المضاربات في سوق الأسهم ما لها وما عليها
الشيخ دبيان محمد الدبيان
معنى المضاربة بالأسهم:
لا يُقصد بالمضاربة المضاربةُ بالمعنى الفِقهي بأن يدفَع الرجلُ ماله إلى آخرَ؛ ليعملَ به مقابلَ ربْح معلوم، كالرُّبُع أو الثُّلُث، وإنما يراد بالمضاربة بالأسهم: التعامُلُ بها بيعًا وشراءً؛ بقصد الحصول على الرِّبْح من فروق الأسعار.
والتسمية الفقهية أن يُقال: المتاجَرة بالأسهم.
ويُقابل المضارب المستثمر: وهو مَن يُكتَتب في الأسهم التي تصدرها الشركة عندَ تأسيسها، أو عند زيادة رأس مالها، أو يَشتري الأسهم من السوق الثانوية؛ بقصْد الحصولِ على أرباحها السَّنوية.
والفرق بين المضارب والمستثمر:
أنَّ المستثمر يعتبر استثمارُه فيها طويلَ الأجل، ومخاطره منخفضة نسبيًّا، وينتظر جَنْيَ الأرباح من الشركة، وعائدَه مِن الأرباح قليل وبطيء.
بينما المضارِب استثمارُه فيها قصيرُ الأجل، ويَنتظر ارتفاع الأسعار، ومخاطره مُرتفعة، ومكاسبه عاليةٌ وسريعة.
وطريقة تداوُل الأسهم لم تكنْ معروفة في الفِقه الإسلامي، والقول بجوازها هو الذي أتاح لكلِّ واحد مِن المستثمرين أن يبيعَ أسهمه لمَن شاء دون حاجةٍ إلى إذن الشركاء، وشجَّع على الإقبال على الاكتتاب في أسهُم الشركات عندَ تأسيسها؛ لأنَّ المكتتب يعلم أنَّه متى احتاج إلى السيولة فإنَّ لديه سوقًا ثانوية يُمكنه فيها مِن بيع أسهمه، والحصول على قيمتها دون انتظارِ تصْفية الشركة، وأتاح إمكانية المضاربة على أسهُم الشركات، والذي نحن بصددِ البحْث عن حُكمِه في هذا المقال.
ولقد اختلَف أهلُ العلم في حُكم المضاربة بالأسهُم: فذهَب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ المضاربةَ مُحرَّمة مُطلقًا.
وهذا القول يرَى التحريم حتى ولو كانتِ الأسهم في شركات نقيَّة، وبه أخَذ الدكتور رفيق يونس المصري، وإليه مال الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، والدكتور منذر قحف، والشيخ صالح السلطان، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد، والشيخ حسن بن عبدالله الأمين.
وجه مَن يرى هذا القول:
الوجه الأول: أنَّ "اتخاذ الأسهُمِ سلعةً تُشترى وتُباع بقصد الربح لا يخلو من شُبْهة بيع النَّقْد بأكثرَ منه، ما دام مشتري السهم لا غرَضَ له في المشاركة في موجودات الشركة، وإنَّما غرضُه بيع السهم بأكثرَ ممَّا اشتراه به".
وشرَح هذا مُبارك آل سليمان وإنْ كان لا يراه، فقال: "العادة في التجارة أن يشتريَ التاجرُ سلعة، ثم يَبيعها لمن يرغَبُ فيها، ثم يشتري سلعةً أخرى بديلة ويبيعها، وهكذا تتجدَّد السِّلَع التي يقع عليها العقد، ويَستفيد عامَّةُ الناس مِن تلك السلع؛ باعتبارها مقصودةً لهم، وهذا بخلاف الحالِ بالنسبة للأسهم، فإنَّ تداولها أشبهُ ما يكون بتبادُل سلعة واحِدة بيْن طرفيْنِ، ثم يبيعها كلُّ واحد منهما للآخَرِ بحسب تقلُّبِ الأسعار، فصارتِ السلعة هنا - وهي السهم - غيرَ مقصودة للمتعاملين، وإنَّما المقصودُ النقود، فكان التبادُلُ إنما يتمُّ حقيقةً بين نقود ونقود، على حدِّ قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "دراهم بدراهم بينهما حَريرة".
ويقول الدكتور رفيق يونس المصري: "المضاربةٌ عبارة عن عملية بيْع وشراء متعاكِسة صُورية، لا يُقصَد بها التقابُضُ (السلعة فيها غير مُرادة: لغو)، بل يُقصَد بها الانتفاع مِن فروق الأسعار الطبيعيَّة أو المصطنعة، والأرباح الرأسمالية، إذا صَدَق التنبؤ بتغيُّرات الأسعار في الأجَل القصير، سواء اعتمدَ هذا التنبؤُ على المعلومات والخِبْرة والدراسة، أو على الإشاعات والحظِّ والمصادَفة".
ويناقش:
(أ) كونه يقصد النقودَ مِن وراء شراء السلعة، فهذا القصْد مشروع، ولو سألتَ أيَّ تاجر: لماذا اشتريتَ هذه البضاعة؟ لقال: أقصد مِن وراء ذلك المالَ والربح، ولا أقصد عينَ السِّلعة، فالسلعة مجرَّدُ وسيلةٍ للحصول على الدراهم، وهكذا الشأن في كلِّ عُروض التجارة إنَّما يَقصِد صاحبها النقود، ولا يقال: يجب أن تُطبَّق عليه عملية الصَّرْف، دراهم بدراهم، وهذا ليس خاصًّا بالمضاربة في الأسهم، بل حتى المكتتب، فلا أحدَ يقول: إنَّ مَن اكتتب في شركة زراعية إنَّما يريد الحصولَ على فواكه وخضروات، ولا مَن اكتتب في شركة صناعية إنَّه يُريد الحصولَ على مصنوعات وآلات، فليس قصدُ النقود في الأسهم مؤثِّرًا، وإلا لامتَنَع التداولُ في جميعِ الشركات إلا بقواعدِ الصرف.
(ب) القول: إنَّ الأسهم سلعةٌ واحدة يتبادلها الناس، ليس صحيحًا، فالأسهم التجارية غير الأسهم الزِّراعية، غير الأسهم الصناعية؛ ولذا اختلفتْ أحكامُها في الزكاة كما هو معلوم، كما أنَّ اختِلاف قِيَم الأَسْهُم في البورصة دليلٌ على اختلاف ذواتها، فالقول: إنَّها سلعة واحدة يتبادلها الناس - قولٌ يفتقر إلى الدليل، فالصحيح أنَّ العقد في بيْع السهم يُردُّ على ما يمثله السهمُ من موجودات، وحقوق مالية، وتُملَك تلك الموجودات والحقوق بملكية السَّهْم، فهو عقد بيع حقيقي وارد على سِلعة حقيقيَّة، وكون مشتري السهم يبيعه بَعدَ ذلك بأكثرَ ممَّا اشتراه به، لا يعني أنَّ ما يجري هو بيعُ نَقْد بنقدٍ أكثر منه.
الوجه الثاني:
أنَّ الاستثمار في الإسلام زيادةٌ في كمية وسائل الإنتاج في المجتمع، الأمر الذي يَزيد القدرة على إنتاج الطيِّبات والمنافع، وشراء الأوراق المالية بقصْد بيعِها لا يُنتِج طيبات، ولا يَزيد منافع، فلا يصحُّ شراؤها إلا بقصْد الاستثمار، واستبقائها للحصولِ على عوائدَ دورية، فهذا هو الذي يحقِّق تلك المقاصد.
ويرى الدكتور أحمد محيى الدين بأنَّ المضاربة تعني دوران رأس المال بعيدًا عن دورةِ الإنتاج، وفي هذا يقول: "مِن أنواع التأثير الضارِّ للمضاربة على النشاط الاقتصادي أنَّها تَصرِف جزءًا من أصحاب رؤوس الأموال عنِ القيام بعمليات الإنتاجية الحقيقيَّة التي يتطلَّبها المجتمعُ من صناعة، وزراعة وتعدين... إلخ، وتجعلهم في انتظار الفُرَص التي قد تسنح مِن خلال تغيُّرات الأسعار، فإن صحَّت توقعاتُهم وربحوا من وراء ذلك ازدادوا تعلُّقًا بالمضاربة، الأمر الذي يُرسِّخ من دوران رؤوس أموال هؤلاء الأفراد بعيدًا عنْ دورة النشاط الاقتصادي، أما إذا خَسِروا نتيجةَ مضارباتهم هذه، ويستفيد مِن خَسارتهم عادةً أفراد، ووسطاء، ومؤسَّسات، ومصارف ذات ارتباط مباشِر أو غير مباشِر بدوائرَ أجنبية رأسمالية.
والفِكرةُ الأساسية في هذا الصَّددِ أنَّ الفرص التي قد تسنح للمضاربين تتطلَّب أحيانًا أموالاً جاهزة لاغتِنامها؛ ولذلك فإنَّ مَن يمتهن المضاربةَ يُجنِّب أموالَه السائلةَ أو جزءًا منها، ولا يستخدمها، أو يسمح للآخرين باستخدامها في دورةِ الإنتاج.
فالمضاربة تكاد تكون مُعطِّلة للنمو الاقتصادي: فأصحاب رؤوس الأموال لن يستثمروا أموالَهم في المشاريع الاقتصادية، والتي يستفيد منها كافَّةُ أفراد المجتمع، بل سوف يضارب على ارتفاع وانخفاض الأسعار؛ لتزداد سيولته وأمواله، والمستفيد هو وحْده، ومعه الوسطاء مِن المصارف، والمجتمع في معزل مِن هذا.
وقد يَخسَر المضاربون من جرَّاءِ ذلك، وتتبخَّر السيولةُ من أيدي المضاربين في ساعات، والضَّرر سيعود على المجتمعِ كلِّه إذا خسر الناس أموالهم في الأسواق المالية، ويلمس المواطنُ اليومَ كيف تضرَّر قطاع العقار مِن جرَّاءِ سعي الناس وراءَ المضاربات في سوق الأسهم.
ونوقِش هذا:
بأنَّه لا يوجد دليلٌ بأنَّ من شروط الاستثمار في الإسلام أن يكون مرتبطًا بزيادة الإنتاج على النحو الذي يُقرِّره الاقتصاديُّون، فالتجار منذ عهدِ النبوة لم يزالوا يتداولون السِّلعَ فيما بينهم بقصْد الحصول على فوارقِ الأسعار مِن غير أن ينتج عن ذلك زيادةٌ في عوامل الإنتاج، فحكيم بن حزام وابن عمر وزيد بن ثابت عندما كانوا يشترون السلعةَ من غيرهم، ثم يبيعونها لم يكن في ذلك أيُّ زيادة في الإنتاج، فهُم إنما نُهوا عن بيع الشيءِ قبلَ قبْضه، فإذا قَبَضه فله البيع بقصدِ الحصولِ على فارق السعر.
ثم إنَّ المضاربةَ قد تكون عاملاً مساعدًا على الاستثمار، فإنَّ شركات المساهمة هي شركات استثمارية، وأُنشِئت لهذا الغرض، والعامل الأساسي في قيامها هو وجودُ السوق الثانوية، والتي تُتيح للمكتتبِ الحصولَ على السيولة متى ما أراد، وذلك بالخروج مِن الشركة، ومنْعُ المضاربة يؤدِّي إلى إغلاق هذه السوق، والذي بدوره سوف يمتنع أكثرُ الناس مِن الاكتتاب في هذه الشركات الاستثمارية العملاقة، وبالتالي حرمان المجتمع مِن هذه الشركات الاستثمارية النافِعة.
وعلى التسليم فهو دليلٌ بأنَّ الاستثمار أفضلُ من المضاربة، وهذا لا يَقتضي تحريمَ المضاربة، فإنَّ أحدًا لو حفِظ ماله، ولم يستثمرْه لم يقلْ أحد بأنه فعَل محرمًا، وأنه يجب عليه تنميتُه بما يعود على الاقتصاد وعلى الناس بالنَّفْع، فكذلك إذا فضَّل المضاربة على الاستثمار.
الوجه الثالث:
أنَّ المضارِبَ لا تَعنيه الشركة لا مِن قريب ولا من بعيد، وإنما يَعنيه المضاربة على السهم بعيدًا عن كلِّ شيء.
وإذا كان كذلك فإنَّه قد يقوَى قولُ مَن يقول: إنَّ التعامل حقيقةً إنما هو بقيمة هذه الورقة وثمنها ليس إلاَّ، وإنَّ العمليَّة لا تَعْدو أن تكونَ مُتاجرةً بأثمانها، وهذه الورقة مجرَّد غِطاء لهذه العمليَّة، والعِبرة في العقود بالمقاصِد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، وإذا كان كذلك، فهل شروطُ تبادل الأثمان متحقِّقة؟
ويناقش:
لا نُسلِّم بأنَّ المضارب لا تَعنيه الشركة لا مِن قريب ولا مِن بعيد، بدليل أنَّ المضارب يتَّجه إلى الشركاتِ المباحة، دون الشركات المحرَّمة، وهذا دليلٌٌ على أنَّ الشركة مقصودة، هذا مِن جهة، ومِن جهةٍ أخرى فإنَّ المضاربَ لا يتَّجه لأيِّ شركة معْرُوضة في البورصة، بل هو يَنتقي من الشركات ما يعتقد أنَّها تُحقِّق له الرِّبح المنشود، وهذا دليلٌ على أنَّ الشركة مقصودةٌ في العقد.
وأمَّا القول بأنَّ المتعامل يتعامل حقيقةً بقيمة هذه الورقة، فهي متاجَرة بأثمانها، فلا يوجد عندي ما يدلُّ على أنَّ التبادُل بهذا الوجه محظور شرعًا؛ لأنَّ السهم كونه يُعبِّر عن ثمن معيَّن، فهذا شرط عندي لجواز تداوله؛ لأنَّه لا يكون مالاً إلا إذا كان له قِيمةٌ مالية، وكون السهم له قِيمةٌ مالية لا يعتبر تَحوَّل إلى أثمان في نفسه؛ لأنَّ الثمنيَّة تعني أمرين: أن يكون أصلاً قائمًا بنفسه، ومقصودًا لذاته، وأن يكون معيارًا لقِيم الأشياء؛ كالذهب والفضة والأوراق النقدية، والسهم ليس له هذه القِيمةُ في نفْسه، بل قيمته مرتبطة بالشركة التي يُمثِّلها، وليس معيارًا لقِيم الأشياء عندَ الناس اليوم، فالوثيقة لا قِيمةَ لها إذا جرَّدْناها عمَّا تدلُّ عليه، ولا تشتمل الوثيقة على أيِّ منفعة ذاتية، بحيث يُقال: إنه يجوز بيعُها وشراؤُها لمنفعتها كالسِّلع، وإنما قِيمةُ الوثيقة تتمثَّل فيما تُمثِّله من حقوقِ الاشتراك في الشركة، ومن كونها حصَّةً شائعةً في رأس مالِ الشركة وفي موجوداتها، بدليلِ أنَّ الشركة لو أفْلستْ لعاد ذلك بالخسرانِ على السهم، ولذَهَبتْ قِيمتُه، كما أنَّ مقدار استحقاقه مِن أرباح الشركة يَرجِع تقديره إلى عدد ما يملكه مِن هذه الأسهم، ولو صُفِّيتِ الشركة لم يستحقَّ مِن موجودات الشركة إلا بمقدار ما يَملِكه مِن أَسْهُمها، فامتلاكُ المساهم نصيبًا في موجودات الشركة عندَ تصفيتها دليلٌ على أنه يملك حصَّةً شائعة.
الوجه الرابع:
الاحتجاج بواقِع المضاربة في السوق، فالمضارب قد لا يَعرِف شيئًا عن الشركة، ولا عن ميزانيتها، وأرباحها، وخسائرها، ومركزها المالي؛ ولذلك تجد أسهمَ بعض الشركات الخاسِرة أعلى سِعرًا مِن أسهم الشركات الرابِحة، مما يدلُّ على أنَّ المضاربة يغلب عليها الخداعُ في رفْع المؤشرات وهبوطها، فالارتفاعُ ليس لعواملَ طبيعيَّة كما يحدُث في سائرِ المبادلات التجارية المبنية على العَرْض والطلب غالبًا، بل لعواملَ غائبةٍ مجهولة لدَى الكثير، ولا سيَّما الصِّغار، وفي غاية الخطورة، ممَّا يُعرِّض صغار المستثمرين إلى المخاطرة الكبيرة التي قد تُذهِب بأموالهم في أيِّ لحظة.
وإذا كان هذا واقعَها فإنَّ التعامُل بهذه الصورةِ يجمع بيْن الغَرَر وبين القمار؛ نظرًا لعظم المخاطَرة فيه.
ويقول الدكتور رفيق يونس المصري: "في المضاربة ترتفِع الأسعارُ إلى مستويات غير مبرَّرة اقتصاديًّا، وتنخفض بمعزٍل عن القِيمة الحقيقيَّة للورقة أو السِّلعة، وبمعزل عن الأداءِ الفِعلي للشركة المُصدِّرة للورقة، فالمضاربة تسخينٌ مصطنع، ونشاطٌ طفيلي غير مرغوبٍ فيه إذًا، والحرارة الزائدة التي تُولِّدها المضاربة ينتفعُ بها السماسرةُ والمضاربون المطَّلعون، وليس فيها منفعةٌ للجمهور، بل فيها مضرَّة، ونشاط جاذِب وخادِع في آنٍ معًا".
ويناقش:
أولاً: القول بأنَّ المضارب لا يَعرِف شيئًا عن الشرِكة، ولا عن ميزانيتها، وأرباحها، وخسائرِها، ومركزها المالي.
فيُقال: لا يجوز أن يتاجرَ الإنسانُ بأسهم شركةٍ مِن الشركات إلا وهو يعلم ما هي الشركة، وما نشاطها؛ لأنَّ جواز تملُّك هذه الأسهم موقوفٌ على إباحةِ نشاط الشركة، فكيف يتاجر بأسهمِ شركة لا يعرف نشاطَها، فهذا إنْ وُجِد فهو حرام، ولكن لا عَلاقة له بحكم المضاربة، وإنما يتعلَّق بتحرُّز التاجِر وتحريه للحلال، مُضاربًا كان أو مُستثمرًا، فإنَّ الذي لا يُبالي قد لا يبالي أيضًا في الاكتتاب في الشركات المساهمة، هل هي شركات مباحة أو شركات محرَّمة.
ثانيًا: أما اشتراط العِلم بميزانية الشركة، وأرباحها وخسائرها، فإنْ كان هذا شرطًا في صحَّة بيْعِ الأسهم، فليكن شرطًا للمضارب والمستثمر، فمَن أراد أن يشتريَ سهمًا، سواء كان بقصْدِ الحصول على أرباح الشركة، أو كان بقصْدِ التربُّصِ بالسهم حتى يرتفعَ سِعرُه، فإنَّه يجب عليه أن يعلم بميزانية الشركة وأرباحها وخسائرها، وإنْ كان هذا ليس شرطًا للمستثمر لَم يكن شرطًا للمضارِب، فالاحتجاجُ بهذا على تحريمِ المتاجرة بالأسهم فقط قولٌ تنقصه الدِّقَّة.
ثالثًا: كون أسهُم بعض الشركات الخاسِرة أعلى سعرًا مِن بعض الشركات الرابِحة.
فإنْ كان مردُّ هذا إلى العرْض والطلب، فهذه أسبابٌ معلومة، وهذه طبيعةُ السوق، فإذا كثُر الطلب على السَّهْم ارتفع سعرُه، وهي قيمة سوقيَّة قد لا تُعبِّر عن القيمة الحقيقيَّة، وهذا في حدِّ ذاته لا يجعل المضاربةَ أمرًا مُحَرَّمًا.
وإنْ كان مَرَدُّ هذا إلى تلاعُبِ المضاربين الكِبار مِن إحْداث صفقات وهميَّة، أو نشْر شائعات، وتحاليلَ كاذبة، تخدع صِغارَ المضاربين بالأسهُم، فليكن الحُكم على هذه التصرُّفات الضارَّة التي يُمارِسها المتعامِلون بالأسهم، دون أن يعودَ ذلك على المتاجرة ذاتها؛ لأنَّه لا يوجد في الأدلَّة الشرعيَّة ما يمنع المتاجرة بالأسهم، وكلُّ أنواع التجارة لا تَسْلَم من الغش، والتدليس، والخداع، والنجش، ومع ذلك نحرِّم كلَّ هذه التصرفات، ولا يعود التحريمُ إلى التجارة نفسِها.
إنَّ وجود المُمارسات الخاطِئة يُلقي عِبئًا كبيرًا على هيئة السوق، والتي تُشرِف على التداول، ولا شكَّ أنَّها تعرف المتلاعبين بالسوق، فيجب أن تُعزِّرَ كلَّ متلاعب يكون هدفُه الإضرارَ بالسوق، أو بصِغار المستثمرين، وتَحْرِمَه من الدخول في السوق، وأن يكون التعامُل بهذا بكلِّ شفافية، من غير فرْق بين قويٍّ وضعيف، وأنْ تمنَح الهيئةُ صلاحياتٍ كافية لحماية السوق وصِغار المستثمرين.
الوجه الخامس:
أنَّ المضاربةَ تَزيد من حِدَّة تقلُّباتِ الأسعار، فهي تُسنَد أصلاً إلى وجود هذه التقلبات، ولا تَجِد لها مجالاً في ظلِّ استقرارِ الأسعار.
ويجاب:
بأنَّ المضاربة تحدُّ مِن تقلُّبات الأسعار، فعندما تنخفض الأسعارُ يتدخَّل المضاربون بالشراء، ممَّا يؤدِّي إلى الحدِّ من استمرار الانخفاض نتيجةَ ازدياد الطلب، وعندما ترتفع الأسعار يتدخَّل المضاربون بالبيع وجنْي الأرباح بما يؤدِّي إلى الحدِّ من استمرار الارتفاع؛ نتيجةَ ازدياد العَرْض، وبهذا تعمل المضاربةُ على تقليل الفارق بين الأسعار، وعلى استقرارها وإعادة توازنها.
القول الثاني:
ذهَب عامَّةُ أهل العلم إلى أنَّ المضارب في الأسهم يأخُذ حُكمَ المستثمر من كلِّ وجه.
فإنْ كانتِ الشركات المساهمة تمارس نشاطًا مباحًا خالصًا، جاز فيها الاستثمارُ والمضاربة في أسهمها، وإنْ كانت تمارس نشاطًا محرَّمًا خالصًا أو غالبًا، فالاستثمار والمضاربة فيها مُحرَّمة، وإن كانتِ الشركات مختلطة كان الاستثمار والمضاربة فيها مختلفًا فيهما، والصحيح القولُ بالتحريم.
وجه هذا القول:
الوجه الأول: أنَّ الأصل حِلُّ البيع؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ﴾ [البقرة: 275]، فمَن ادَّعى التحريمَ فعليه الدليل.
الوجه الثاني: أنَّ هذه الأسهم يجوز شِراؤها بالاكتتاب، فيجوز بيعُها لصحَّة الملْك، وهذا هو مقتضَى القواعد، فما جاز شراؤه صحَّ بيعُه.
الوجه الثالث: أنَّ السهم في ذاته حِصَّةٌ شائعة في ممتلكات الشركة، وبيْع الحصَّة المشاعة متَّفق على جوازه، فهو جزءٌ مشاع مشتملٌ على منفعةٍ مباحة، وما كان كذلك صحَّ بيعُه.
الوجه الرابع: أنَّكَ إذا منعتَ بيْع هذه الأسهم في السوق الثانوية، فسوف يذهب أغلبُ المكتتبين في الشركات المساهمة، فإنَّ المكتتب لولا عِلمُه بأنَّ هناك سوقًا ثانوية يستطيع أنْ يحصل مِن خلالها على السيولةِ التي يُريد، في الوقت الذي يُريد - لَم يساهِمْ، خاصَّة إذا علِمنا أنَّ الأرباح من الشركات المساهمة هي إيراد محدود لا تُغري المكتتب، وكيف يخرُج المكتتب مِن الشركة إذا منعْنا تداول الأسهم؛ خوفًا من المضاربة فيها؟!
وإعراض الناس عنِ الاكتتاب في السوق الأوليَّة لا شكَّ أنَّه يَحرِم المجتمعَ من إنشاء هذه الشركات العملاقة، التي تقوم على رأسِ مالٍ كبير جدًّا، لا تستطيع غالبُ الحكومات الفقيرة - فضلاً عن الأفراد - القيامَ بها.
الوجه الخامس: أنَّ المُتاجِر (المضارب) بالأسهم يَحُلُّ مَحلَّ المكتتب، فيأخذ حُكمَه، وتنتقل كافةُ الحقوق إليه، والبَدل له حُكم المُبدل، وكونه يتربَّص بها ارْتفاع الأسعار، فليس في هذا ما يَقتضي التحريمَ، شأنُه في ذلك شأنُ كلِّ تاجر، نعم التربص بالسِّلْعة من أجلِ ارتفاع الأسعار قد يُحرِّم ذلك إذا كان ذلك في قوت الناس وطعامهم؛ حتى لا يؤدِّي إلى الوقوعِ في الاحتكار المنهي عنه، وأمَّا ما عداه فلا حَرَج فيه.
الوجه السادس: أنَّ أسهمَ الاستثمار هي ذاتها أسهمُ المضاربة، فالعين واحدة، فهي إما حلالٌ في الحالين، وإما حرامٌ في الحالين، والفرقُ بينهما أنَّ هذا استثماره فيها طويلُ الأجَل، وينتظر جنْي الأرباح، وهذا استثمارُه فيها قصيرُ الأجَل، وينتظر ارتفاعَ الأسعار، وهذا ليس فارقًا مؤثِّرًا في الحِلِّ والحُرْمة.
ويمكن تكييفُ عملية تداول السهم بأنَّها: عملية تصفية فردية يقوم بها أحدُ الشركاء بخصوصِ مساهمته؛ ليحُلَّ آخَرُ مكانَه، ويستحقَّ بذلك كافَّة ما له مِن الحقوق على الشركة.
الوجه السابع: أنَّ شراء الأسهم بعدَ مزاولة الشركةِ نشاطَها، وبعد أن تتَّضح نتائجُ أرباحها أقربُ إلى معرفة واقع الشركة، ومدى الغِبطة في المشاركة فيها مِنَ الاكتتاب فيها وقتَ تأسيسها، فإذا كان الاكتتابُ في الشركة النقية وقتَ التأسيس جائزًا في قول عامَّة الباحثين، كان شراءُ الأسهم بعدَ الاكتتاب وطرحها للتداول جائزًا مِن باب أَوْلى.
الوجه الثامن: أنَّ بيع الأسهم قد لا يرتبط بالمضاربةِ فيها، فهناك وجوهٌ كثيرة تحمل مَن يمتلك الأسهمَ على بيعها، والتخلُّص منها، فقد لا يكون الباعِثُ على ذلك البحثَ عن فروق الأسعار، وإنْ كان ذلك سائغًا، من ذلك:
كأنْ يبيع المكتتب في الشركة أسهمَه؛ خوفًا من لحوق الخسارة فيما إذا تبيَّن له أنَّ الشركة أصبحت خاسِرة، وخشِيَ مالكُها مِن ضرر يلحق به لو بَقِي متمسِّكًا بها مع وجودِ مَن يشتريها.
وقد يكون الباعثُ على بيعها هو حاجة صاحبها إلى السيولة لحاجته الخاصَّة، أو إلى الاكتتاب في شركةٍ أكثرَ رِبحًا، أو إلى غير ذلك مِن الأسباب الكثيرة غير القابلة للحصْر، فلا يلزم مِن بيع الأسهم أن يكونَ صاحبُها يتربَّص بها فارقَ الأسعار.
القول الثالث:
هناك فريقٌ يقول بعكس القول السابق تقريبًا، فهو يذهب إلى جوازِ المتاجرة (المضاربة) في الشركات المختلطة، ويُحرِّم الاستثمارَ في الشركات المختلطة، وممَّن يختار هذا القول الشيخُ السلامي.
وجه هذا القول:
أنَّ الشركات إذا كانتْ مختلطة، فإنَّ الاستثمار فيها يعني دخولَ جزء من الرِّيع إلى المستثمر، وبعض الرِّيع محرَّم نتيجةَ ممارسات مُحرَّمة، ممَّا يجعلِ الاستثمار محرَّمًا، وأمَّا المتاجرة بهذه الأسهم، وبيعها قبلَ توزيع الأرباح، يجعل المتاجِر لم يأخذْ في جيبه شيئًا من الأرباح المحرَّمة.
ولأنَّه لا يعلم بظهور الكسْب المحرَّم إلا عندَ ظهور الميزانية، وتوزيع الأرباح، وهذا يتعلَّق بالمستثمر فقط دون المتاجِر.
ولأنَّه إذا قلنا: إنَّ على المتاجر والمستثمر أن يتخلَّصَ مِن الكسب الحرام في الشركات المختلطة، أدّى ذلك إلى تعدُّد التخلُّص، والتطهير للحصَّة الواحدة، وإذا كان المتاجِرُ ليس عليه أن يتخلَّص من الكسْب الحرام، دلَّ ذلك على عدمِ دخول الحرام عليه، وهو دليلٌ على جواز المتاجرة دون الاستثمار.
ويناقش:
بأنَّ السهم بعدَ اشتغال الشركة ليس حصَّةً شائعة في رأس المال فقط؛ حتى يقال: إذا لم تُوزَّعِ الأرباح فقد سَلِم الإنسان مِن الرِّبح المحرَّم، فإنَّ امتلاك السَّهم يعني: امتلاك حصَّة شائعة في الشركة، وفيما تَملِكه الشركة، فهو يُمثِّل حقوقًا مالية وغير مالية، مِن ذلك:
(1) قيمة السهم (اسمية كانت، أو سوقية، أو حقيقية).
(2) نصيب السَّهْم مِن أرباح الشركة الاحتياطيَّة، وهذه لا تدخُل في التوزيع، فإذا كانتْ بعض الأرباح الاحتياطية مِن كَسْب مُحرَّمٍ تجعل عينَ السهم مُحرَّمة.
(3) نصيب السهم فيما تَملِكه الشركة، مِن ممتلكات عينية، واسم تجاري، وعلامة تجارية، وتراخيص ممنوحة.
(4) التصرُّفاتُ المحرَّمة، والتي لا يُجنَى منها أرباح، كالاقتراض الرِّبوي، وهذا يجعل عينَ السهم محرَّمة، ولا ينفعه التخلُّصُ.
(5) حق الأَوْلَوية في الاكتتاب بالأسهُمِ الجديدة.
(6) الحقوق غير المالية، مِن ذلك حقُّ التصويت، وحقُّ مراقبة الشركة، وحقُّ المحاسبة، وحقُّ البقاء في الشركة، كلُّ هذه الأشياء لا يُمكن عزلُها عن السَّهْم، وهذا الذي جعَل السهمَ تختلف قِيمتُه عن قِيمة موجودات الشركة، ولا أعتقد أنَّ الذين قالوا: إنَّ السهم حصَّةٌ شائعة في موجوداتِ الشركة، أرادوا أنَّ المساهمين يَملِكون تلك الحصةَ الشائعة في هذه الموجودات بمَعْزِل عن الشركة ونشاطها، وما تُعطيه الشركة للمشارِكِ مِن حقوق وامتيازات.
وإذا كان هذا حقيقةَ السهم، فالأرباح سواء وُزِّعتْ أو لم تُوزَّعْ، فالسهم يُمثِّلها، وتؤثِّر في قِيمته، وإذا كان جزءٌ مِن تلك الأرباح محرَّمًا كان امتلاكُ السهم يعني امتلاكَ حِصَّة شائعة مِن هذا المحرَّم، ولو لم تُوزَّع الأرْباح، والله أعلم.
ولو كان الحِلُّ والحُرْمة يتعلَّق بتوزيعِ الأرباح فقط، لقلْنا: بجواز تملُّك أسهم الشركات المحرَّمة، ما دام أنَّ تَملُّكَ تلك الأسهم سيكون عابرًا، ولفترةٍ لا تسمح بتوزيع الأرْباح الناتِجة عن ذلك النشاط؛ لأنَّ رأس مال الشركات المحرَّمة هو مالٌ حلال، جُمِع ليُمارَس به نشاطٌ محرَّمٌ، ومع ذلك فالمساهمة في الشركات المحرَّمة، أو التي غالب نشاطها محرَّم يكاد يُجمِع الباحثون على تحريمِ المساهمة فيها.
الراجح:
جواز شِراء السهم، سواء كان بقصْدِ الاستثمار أو بقصْد المضاربة، إلا أنَّ ذلك مشروطٌ بأن تكون الشركةُ مِن الشركات النقية، وأن يتدخَّلَ البنك المركزي ومؤسَّسات النَّقْد بأن يمنعوا المصارفَ مِن دعم المضاربة بالائتمان، بحيث لا يُسمح للبنوك بأن تُعطي الشخصَ إذا كان له حسابٌ بمائة ألف أن يمنحَه البنك مائة ألف أخرى قَرْضًا، فإذا خسِر المضارب تضاعفتْ خسارته بسبب الائتمان، والبنك لم يخسرْ شيئًا، ومَن قال بتحريم المضاربة لَم يتوجَّه تحريمُه لذات السهم، وإنمَّا حرم المضاربة فيه للممارسات الخاطئة المؤثِّرة على قيمة السهم، وهذه الممارسات يجب أن يتوجَّه التحريم إليها، لا إلى السهم ذاته، وهذه الممارسات الخاطئة ليستْ ضربًا لازمًا لكلِّ المضاربات، بل منها ما هو دافِعُه الجشع، والطمع، والاستغلال، وهذا موجودٌ في الأسهم كما هو موجودٌ في غيرها مِن المعاملات المالية، ومنها ما يعود إلى المضارِبِ نفسِه، فكثيرٌ منهم دخَل السوق وهو يجهل طبيعةَ السوق وخطورتها، فلحقتْه الخسائرُ لكونِه لا يُحسن التعاملَ بهذه السوق، وهذا الجهلُ يتحمَّل تبعاتِه صاحبُه، ولا يعود هذا إلى السهم.
ومنها ما يعود إلى حَداثةِ السوق وحداثة الهيئات الإداريَّة المشرِفة عليها، ونقْص التَّشريعاتِ الضروريَّة، ومنها ما يعود إلى نقْص الشفافية، خاصَّة في محاسبةِ المتلاعبين، ووجود بعضِ الشخصيات الاعتبارية التي قد تُمارِس ممارساتٍ خاطئةً في السوق، وتكون بعيدةً عن المحاسبة، ومع ذلك فالأسواق العربية هي في تطوُّر مستمر، لا مِن جهة تَكامُلِ الأنظِمة التشريعيَّة، ولا مِن جهة وعْي المضارب، وتراكُم الخِبرة لديه بحيث استطاع كثيرٌ من المضاربين تعويضَ الخسائر التي حصَلتْ له في السنوات الأولى من سوق الأسهُم السعودية، ومَن تابَع مؤشِّر الأسهم في السوق السعودية في السَّنَة الأخيرة، وتابَع التطوُّرَ في الأنظمة - أدْرَك حجمَ التطور المستمر في هذه السوق، ممَّا يجعل ضبطَ التلاعب في هذه السوق أمرًا ممكِنًا يعود بالاستقرارِ على سوق الأسهم، ويُقلِّل من المخاطرةِ فيها، ومع كلِّ ذلك، فإنَّه لو كان التلاعُب في السوق أصبح اتِّجاهًا غالبًا، فإنَّ القول بتحريم التداول قد يتَّجه حتى يضبطَ السوق؛ حفاظًا على أموال الناس، وليس هذا بسببِ المضاربة، ولكن بسببِ تلك الممارسات، والله أعلم.