره، والصبر عن شهوة الفرج يسمى: عفة، وضده: الشبق، والصبر عن حفظ السر يسمى: كتمانا، وضده: نكث العهد، والصبر عن فضول المعيشة يسمى: زهدا، وضده: الحرص، والصبر عند القتال يسمى شجاعة، وضده: الجبن، والصبر عند الغضب يسمى حلما، وضده الحمق، والصبر عند المصيبة يسمى صبرا، وضده: الجزع أو الهلع، والصبر عند الحرمان يسمى: ضبط النفس، وضده: البطر، والصبر عند توقع الأمور يسمى: تؤددة، وضده: الطيش، والصبر عن شح النفس وإمساكها يسمى جودا، وضده: البخل.
تنبيه: قد ذكر الله تعالى هذه الأنواع من الصبر، وسمى الكل صبرا، فقال سبحانه: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، فالبأساء: المصيبة، والضراء: الفقر، والبأس: الحرب.
الصبر ضرورة ملحة وفريضة شرعية:
الصبر يلازم ابن آدم في جميع أحواله، ويرافقه في كل تقلباته، فهو ضرورة لازمة، بل به بلوغ الآمال وإنجاح الأعمال؛ فلولا الصبر ما انتصر حق، ولا نهضت أمة؛ ولولا صبر الزراع على بذره ما حصد، ولولا صبر الغارس ما جنى، ولولا صبر طالب العلم ما نجح ولا فاز، ولولا صبر المجاهد في سبيل الله ما انتصر؛ فمن صبر ظفر، ومن ثبت نجح، ولله در من قال:
لا تحسب المجد تمرا آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
ولما كان الصبر بهذه المثابة: أمر الله تعالى ـ في كثير من الآيات ـ منها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200] ونهى عن ضده، فقال سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ [الأحقاف: 35].
والصبر الممدوح: هو الذي يكون ابتغاء وجه الله تعالى وحده، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ [لرعد: 22] والذي لا سخط فيه، ولا شكوى معه، ولا تبرم ولا جزع بعده، ولقد أحسن من قال:
وإذا شـكـوت إلى ابن آدم إنمـا تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
والصبر المحمود صاحبه: هو ما كان في أوانه، ولم يأت بعد وقته، لأن الناس جميعا يصبرون، لكن شتان بين صبر الاختيار وصبر الاضطرار؛ روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي»، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنَّه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى».
أقسام الصبر:
الصبر أقسام عديدة، وهذا باعتبارات مختلفة:
الصبر باعتبار جهة التحمل: وهو ضربان:
ضرب بدني: كتحمل المشاق، والثبات عليها؛ وهو: إما بالفعل: كتحمل ثقل العبادات (كالوضوء على المكاره، والقيام الطويل في الصلاة والحج...) أو باحتمال المرض الشديد، أو الجراحات المؤلمة، أو الضرب الموجع... إلخ.
وضرب نفسي: وهو ضبط النفس، حتى تصبر على مشتهيات الطبع، والهوى، وهو المحمود التام.
الصبر باعتبار اختلاف الحال: وهو ثلاثة أنواع:
صبر على الطاعة: كالصبر على أداء الصلوات في أوقاتها.
والصبر عن المعصية: كاجتناب ما حرم الله من الموبقات والآثام.
والصبر على قضاء الله وقدره: والذي لا كسب للعباد فيه، كالصبر على فقد الولد، وذهاب المال.
فائدة: تحصيل النوعين الأوليين من الصبر: سبب: سبب دخول الجنة، وسبب النجاة من النار، ودليل ذلك: ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة مرفوعا: «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».
فيحتاج العبد المؤمن إلى نوعين من الصبر: صبر على المكاره: ليدخل الجنة، وصبر عن الشهوات: لينجو من النار.
مجالات الصبر: الصبر يكون على ما تحبه النفوس، أو عما تكرهه، وهتك بعض مجالاته:
ـ الصبر على بلاء الدنيا: الدنيا فيها آلام نفسية، أسقام بدنية، وفقدان الأصحاب، وخسران الثروات، وإيذاء الناس، ومتاعب العيش ومشاق الحياة؛ وهذه الأمور: يتساوى فيها الناس جميعا، فلا يسلم منها بر ولا فاجر، ولا يُعصم منها مؤمن ولا كافر، قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ [البقرة: 155 ـ 156]، وهذا النوع: هو الشائع عند ذكر لفظ «الصبر».
ـ الصبر عما تشتهيه النفوس: وهو أضرُب، منها: الابتلاء بالسراء لا بالضراء، وبالغنى لا بالفقر، وبالنعمة لا بالنقمة، قال الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]، وقال تعالى ـ حاكيا قول سليمان صلى الله عليه وسلم ـ: ﴿هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40]، وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن ِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: 15 ـ 16].
فالمؤمن مُطالب بالصبر على النعم الكثيرة التي أسبغها الله عليه، وذلك بعدم الركون إليها، والانهماك فيها، وبرعاية حقوقها، وتسليمها مستحقيها، والصبر في السراء: أشد وأشق من الصبر في الضراء، قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «ابتلينا ـ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء ـ بعده ـ فلم نصبر» رواه الترمذي بإسناد حسن. [«صحيح سنن الترمذي» (2004)].
ـ الصبر على طاعة الله: قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ [مريم: 65]، وقال: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: 132]، ثم إن من هذه العبادات والطاعات ما يكره بسبب الكسل؛ كالصلاة ـ، ومنها ما يكره بسبب البخل؛ كالزكاة، ومنها ما يكره بسببها معا؛ كحج بيت الله.
فائدة: إذا أراد المؤمن أن تُقبل منه أعماله الصالحة، وتنفعه قرباته، فعليه أن يصبر على طاعاته، وذلك في مراحل ثلاث:
قبل الطاعة: بالإخلاص في العمل، والابتعاد عن الرياء وحب الظهور، قال تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ [هود: 11].
أثناء الطاعة: بالمحافظة على شرط القبول، وعدم الغفلة عن الله، والابتعاد عن الكسل والفتور، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت: 59].
بعد الطاعة: بكتمان القربة، وعدم إفشائها للناس، خشية الرياء المحبط للعمل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾ [البقرة: 264].
ـ الصبر في الدعوة إلى الله تعالى: على الدعاة أن يكونوا دائما نشطين في الدعوة إلى دين الله ـ وإن أوذوا وابتلوا ـ لأن أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر، إلا من هدى الله، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الأنعام: 34]، وكلما قويت الأذية: قرب النصر، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ، وَالفَرَجُ مَعَ الكَربِ، وَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا، وَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا» أخرجه الخطيب ـ في التاريخ ـ والديلمي عن أنس [«الصحيحة» (2382)]، وليس النصر مختصا بأن ينصر الإنسان في حياته، ويرى أثر دعوته قد تحقق، بل النصر قد يكون ولو بعد موته، بأن يجعل الله في قلوب الخلق قبولا لما دعا إليه، وأخذا به وتمسكا، فإن هذا يعتبر نصرا لهذا الداعية، وإن كام ميتا.
فعلى الداعية أن يكون صابرا على دعوته، مستمرا فيها، صابرا على ما يعترض دعوته، وهاهم الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أوذوا بالقول وبالفعل فصبروا، قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: 52]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: 31].
عن عبد الله بن مسعود قال: «كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه ـ وهو يمسح الدم عن وجهه ـ ويقول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» رواه البخاري ومسلم.
نكتة: تأمل ـ أخي الكريم ـ جيدا في قول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً﴾ [الإنسان: 23] فكان من المنتظر ومن المتوقع أن يقال: (فاشكر نعمة ربك) المتمثلة في إنزال القرآن الكريم عليه صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه ـ عز وجل ـ قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: 24] وفي هذا إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن، ودعا إليه فلا بد أن يناله أذى، مما يحتاج إلى الصبر.
وتأمل ـ أيضا ـ في قول لقمان الحكيم ـ وهو يعظ ابنه ـ: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [لقمان: 17] ولما كان الداعي إلى الله تعالى آمرا بالمعروف، وناهيا عن المنكر، فهو معرض للأذية ولا بد؛ لذا أردف الحكيم نصيحته بقوله: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان: 17].
هذا، ومجالات الصبر كثيرة ومتنوعة، ولعل فيما ذكرنا كفاية، والله تعالى أعلى وأعلم، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.