العهد العثماني في فلسطين
فتحت معركة مرج دابق سنة ألف وتسعمائة وست عشرة الطريق أمام العثمانيين للسيطرة على بلاد الشام ومصر بعد هزيمة المماليك.
وفي كانون الثاني من السنة المذكورة وصل السلطان العثماني سليم الأول إلى أسوار القدس، دون أية مقاومة، وخرج العلماء لمقابلته وأهدوه مفاتيح المدينة، فيما صلى ركعتين أمام أسوارها، وظلت المدينة قائمة بعمائرها ولم تشهد أي قتال.
كانت تلك بداية العهد العثماني الذي سيستمر أربعة قرون راوحت فيها الدولة بين القوة والضعف وشهدت ازدياد النفوذ الأوربي في المنطقة العربية التي شكلت جزءا من الإمبراطورية العثمانية تبعت فلسطين إداريا ولاية "شام شريف" وضمت خمسة صناجق من بينها صنجق القدس الذي أولاه العثمانيون اهتماما خاصا، وبالذات في عهد السلطان سليمان القانوني الذي تولى الحكم سنة ألف وخمسمئة وعشرين للميلاد.
قام القاوني بعمارة أسوار القدس التي استغرق العمل فيها خمسة أعوام كاملة، وجدد أبوابها كما أنشأ تكية خاصكي سلطان، ومساجد وأسبلة، وإليه ينسب تجديد كوة قبة الصخرة بالقاشاني بدل الفسيفساء المخربة.
وعموما فقد حظيت القدس في بدايات العهد العثماني باهتمام كبير، سواء لجهة الإشادة والبناء أو لجهة موقعها العلمي والثقافي، فمع المدارس التي أنشأئها العثمانيون أو جددوها بلغ عدد المدارس في القدس تسعا وستين مدرسة، فضلا عن أربعين زاوية تشهد حلقات الدرس والعلم. واستمر المسجد الأقصى في تأدية دور مدرسة علمية كبيرة ومتميزة، كما اهتم العثمانيون بإقامة التكايا والزوايا ومؤسسات الصوفية.
انعكس التدهور الذي أصاب الدولة العثمانية بدءا من القرن الثامن عشر الميلادي ،الثاني عشر الهجري، على القدس، وأصاب على نحو خاص المؤسسات العلمية فيها مع تراجع واردات الأوقاف المخصصة لها وعجز الدولة عن تلبية نفقاتها.
ولكن الفترة نفسها شهدت نمو مدينة القدس وامتدادها خارج الأسوار ،كما أقيمت في وقت لاحق سكة الحديد الواصلة بين القدس ويافا.
يتفق المؤرخون على أن العهد العثماني الذي بدا قويا، اتسم عموما بالاضطراب، الذي كان على أشده في فلسطين ،إذ بعد أن انتهى الطور الأول من هذا العهد، والذي شهد اهتماما نوعيا بالقدس، كانت مقاومة الثورات التي شهدتها فلسطين ضد العثمانيين الشاغل الأساسي لهم خصوصا مع ما رافقها من تدخل الدول الأوربية الكبرى في فلسطين وأراضي السلطنة عموما بدعوى حماية الطوائف المسيحية.
كما شهدت فلسطين حملة فرنسية بقيادة نابليون بونابرت، وحملة إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا، التي خضعت القدس خلالها للحكم المصري ما بين عامي ألف وثمانية وواحد وثلاثين، وألف وثمانمئة وأربعين للميلاد.
لقد كانت القدس محور الكثير من التحركات الأوروبية، التي بدأت منذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، تبحث في تقاسم التركة العثمانية وتحت جناح التدخل الأوربي المتزايد، وباستغلال ضعف السلطنة، بدأ الصهاينة بالتسلل إلى فلسطين وبيت المقدس.
يسجل كثير من المؤرخين، وبشيئ من الإعجاب موقف السلطان عبد الحميد العثماني ،الذي رفض وفي أقصى حالات ضعف الدولة المغريات الصهيونية بالتخلي عن فلسطين، وبيت المقدس وبالذات، لكن الحكم حقيقة لم يكن في يد السلطان، بل في يد حكومة الاتحاد والترقي وهو حزب وصفه سفير بريطانيا في الآستانة، في رسالة إلى حكومته بأنه: "اللجنة اليهودية للاتحاد والتقدم".
وفي فترة سيطرة من عرفوا بالاتحاديين كان التسلل الصهيوني إلى فلسطين قد قطع شوطا ليس بالقليل منذ أن أعطى مرسوم عثماني موافقة لليهود على إنشاء حي في القدس.
شهد العام ألف وتسعمئة وسبعة عشر نهاية الحكم العثماني على فلسطين، واحتل البريطانيون بيت المقدس، ولكن قبل هذا العام بسنوات كانت المؤامرة الدولية على فلسطين قد اكتملت وأعطت نهاية الحكم العثماني إشارة بتسارع خطواتها على النحو المعروف.