تجمع الصليبيون الذين سقطت مدنهم وقلاعهم في صور، وكان صلاح الدين قد تسامح وتساهل معهم في الذهاب إليها، وأخذ الصليبيون يرسلون الاستغاثات وتأتيهم الإمدادات حتى قويت شوكتهم، ثم إن صلاح الدين أطلق سراح الملك جاي سنة 584هـ على أن يعود لفرنسا فذهب إلى صور وتولى قيادة الصليبيين من هناك بمساعدة أسطول من «بيزا» الإيطالية.... «وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره حتى عض بنانه ندماً وأسفاً حيث لم ينفعه ذلك» على حد تعبير ابن الأثير(118).
هاجم الصليبيون من صور مدينة عكا 585هـ-1189م وانتظروا هناك حتى جاءتهم إمدادات الحملة الصليبية الثالثة التي دعا إليها البابا أوربان الثاني «لاستعادة» بيت المقدس يقودها ثلاثة من ملوك أوروبا، امبراطور ألمانيا فردريك بربروسا الذي مات وهلك أكثر جيشه في الطريق(119)، وريتشارد قلب الأسد ملك انكلترا الذي جاء بحراً «فعظم به شرُّ الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين، وكان رجل زمانه شجاعة ومكراً وجلداً وصبراً، وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها»(120)، وملك فرنسا فيليب أغسطس. وحاصرت جميع الجيوش عكا (ربيع الثاني - جمادى الأولى 587هـ - يونيو 1191) وسقطت بأيدي الفرنج في 17 جمادى الأولى 587هـ -12 يوليو 1191م. وبهذا عاد الصليبيون ليكون لهم موطئ قدم جديد في فلسطين. وتداول المسلمون والفرنج الصراع ونال كل طرف من الآخر، واستطاع الفرنج التمدد على الساحل إلى الجنوب فاحتلوا حيفا ويافا(121).
ومن المهم الإشارة إلى أن الصراع كان دموياً مريراً فقد أشار ابن كثير إلى أن صلاح الدين أقام على عكا صابراً مصابراً مرابطاً سبعة وثلاثين شهراً وأن جملة من قتل من الفرنج كان خمسين ألفاً(122).
وانتهت الحملة الصليبية الثالثة بعقد صلح الرملة بين ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي في 21 شعبان 588هـ - 1سبتمبر 1192، وهو عبارة عن هدنة مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر، سيطر الفرنج بمقتضاها على الساحل من يافا إلى عكا، وسمح لهم بزيارة القدس وحرية التجارة وتنقل القوافل بين الطرفين(123). على أنه من المهم الإشارة هنا إلى بعض النقاط المتعلقة بهذا الصلح:
1- لم يكن صلاح الدين يميل إلى عقد الصلح وعندما أحضر أمراءه المستشارين كان رأيه عدم قبول الهدنة، وكتب العماد الأصفهاني بأسلوبه رأي صلاح الدين... «نحن بحمد الله في قوة، وفي ترقب نصرة مرجوة...، وقد ألفنا الجهاد، وألفنا به المراد، والفطام عن المألوف صعب...، وما لنا شغل ولا مغزى إلا الغزو....، رأيي أن أخلّف رأي الهدنة ورائي، وأقدم بتقديم الجهاد اعتزازي وإليه اعتزائي...، ولي بتأييد الله من الأمر أجزمه وأحزمه»(124).
ولكن مستشاريه أجمعوا على قبول الصلح بحجة خراب البلاد، وتعب الأجناد والرعية، وقلة الأقوات، ولأن الفرنج إذا لم تحدث الهدنة أصروا على البقاء والقتال، أما إن حدثت فسيعود للبلاد سكانها وعمارها، وتستريح الأجناد وتقوى وتستعد للحرب، وكان رأيهم أن الفرنجة لا يفون بعهودهم ولذلك نصحوه بعقد الهدنة حتى يتفرق الفرنج وينحلوا. وما زالوا به حتى رضي (125).
2- إن هذا الصلح هدنة مؤقتة قصيرة الأجل وليس معاهدة سلام دائمة وقد عقد مثلها قبلها وبعدها العديد وهي جائزة في الشرع حسب تقدير المصلحة التي يقررها إمام المسلمين، وقد استمرت من بعدها الصراعات والمعارك.
3- لم يتم في هذه الهدنة أي اعتراف للفرنج بأي حق لهم على أرض فلسطين، وإنما تقررت الهدنة بعدم القتال على ما انتزعوه من أرض إلى أن تنتهي الهدنة.
وشتان ما بين هذه الهدنة التي عقد المسلمون منها العشرات وبين معاهدة السلام مع الكيان الإسرائيلي التي تجري في عصرنا.
وعلى كل حال فإن الأمر لم يطل بصلاح الدين فتوفي رحمه الله في 27 صفر 589هـ 4مارس 1193(126)، أي بعد ستة أشهر فقط من توقيع صلح الرملة.
الأيوبيون والصراع مع الصليبيين:
دب النزاع والشقاق بين خلفاء صلاح الدين، ودخلوا بعد سنوات من وفاته في صراعات دموية أضعفتهم، وقوت شوكة المملكة الصليبية في عكا التي استمرت وتمددت في بعض الأحيان على حسابهم. لقد كان حب الدنيا وحب السلطان ولو على حساب المبادئ والمقدسات أحد المظاهر التي حكمت عدداً من سلاطين الدولة الأيوبية، فتحالف بعضهم مع الصليبيين ضد بعض وعرضوا عليهم بيت المقدس أكثر من مرة مقابل أن ينتصر سلطان الشام على سلطان مصر أو العكس!! وقد سعد الصليبيون بهذا الدور الذي لعبوه، ولكنهم ظلوا على طمعهم في الجميع، غير أن ربيع الصليبيين لم يدم طويلاً.
انتهت الحملة الصليبية الرابعة التي أرسلها الغرب 601هـ-1204م في القسطنطينية- ولم تصل إلى الشام أو مصر(127)، أما الحملة الخامسة فقد انطلقت من عكا نفسها بقيادة ملكها يوحنا بريين إلى دمياط بمصر 615-618هـ - 1218-1221م. وعندما شعر السلطان الأيوبي الكامل محمد بن محمد بن أيوب بخطورة الوضع عرض على الفرنج الصلح مقابل تسليمهم القدس ومعظم فتوح صلاح الدين، فرفضوا وطالبوا بجنوب شرق الأردن أيضاً (الكرك والشوبك...) وقام الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب صاحب دمشق بتدمير أسوار القدس وتخريبها حتى لا يستفيد منها الفرنج إذا احتلوها 616هـ -1219م لكن الأيوبيين حشدوا قواهم في النهاية واستطاعوا هزيمة الصليبيين الذين عادوا خائبين إلى عكا بعد أن فاتتهم فرصة عظيمة(128).
ثم إن الخلاف الناشب بين الكامل محمد والمعظم عيسى أدى إلى استنجاد الكامل محمد بفردريك الثاني امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة والذي أصبح وصياً على عرش مملكة عكا الصليبية، ووعده بتسليمه القدس إن هو ساعده على أخيه المعظم عيسى. وجاء فريدريك الثاني يقود الحملة الصليبية السادسة ووصل إلى عكا سنة 625هـ-1228م، ورغم أن المعظم عيسى توفي مما مكن أخويه الكامل والأشرف من اقتسام أملاكه مع إعطاء ابنه الناصر داود الكرك والبلقاء والأغوار والسلط والشوبك، ولم يعد الكامل بحاجة إلى فردريك الثاني، إلا أن الكامل فرط في القدس «وفاء» بعهده لفردريك!! الذي لم يكن لديه من القوة ما يكفي لإجبار المسلمين على التنازل عن القدس بل إن فردريك اضطر للبكاء واستعطاف الكامل في مراحل المفاوضات ليتسلم القدس!! ومما قاله للكامل «... أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عما تأمره خروج.... فإن رأى السلطان أن ينعم علي بقبضة البلد والزيارة فيكون صدقة منه ويرتفع رأسي بين ملوك البحر»!! واستجاب له الكامل وعقد معه صلح يافا 626هـ- 18فبراير 1229م لمدة عشر سنوات وبمقتضاه تقرر أن يأخذ الفرنجة بيت المقدس وبيت لحم وتبنين وهونين وصيدا مع شريط من الأرض من القدس يخترق اللد وينتهي عند يافا فضلاً عن الناصرة وغرب الجليل، على أن يكون الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى بأيدي المسلمين(129).
وهكذا استولى الفرنج على بيت المقدس الأمر الذي أثار غضب المسلمين «فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل وأقيمت المآتم وعظم على أهل الإسلام هذا البلاء، وقال الوعاظ والعلماء: يا خجلة ملوك المسلمين لمثل هذه الحادثة. واشتد الإنكار على الملك الكامل وحقد أهل دمشق عليه ومن معه، وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار»(130)، وقال ابن كثير «فعظم ذلك على المسلمين جداً، وحصل وهن شديد، وإرجاف عظيم»(131).
واستمر الصراع بين أبناء البيت الأيوبي، غير أن الناصر داود صاحب الأردن انتهز فرصة انتهاء مدة صلح يافا وتحصين الفرنج بيت المقدس بخلاف الشروط فاستولى على القدس وطرد منها الفرنج 6 جمادى الأولى 637هـ - 7 ديسمبر 1239 ولكن الصالح إسماعيل صاحب دمشق سلمها لهم 638هـ-1240م!! بعد أن طلب مساعدتهم له ضد صاحب مصر الصالح نجم الدين أيوب، هذا فضلاً عن تسليمهم عسقلان وقلعة الشقيف ونهر الموجب وأعمالها وقلعة صفد وأعمالها ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالهما وجبل عامل وسائر بلاد الساحل... وقد أثار هذا التصرف سخط المسلمين الذين «أكثروا من التشنيع على الملك الصالح إسماعيل» وهكذا عادت القدس مرة أخرى للفرنج. وعندما حشد الصالح إسماعيل قواته لينضم إلى حلفائه الفرنج عند غزة لقتال الصالح أيوب رفض جند الشام محالفة الفرنج ضد إخوانهم فانحازوا إلى جند مصر وهزموا الفرنج هزيمة كبيرة، ولكن الصالح أيوب صالحهم 638هـ -1240م واستقرت سيطرتهم على بيت المقدس وما أعطاهم إياه الصالح إسماعيل(132).
ومرة أخرى دخل أبناء البيت الأيوبي في الصراع وظلت القدس والأرض المقدسة ورقة يلعبون بها في تهافتهم على السلطة والنفوذ. فقد عرض الصالح إسماعيل مرة أخرى على الفرنج في عكا التحالف مقابل أن يسيطروا على القدس سيطرة تامة بما في ذلك الصخرة والمسجد الأقصى، وانضم إليه في ذلك الناصر داود، وفي الوقت نفسه عرض الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر على الصليبيين أنفسهم نفس العرض مقابل التحالف معهم(133)!!! واختار الفرنج التحالف مع الصالح إسماعيل الذي شرع في غزو مصر بمساعدة حليفه الناصر داود والمنصور إبراهيم ملك حمص إلى جانب الفرنج. واستعان الصالح نجم الدين أيوب بالخوارزمية الذين جاءوا لمساعدته في قوة من عشرة آلاف مقاتل في طريقها إليه بالاستيلاء على طبرية ونابلس، اقتحمت بيت المقدس في 17 يوليو واستعادت بيت المقدس بشكل كامل إلى حظيرة الإسلام 642هـ - 23 أغسطس 1244م(134). وبذلك عادت بيت المقدس نهائياً إلى أيدي المسلمين، وظلت تحتفظ بهويتها الإسلامية حتى دخلها الإنجليز في 10 ديسمبر 1917.
ثم إن الخوارزمية اتجهوا لمساعدة الصالح أيوب ضد الصالح إسماعيل وحلفائه، ووقعت معركة غزة الثانية (قرب غزة في موقع اسمه هِرْبيا) بين هذه القوى في 12 جمادى الأولى 642هـ-17 أكتوبر 1244 وانتهت بهزيمة ساحقة للصالح إسماعيل والفرنج وقدِّر فيها عدد قتلى الفرنج بأكثر من ثلاثين ألفاً عدا ثمانمائة أسير سيقوا إلى مصر، وكانت هذه المعركة هي أخطر ضربة تلقاها الصليبيون بعد معركة حطين، وتعتبر من المعارك الفاصلة في تاريخ فلسطين. إذ ضعف الصليبيون بعدها ولم يتمكنوا من التوسع وسعوا إلى الاحتفاظ بما لديهم(135).
ثم قام الصالح أيوب بالسيطرة على القدس والخليل وبيت جبرين والأغوار ودمشق سنة 642هـ- 1245م، وعاقب الفرنج فسيطر على قلعة طبرية واقتحم عسقلان وبذلك انحسرت حدود مملكة الفرنج إلى أبواب يافا سنة 644هـ-1247م.
ثم داهمت مصر الحملة الصليبية السابعة بزعامة لويس التاسع ملك فرنسا 646هـ-1249م والتي انتهت بالفشل وأسر لويس التاسع ثمَّ إطلاق سراحه وذهابه إلى عكا(136).
ثم ما لبث الحكم الأيوبي لمصر أن انتهى بدخولها تحت حكم المماليك 647هـ - 1250م، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الجهاد ضد المغول والصليبيين(137).
وهكذا فإن بيت المقدس والأرض المقدسة في السنوات الخمسين التي تلت حكم صلاح الدين الأيوبي كانت عرضة لحالة من عدم الاستقرار خصوصاً في النصف الثاني منها، واستخدمت أكثر من مرة في مساومات عدد من حكام البيت الأيوبي مع الفرنج مقابل عقد تحالفات معينة، وافتقد هؤلاء مصداقيتهم الجهادية الإسلامية، حتى إن قتالهم للفرنج لم يكن يعبر بالضرورة عن التزامهم الإسلامي بقدر حرصهم على الحكم والنفوذ والمصالح الشخصية، ولذلك كان القتال مع الفرنج يعبر إلى حد كبير عن موازين القوى المادية بين هذه الأطراف، وهو ما جعل القدس وأجزاء من فلسطين.