د. عائض القرني
الإسلام والعالميةالإسلام عالمي من أول وهلة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ولا بد لحملته ودعاته من الإيمان بفكرة عالمية الإسلام، فيحرص على جمال صورته وتقديمه للعالم في أبهى حُلَّة بحيث يكون إسلامًا محبوبًا مقبولاً. إن الإسلام المشوَّه الذي قدمه البعض ليس هو الإسلام الجميل الذي أتى به محمد بن عبد الله . إن إسلامنا دين سلام كما يدل عليه اسمه، ودين أمن، ودين عدل، ودين تسامح، لا ظلم فيه ولا قهر ولا عدوان {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
فكيف نقنع العالم بعدالة قضيتنا وسماحة دعوتنا إذا قدَّمنا لهم إسلامًا حادًّا متشنجًا يهدد أمن الناس وحياتهم؟! لا بد أن يعيي العالم أن هذا الدين رحمةً للإنسانية، يدعو إلى حياة آمنة للجميع فيها تعارف وتحاور وتواصل؛ ولهذا رحَّبت أمم الأرض بالإسلام من أول يوم، ودخل الناس فيه أفواجًا؛ لأنهم وجدوا فيه السلام لأنفسهم، والأمن لحياتهم، والبناء لمستقبلهم، رحَّب به بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، ومحمد الفاتح التركي، ونور الدين التركماني، وصلاح الدين الأيوبي الكردي، ومحمد إقبال الهندي، ومحمد علي كلاي الأمريكي.
فالذي يريد أن يحافظ على صورة الإسلام الجميلة فليحافظ على مقوماته التي بُعث بها الرسول الكريم ، ومنها التعارف والتواصل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، ومنها فتح الحوار والإقناع {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، ومنها عدم الإكراه والقهر بل الحُجَّة والدليل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، ومنها الاعتراف بإنسانية الإنسان وحقه في الحياة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
وإن تقديم الإسلام بصورة مشوَّهة لهو معضلة كبرى قام بها الجهلة من الغلاة أو الجفاة، وهؤلاء كانوا سببًا في صدّ الناس عن الإسلام، واتهامه ظلمًا وعدوانًا بأبشع الأوصاف، كما قال المفكر محمد الغزالي: الإسلام قضية عادلة لكن المحامي فاشل، إذن فنحن بحاجة لمحامٍ عن الإسلام عاقل رشيد، وبحاجة لمدعٍ عام حكيم ذكي، أما الأغبياء والحمقى فيحتاجون إلى حجْر صحي لمداواتهم حتى يشافيهم الله من أمراضهم النفسية والفكرية، ألا يسأل الإنسان نفسه: ما سرُّ انتشار الإسلام في عشرات السنوات من سور الصين العظيم شرقًا إلى نهر الراين غربًا؟ أليس هذا دليلاً على عالميته وسماحته وجاذبيته؟
إن دول آسيا التي أسلم شعوبها لم يدخلها مقاتل مسلم ولا دبابة ولا صاروخ، إنما دخلها تُجَّار صالحون دعوا إلى الإسلام بأخلاقهم وتواضعهم وعدلهم، فاستجاب لهم أهل تلك البلدان. إن مهمتنا كدعاة للإسلام أن نحرص على أن يدخل الناس الجنة بالإسلام ولو كانوا نصارى، أو يهودًا، أو بوذيين، أو مجوسًا؛ فقضيتنا معهم {تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].
إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لما أرسل أمير المؤمنين أبا الحسن علي بن أبي طالب t لقتال اليهود في خيبر قال له: "ادعوهم إلى لا إله إلا الله وأني رسول الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرًا لك من حُمر النعم". إذن ليست المهمَّة إنهاء الآخر بل إنقاذه من الضلال، وليس المطلوب بتعجيله إلى النار بل إدخاله الجنة بالهداية، إننا بحاجة إلى وقفة تأمل وتعقل أمام قوله : "إنما بُعتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"، وأمام قوله: "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا".
لن يستجيب لنا أحد حتى يضمن الأمن والسلام لنفسه ولمستقبله، ولن ينصت لنا أحد حتى نحترم إنسانيته ونعطيه مكانته. الإسلام عالمي ولو أَبَى الرعاع، والإسلام رحمة ولو كره الغوغاء، والإسلام حياة ولو رفض الغلاة. عمر الإسلام أطول من أعمار المنتسبين إليه، وآفاقه أوسع من آفاق المقصرين عن فهمه. الإسلام جميل لكن لا يبصره أصحاب النظارات السوداء، قال المتنبي:
وَمَن يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ *** يَجِد مُرًّا بِهِ الماءَ الزُّلالا
المصدر: جريدة الشرق الأوسط.