حرب ريف المغرب (1920)
محمد بن عبد الكريم الخطابي في شبابه
كان المغرب في بداية القرن العشرين يعاني من ضعف وانقسام شديد، تمثل في انقسام الأسرة الحاكمة وصراعاتها الداخلية، واستعانة أطراف هذا الصراع للبقاء على العرش بالقوى الخارجية، أما الوجه الآخر فتمثل في التنافس الاستعماري الشرس بين الدول الكبرى للسيطرة على المغرب وتأمين نفوذها ومصالحها فيه، وبخاصة فرنسا التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المغرب، غير أنها وجدت إنجلترا وألمانيا واقفتين لها بالمرصاد؛ فلجأت إلى إرضاء إنجلترا من خلال الاتفاق الودي سنة (1322ه = 1904م) الذي أطلق يدها في المغرب، أما ألمانيا فاضطرت إلى إعطائها جزءًا من الكاميرون حتى تقر باحتلال فرنسا للمغرب في (13 من ذي القعدة 1329ه = 4 نوفمبر 1911م).
وفرض الفرنسيون الحماية على المغرب في (12 ربيع الثاني 1330ه = 30 مارس 1912م) وبعد أيام قام المغاربة بثورة عارمة في فاس ثار فيها الجيش والشعب، تزعمها المجاهد "أحمد هبة الله"،وهو خطابي حربي من المدينة المنورة وكانت الانتصارات فيها سجالا بين الفريقين، وانتهى الأمر بوفاة الرجل، وتمكن الفرنسيون من بسط نفوذهم على المغرب أثناء الحرب العالمية الأولى.
مع تحياتي
محمد علي الخطابي
الريف والأسبان
منطقة النفوذ الإسباني تقع في شمال المغرب وتطل على البحر وهذه المنطقة تسكنها مجموعات وقبائل أمازيغيةمسلمة. كانت منطقة النفوذ الأسباني حسب اتفاقية (1322ه = 1904م) مع فرنسا تشمل القسم الشمالي من المغرب، التي تنقسم إلى كتلتين: شرقية وتعرف بالريف الشرقي، وغربية وتعرف بالريف الغربي أو جبالة، وتكاد بعض جبال الريف تتصل بمنقطة الساحل. وتتميز مناطقها الجبلية بوعورة المسالك وشدة انحدارها، غير أنها أقل خصبا من منطقة الجبالة في الغرب. وتمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل مسافة 400 كيلومتر طولا و100 كيلومتر عرضا، وتسكنها قبائل مسلمة ينتمي معظمها إلى أصل أمازيغي، ومنها قبيلة أيت ورياغل التي ينتمي إليها الأمير المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي.
وعندما بدأ الأسبان ينفذون سياسة توسعية في المغرب، صادفوا معارضة قوية داخل إسبانيا نفسها بسبب الهزائم التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين في الفليبين وكوبا، فعارض الرأي العام الأسباني المغامرات العسكرية الاستعمارية، إلا أن المؤيدين احتجوا بأن احتلال المغرب ضروري لتأمين الموانئ الأسبانية الجنوبية، وضَمَّ رجال الدين صوتهم إلى العسكريين.
وكان الأسبان يعرفون شدة مقاومة المسلمين من أهل الريف الأمازيغ لتوسعهم، فاكتفوا في البداية بالسيطرة على محيط ضيق حول سبتة ومليلة المحتلتين منذ القرن 15، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى احتلال معظم الموانئ الساحلية المحيطة بمنطقة نفوذهم، وكانت خطتهم تقوم على أن تتقدم القوات الأسبانية عبر منطقة الجبالة لاحتلال مدينة تطوان، التي اتُّفق على أن تكون عاصمة للمنطقة الأسبانية، لكن ظهر في الجبالة مجاهد محلي قوي هو "أحمد بن محمد الريسوني" الذي حمل لواء الجهاد منذ سنة (1330ه = 1911م). إلا أن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي كان له الأثر الأعظم في المقاومة الإسلامية المغربية والأمازيغية والأفريقية بسبب حجم الحرب التي خاضها ضد إسبانيا وفرنسا وحجم النتائج التي أحرزها.
وقد اصطدم الريسوني بالأسبان عندما احتلوا ميناء أصيلة الذي كان يعتمد عليه في استيراد الأسلحة، وبعدها ساروا إلى احتلال مدينة تطوان، فوقعت مصادمات بينهم انتهت بصلح اتفق فيه على أن تكون الجبال والمناطق الداخلية للريسوني، والساحل للأسبان، غير أن الأسبان نقضوا العهد، وطاردوه، وتوغلوا في بلاد الجبالة بخسائر فادحة، واستطاعوا أن يحتلوا مدينة الشاون أهم مدينة في تلك البلاد في (صفر 1339ه = أكتوبر 1920م).
أما في الريف الشرقي بمنطقة الناظور فبرز قائد مقاومة آخر هو المجاهد الشريف محمد أمزيان الذي قاد مقاومة إسلاميةً قوية ضد الإسبان قبل الأمير الخطابي نفسه. إلا أنه مقاومته اصطدمت بقلة الإمكانات والأسلحة ورغم ذلك فقد نجح في تأخير وإعاقة المشروع الإسباني الاستعماري لسنوات.
الأمير الخطابي
كانت الثورة الثانية ضد الأسبان هي ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل الأمازيغ في بلاد الريف، وقد وُلد الأمير سنة (1299ه = 1881م) في بلدة أجدير Ajdir، لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بأسبانيا، فحصل منها على درجة الدكتوراه في الحقوق، وبذلك جمع بين الثقافة الإسلامية وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا بمدينة مليلة التي كانت خاضعة لأسبانيا، وأثر فيه عندما كان قاضيا مشهد ضابط أسباني يضرب أمازيغيا بالسوط في شوارع مليلة، ويستغيث ولا يغاث، عندها رأى الوجه القبيح للاستعمار، وأدرك أن الكرامة والحرية أثمن ما في الحياة.
وكان الأسبان قد عرضوا على والد الأمير أن يتولى منصب نائب السلطان في تطوان التي تحت الحماية الأسبانية، وأن يقتصر الوجود العسكري الأسباني على المدن، إلا أنه اشترط أن تكون مدة الحماية محددة فلم ينفذ هذا العرض.
وبعد سيطرة أسبانيا على مدينة الشاون وإخضاع منطقة الجبالة، استطاعت أن تركز جهودها وقواتها في بلاد الريف، وأعلنت الحماية على شمال المغرب، فرفض الأب الخضوع للأسبان، وأعلن معارضته للاستعمار، ورفض تقديم الولاء للجنرال الأسباني غوردانا؛ فما كان من الجنرال إلا أن عزل الخطابي عن قضاء مليلة، واعتقله قرابة العام، ثم أطلق سراحه، ووضعه تحت المراقبة، وفشلت إحدى محاولات الخطابي في الهرب من سجنه، فأصيب بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلة ولحق بوالده في أجدير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339ه = 1920م) فانتقلت الزعامة إلى الابن.
من القضاء إلى الثورة
تولى الأمير المسلم الخطابي زعامة قبيلة أيت ورياغل، وقيادة المقاومة في بلاد الريف المسلمة. زحف الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلية نحو بلاد الريف، واحتل بعض المناطق دون مقاومة تُذكر، واحتل مدينة أنوال، وتقدم اثني عشر ميلا بعدها؛ فظن أن قبائل بني ورياغل خضعت له، ولم يدرِ أن الأمير الثائر أراد أن يستدرجه إلى المناطق الجبلية ليقضي عليه تماما، وأنه ادخر رجاله لمعركة فاصلة.
بلغ قوام الجيش الأسباني بقيادة سلفستر 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أجدير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في (25 شوال 1339ه = 1 يوليو 1921م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلة، وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الأسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين. إلا خطة المقاومين المسلمين كانت الأقوى رغم بساطة أسلحتهم الخفيفة. واستخدم الأمير المجاهد خطة حرب العصابات الغير النظامية واستدرج الإسبان إلى فخ محاط بتضاريس وعرة فوجد الإسبان أنفسهم محاصرين.
وقتل أو أسر معظم الجيش الأسباني بما فيهم سلفستر الدي انتحر هروبا من الهزيمة. واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا. وهو نصر عملاق بالمقاييس العسكرية المحايدة يصعب تحقيقه من طرف الجيوش الكبرى. أما المجاهدون الأمازيغ فقد أنجزوه في بضع ساعات. واستولى المجاهدون على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعا رشاشا.
ولم يوسع عبد الكريم الخطابي عملياته إلى مليلية المحتلة، لأنه فضل تنظيم صفوفه وتحصين مواقعه وعدم الاستعجال للمحافظة على انتصاره. وتمكن الأسبان من حشد ستين ألف مقاتل، وقاموا بهجوم معاكس في (10محرم 1340ه = 12 سبتمبر 1921م)، فاستعادوا بعض ما فقدوه، وبلغ مجموع القوات الأسبانية في ذلك العام ببلاد الريف أكثر من 150 ألف مقاتل، ورغم ذلك أصبح وجود الأسبان مقصورًا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة، أما المجاهدون الأمازيغ فقد سيطروا على معظم بلاد الريف.
ويعزو الأسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وأرسلت حكومة مدريد لجنة للتحقيق في أسباب هذه الكارثة المدوية، ذكرت أن الأسباب تكمن في إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المجاهدين المغاربة إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون، وكشف التقرير حالات بيع بعض الضباط لأسلحة الجيش.
إلا الإسبان يتجاهلون ويتجنبون عمدا الإعتراف بالقدرات القتالية للمجاهدين، ويحاولون الإيحاء بأن العامل الجغرافي والأخطاء اللوجستيكية هي وحدها أسباب هزائمهم.
من الثورة إلى الولاء وتقديم البيعة
بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف وخارج بلاد مملكة المغرب حتى وصلت أصداء انتصاراته إلى الصين وأميركا. وأعلن الأمير المسلم الخطابي جمهورية مستقلة تحت اسم جمهورية الريف. وأرسل وفودا رسمية إلى بريطانيا وفرنسا للتعريف بالجمهورية وإقامة علاقات ديبلوماسية. كما صك عملة أسماها ريفان وشجع الأجانب وخصوصا البريطانيين على تعاطي التجارة مع بلاد الريف.
وقد أعلن عن جمهورية الريف بسبب استسلام السلطان والنخبة بفاس للفرنسيين وعدم دعمهم للمقاومين المسلمين الأمازيغ على الإطلاق.
وأثار وضع جمهورية الريف مسألة سياسية هامة أثرت في حياة المغرب، وهو موقف الخطابي من العرش والسلطان المغربي، ألا أن وطنيته دفعته إلى دحض الإشاعات والاعتراف بمبدأ السيادة السلطانية، واستدلوا على ذلك بأنه لم يعلن نفسه سلطانا، غير أن السلاطين من الأسرة العلوية لم يقتنعوا بذلك، واعتقدوا أن دولته تمثل انشقاقا على العرش، واستمر سوء التفاهم هذا بينهم وبين الخطابي حتى عهد السلطان محمد الخامس، ونفى الخطابي أن يكون قد تطلع إلى عرش المغرب بدليل أنه منع أنصاره من الخطبة باسمه في صلاة الجمعة، وأنه كان مستعدا لقبول الأسرة الملكية الحاكمة، وأن يبايع الوطنيون السلطان الذي يحقق أهدافهم بعد تحرير البلاد.
الأوضاع الداخلية في أسبانيا
أصبحت مشكلة الريف والخطابي هي المشكلة الأولى التي تقلق أسبانيا داخليا وخارجيا، فارتفعت القوات الأسبانية في شمال المغرب بعد شهور من هزيمة أنوال إلى 150 ألف مقاتل، وعرضت مدريد على الخطابي الاعتراف باستقلال الريف بشرط أن يكون استقلالا ذاتيا خاضعا للاتفاقات الدولية التي أخضعت المغرب للنظام الاستعماري، فرفض الخطابي الاستقلال.
وداخليا وقع انقلاب عسكري في أسبانيا في (1 صفر 1342ه = 12 سبتمبر 1923م) وتسلم الحكم فيه الجنرال بريمودي ريفيرا، فأعلن عن سياسة جديدة لبلاده في المغرب، وهي الانسحاب من المناطق الداخلية والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، وأدرك ريفيرا أن تعدد المواقع الأسبانية المنعزلة أمر بالغ الخطورة؛ لأنها محاطة بالقبائل المغربية. أما الخطابي فلم يكن هناك ما يدفعه إلى مهادنة الأسبان، خاصة بعد وثوقه بقدرته على طردهم، وبعد رفضهم الانسحاب إلى سبتة ومليلة؛ لذلك بدأ في عمليات قتالية باسلة ضد القوات المنسحبة اعتمدت على أساليب حرب العصابات، واعترفت الحكومة الأسبانية في تعدادها الرسمي أن خسائرها في الستة أشهر الأولى من عام (1343ه = 1924م) بلغت 21250 قتيلا وجريحًا وأسيرًا رغم إشراف الجنرال ريفيرا بنفسه على عمليات الانسحاب.
واستطاع الخطابي أن يبسط نفوذه على الريف، رغم استمالة مدريد لزعيم منطقة الجبالا الريسوني، فزحف على الجبالا، ودخل عاصمتهم سنة (1344ه = 1925م) وصادر أملاك المتعاونين مع الأسبان، وألقى القبض على الريسوني، واقتاده سجينا إلى أغادين حيث توفي في سجنه، فأصبح زعيم الريف بلا منازع، وسيطر على مساحة تبلغ 28 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها مليون مغربي.
فرنسا.. والريف
وأدرك الأسبان عجزهم الكامل عن مقاومة الريف، وقوبلت هذه النتيجة بدهشة كبيرة من الدوائر الاستعمارية التي لم تكن مطمئنة لحركة الخطابي وعلى رأسها فرنسا التي كانت تتوقع أن يتمكن الأسبان يوما ما من القضاء على هذه الحركة، أما الخطابي فكان يحرص على تجنب الاصطدام بالفرنسيين حتى لا يفتح على نفسه جبهتين للقتال في وقت واحد، إلا أن الأوضاع بين الاثنين كانت تنذر بوقوع اشتباكات قريبة.
والمعروف أن فرنسا كانت تخشى من حركة الخطابي أن تكون عاملا مشجعا للثورات في شمال أفريقية، ويرى البعض أن مصالح الرأسمالية التي استثمرت أموالها في بناء ميناء الدار البيضاء الضخم وفي مشروعات أخرى في منطقة ساحل الأطلسي استحسنت بقاء منطقة الريف مضطربة حتى يصعب استخدام الطريق الموصل بين فاس وطنجة، الذي يحول تجارة المغرب إلى ذلك الميناء، واستقرار الأوضاع في الريف سيؤثر سلبا على مصالحها.
وفشلت محاولات الخطابي للتفاهم مع الفرنسيين للتوصل إلى اتفاق ينظم العلاقة بينهما، فبعث أخاه إلى باريس، وبعث موفدا له إلى السلطات الفرنسية في فاس، لكنهما لم يتوصلا إلى شيء.
الصدام
كان مجموع القوات الفرنسية في المغرب65 ألف جندي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل، وفي (رمضان 1343ه = أبريل 1925م) وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين والخطابي، عندما أمدّ الفرنسيون زعماء الطرق الصوفية بالمال والسلاح ليشجعوهم على إثارة الاضطرابات في الريف، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم، وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين وحسن تنظيمهم وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقعت كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين، فقلقت فرنسا من هذه الانتصارات، وأرسلت قائدها العسكري البارع "بيتان" للاستعانة بخبرته وكفاءته.
أسبانيا وفرنسا ضد الريف
كان صمود الريف المغربي أمام فرنسا وأسبانيا حالة نادرة في تاريخ الحروب الاستعمارية، يرجع جوهره إلى كفاءة الزعماء الريفيين المغاربة في ميدان القتال والحرب؛ فقد استخدم هؤلاء المقاتلون خطوط الخنادق المحصنة على النمط الذي أقامته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وقاد الريفيون الامازيغ الحرب ضد ثلاثة ماريشالات وأربعين جنرالا وحوالي نصف مليون مقاتل فرنسي وأسباني مدعمين بالطائرات والمدرعات وتحت إشراف رؤساء حكوماتهم.
وقد اتخذت فرنسا بعض الإجراءات لتدعيم موقفها في القتال، فطلبت من السلطان المغربي أن يعلن الخطابي أحدَ العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، وفي ظل ما أشاعت عنه فرنسا من رغبة الخطابي في الإنشقاق عن العرش المغربي، ونتيجة لسوء التفاهم هذا والتدبير من طرف المحتل وخونة عبد الكريم، أعلنه السلطان المغربي خارجا عن سلطته، وقام برحلة إلى فاس لتأليب القبائل على الريف، كذلك نسقت فرنسا خططها الحربية مع حكومة مدريد، وعقد مؤتمر لهذا الغرض اتفق فيه على مكافحة تجارة السلاح بين الريف وأوروبا، وسمع بتتبع الثائرين في مناطق كل مستعمر، وتعهدت باريس ومدريد بعدم توقيع صلح منفرد مع الخطابي.
الاستسلام
واتفق الأسبان والفرنسيون على الزحف إلى الريف بهدف تحقيق اتصال عسكري بين الدولتين وخرق الريف، وتقسيم قواته إلى جزأين؛ وهو ما يعرضهم لموقف عسكري بالغ الحرج، إلا أن قدوم الشتاء ببرودته أجَّل هذا الزحف وبعض العمليات العسكرية، وخسر الخطابي في تلك المعارك حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل. اتسعت الحرب في (1344ه = 1926م) وتجدد الزحف والتعاون العسكري التام بين باريس ومدريد مع تطويق السواحل بأساطيلهما، وقلة المؤن في الريف؛ لأن معظم المقاتلين في صفوف الخطابي من المزارعين، وهؤلاء لم يعملوا في أراضيهم منذ أكثر من عام، وهم يقاتلون في جبهة تمتد إلى أكثر من 300 كم.
ولجأ الفرنسيون إلى توجيه دعوة للقبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو أسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي أن الحكمة تقتضي وقف القتال رحمة بسكان الريف وقبائله قبل أن تلتهمهم الحرب، وقبلها الجشع الفرنسي والأسباني.
وقد فكر الرجل أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن أرضه ودينه، إلا أن رفاقه الأوفياء منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا، ورأى تسليم نفسه للفرنسيين على أنه أسير حرب، واقتحم بجواده الخطوط الفرنسية في مشهد رائع قلّ نظيره في (12 ذي القعدة 1344ه = 25 مايو 1926م) واستمر القتال بعد فترة. أما هو فنفته فرنسا إلى جزيرة ريونيون النائية في المحيط الهادي على بعد 13 ألف كيلو متر من موطنه الذي شهد مولده وجهاده.
وطال ليل الأسر والنفي بالخطابي وأسرته وبعض أتباعه نيفا وعشرين سنة، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن الكريم في تلك الجزيرة الصخرية، عانى فيها قلة المال، فآثر أن يعمل بيديه لتأمين معيشته هو وأسرته، فاشترى مزرعة، وجاهد فيها كسبا للعيش، ولم تفلح محاولاته بأن يرحل إلى أية دولة إسلامية؛ لأن فرنسا كانت تعلم أن الرجل يحمل شعلة الوطنية المغربية.
وفي عام (1367ه = 1947م) قررت فرنسا نقل الخطابي وأسرته إليها لمطالبته الدائمة بالاستقلال المغربي، غير أنها استجارت من الرمضاء بالنار، فعندما وصلت الباخرة التي تقله إلى ميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية، فرحبت القاهرة ببقاء هذا الزعيم الكبير في أراضيها، واستمر بها حتى وفاته في (1382ه = 1963م).