ثانيا: الضمانات القانونية والتنظيمية:
ولم يكتف الإسلام بالضمانات السابقة على الرغم من أهميتها وكفايتها ولا سيما في المجتمع المسلم وإنما أضاف إليها ضمانات قانونية وتنظيمية تضمن بها الدولة تحصيل الزكاة منعا لضعفاء الدين أن يتهربوا منها، وذلك من خلال تشريع مايأتي:
أ - الأمر بمعاونة الجباة وعدم إخفاء شيء منهم، وإرضائهم دون تعسف وتجاوز للمقادير، حتى عقد الإمام مسلم في صحيحه: باب إرضاء السعاة، فروي فيه بسنده عن جدير بن عبد الله قال: جاء ناس من الأعراب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ناسا من المصدقين (أي السعاة العاملين) يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ارضوا مصدقيكم) قال جرير: ماصدر عني مصدق منذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو عنى راض[77].
ب - إبطال الحيل في الزكاة وغيرها فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)[78]، وقد استدل البخاري على بطلان الحيل بحديث أنس في فرائض الصدقة حيث قال: إن أبا بكر رضي الله عنه كتب له: أتاني فرض رسول الله صلى لله عليه وسلم, ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة[79] وقد نص الفقهاء على حرمة الحيل التي تؤدي إلى إسقاط واجب، أو فعل منكر، يقول أبو يوسف: لا يحل للرجل إذا كان يؤمن بالله واليوم الآخر منع الصدقة ولا إخراجها عن ملكه إلى ملك جماعة ليفرقها بذلك فتبطل الصدقة عنها ولايحتال في أبطال الصدقة بوجه من الوجوه[80].
ج- تقرير عقوبات مالية وجنائية على الممتنع عن الزكاة فقد سل الخليفة الأول السيف ضد الممتنعين عن الزكاة وقال قولته المشهورة، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها[81] وقد خاض حربا في وقت حرج جدا لأجل تنفيذ أحكام الله وحقوق الفقراء وبهذا فإن هذه الحادثة تعتبر الأولى من نوعها على مر التاريخ أن تخوض الدولة الحرب لأجل الفقراء قال الشوكاني: وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن مانع الزكاة يقاتل حتى يعطيها[82].
ثم إن الممتنع الفرد إذا كان إمتناعه لأجل عدم الإيمان بالزكاة فهو كافر مرتد بالإجماع وحكم المرتد القتل بشروطه وضوابطهلأنها مما علم في الإسلام بالضرورة وإن كان لغير ذلك فيجبر على الدفع ويقاتل بكل الوسائل المتاحة حتى يدفعها كما أن هذا الحق ثابت لا يسقط بالتقادم بل هو دين يدخل ضمن ديون التركة عند جمهور الفقهاء[83].
وهنا يثور تساؤل حول مدى تقرير العقوبة على من أخفى زكاته أو امتنع عن أدائها فهل يعاقب؟
لا خلاف بين الفقهاء في جواز العقوبات التعزيزية في مثل هذه المنكرات ولكن الخلاف يثور في مدى جواز تقرير العقاب بالغرامة المالية؟ ذهب جماعة من الفقهاء[84] منهم الشافعي في القديم وأبن راهويه وأبو بكر الحنبلي إلى جواز تغريمه مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا أخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ..[85] وهذا الحديث رواه أحمد والحاكم والنسائي وأبو داود والبيهقي واختلف في سنده ولكنه ينهض حجة حيث صححه البعض وحسنه آخرون وهذا واضح في الدلالة على إقرار عقوبة مالية على الممتنع كما أن هناك أدلة أخرى من السنة على هذا المبدأ ليس في مجال بحثها[86] إضافة إلى جواز حبسه عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( مطل الغني ظلم ) وفي رواية ( يحل عرضه وعقوبته )[87]
هل يجوز للحاكم فرض الضريبة بجانب الزكاة؟
للجواب عن ذلك نحتاج إلى تفصيل وتأصيل وهو:
أولا: أن هناك فرائض مالية (ضرائب) مشروعة منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أو خلفائه الراشدين فرضت قبل الدولة المسلمة مثل الجزية والخراج والعشور على التجار غير المسلمين هي في جوهرها بمثابة ضرائب مالية فهذه الأنواع الثلاثة لا تحتاج فيها إلى إجتهاد لأنها ثابتة بالإتفاق، وكذلك الأمر في الخمس المفروض على الركاز الشامل للمعادن والكنوز إضافة إلى الفيء والغنائم فهذه الأمور موارد مالية أخرى للدولة المسلمة لتغطية حاجياتها، ولتحقيق المجتمع الآمن الغني السعيد، وسنلقي بعض الأضواء على بعض هذه الأنواع وهي:
أ - الجزية: وهي المال المأخوذ من أهل الذمة كل عام مقابل بقائهم في دار الإسلام وحقوقهم المكتسبة بعقد الذمة[88] وهي تصرف مصرف الفيء وتؤخذ من الذكور البالغين العقلاء مرة واحدة في كل سنة وليس لها مقدار محدد، وإنما تقديرها يعود إلى إجتهاد الحاكم بما لا يؤدي إلى ظلم وحيف وإجحاف وهذا ما قال به أحمد في رواية وأبو عبيد والثوري، وذهب آخرون منهم أبو حنيفة والشافعي إلى أنها مقدرة بقدر لا يزاد عليه ولا ينقص بحيث يؤخذ من كل بالغ عاقل: دينار أو عدله، بينما ذهب رأي ثالث إلى أن أقلها مقدر بدينار، وأكثرها غير مقدر، وهذا اختيار أبي بكر الحنبلي[89].
فهذا النوع بمثابة الضريبة النسبية، أو التصاعدية حسب اجتهاد الحاكم على الرأس وحكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة والإجماع كما هو معروف, ولكن لا مانع من تسميتها بالزكاة, كما حدث في عصر الخليفة الراشد عمر, أو بالضريبة.
ب - الخراج : وهو ما يوضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها[90] وقد ذكر الماوردي أوجه الاشتراك والاختلاف بين الجزية والحراج, فذكر من أوجه الاشتراك أن كلاً منهما مأخوذ من كافر ويصرف في مصارف الفيء، ولا يستحق إلا بحلول الحول، وأما أوجه الاختلاف فهي أن الجزية ثبتت بالنص في حين أن الخراج ثبت باجتهاد، وأن الجزية تسقط بالإسلام، والخراج يؤخذ مع الكفر والإسلام، وان الجزية على الرؤوس والخراج على رقبة الأرض[91].
فالحكمة من وضع الخراج هو أن تبقى الأرض المفتوحة بأيدي أصحابها ليزرعوها ويعمروها وفي ذلك فوائد كثيرة عليهم حيث تبقى بأيديهم مصادر رزقهم، ويصبح خراجها مصدرا ثابتا من مصادر تمويل الدولة، وبذلك يكون لبيت المال دخل جيد ثابت (تقريبا) يستعين به لتحقيق المجتمع الإسلامي المتكافل القوي، إضافة إلى إبقاء المجاهدين على جهادهم كقوة عسكرية لا تشتغل بالأرض بل تتفرغ للجهاد وهذا ما عرضه عمر رضي الله عنه ووافق عليه الصحابة بعد حوار ونقاش عندما تم فتح سواد العراق حيث رأى أن لا توزع الأراضي المفتوحة بل تبقى بأيدي أصحابها (يكونون عمار الأرض فهم أعلم بها) وخالفه بعض الصحابة في البداية وعلى رأسهم بلال، ثم أهتدى عمر رضي الله عنه إلى آيات سورة الحشر من قوله تعالى (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) إلى قوله (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )[92]
فوجد فيها الدلالة الواضحة على ضرورة رعاية حقوق الأجيال اللاحقة، وهذه الرعاية إنما تتحقق بإبقاء الأرض المفتوحة للدخل الدائم المستمر ليستفيد منه كل جيل، حيث قال عمر بعد أن تلا عليهم آيات الحشر: قد أشرك الله الذين يأتون من بعدهم في هذا الفيء فلو قسمته عليكم لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه وقد بين عمر رضي الله عنه، الغرض من وضع الخراج وهو أن تكون حصيلة ما تجبى للدفاع والجهاد والخدمات العامة ولتحقيق التكافل الاجتماعي حيث قال: فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذه البلد وبغيره[93]
اجتماع الزكاة والخراج:
يتصور هذا الاجتماع في حالة ماذا اسلم صاحب الأرض الخراجية، او اشتراها مسلم أو استأجرها فهل تؤخذ منه زكاة وخراج؟ اختلف فيه الفقهاء فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة[94] إلى جواز اجتماع الزكاة والخراج، لأنهما حقان مختلفان من حيث الأساس والمصرف حيث الخراج مفروض على الأرض ويصف مصارف الفيء الزكاة مفروضة على ما يستخرج منها من زروع وثمار.
وذهب الحنفية إلى عدم جواز الجمع بينهما حيث يظل الخراج هو الأساس فإذا دفع المسلم الخراج على أرضه الخراجية سقطت عنه الزكاة[95] واستدلوا بحديث ( لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم )[96]
ولسنا هنا بصدد عرض أدلة الطرفين ومناقشتهما لكن الذي يظهر رجحانه هو قول الجمهور لأن الخراج أمران مختلفان فلا يغني أحدهما عن الآخر، والحديث الذي استدل به الأحناف حديث ضعيف لا ينهض حجة، لأن فيه يحيى بن عنبسة، قال الحافظ الزيلعي، قال ابن عدي: يحيى بن عنبسه منكر الحديث، وإنما يروي هذا من قول إبراهيم فجاء يحيى فأبطل فيه، ووصله النبي صلى الله عليه وسلم ويحيى مكشوف الامر في ضعف لرواياته عن الثقات الموضوعات انتهى قال ابن حبان: ليس هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث لا تحل الرواية عنه.. وقال الدار قطني يحيى هذا دجال يضع الحديث وذكره ابن الجوزي في الموضوعات[97].
والخراج كان منذ عهد عمر رضي الله عنه يؤخذ سنويا من الأرض مع قطع النظر عن إنتاجها حيث يؤخذ على جريب، وهذا يسمى بخراج الوظيفة ثم حدثت ظروف وتغيرات دفعت الخليفة أبا جعفر المنصور إلى القول بخراج المقاسمة بأن تأخذ الدولة جزءا شائعا من غلة الأرض مثل الربع، والخمس، ونحوهما، ويتكرر هذا الواجب بتكرر الزراعة[98] وهذا يدل على أن تقدير الخراج منوط باجتهاد الإمام حسبما يحقق من مصلحة.
ج- ضريبة التعشير أوالعشور في التجارات: التعشير لغة من عشر، بتشديد الشين، فيقال: فيقال عشر المال أي اخذ عشره واصله من عشر يعشر عشرا وعشورا أي أخذ واحدا من عشرة، ويقال: عشر المال عشورا أي أخذ عشره مكسا فهو عاشر، وله معان أخرى[99].
والعشور والتعشير والأعشار في الإصطلاح يقصد به ما يؤخذ على أموال التجارة التي يأتي بها غير المسلمين إلى بلاد المسلمين[100].
وكان أول من شرع العشور على أموال التجارة التي يأتي بها غير المسلمين سيدنا عمر رضي الله عنه يقول أبو يوسف: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر ابن الخطاب: أن تجارا من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهن العشر؟ قال: فكتب إليه عمر: فخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهما درهما ..[101]
وهذا الأثر يدل على مشروعية الضريبة على التجارة بحيث توضع على تجارة غير المسلمين الذين يأتون من الخارج العشر10% وعلى تجارة الذميين نصف العشر5% وعلى تجارة المسلمين الزكاة، كما يدل على المعاملة بالمثل فإذا كانت الدول غير الإسلامية تضع على تجارتنا ضريبة فلنا الحق أن نضع على تجارتها مثلها, أو أكثر أو أقل وقد بين أبو يوسف بأن البداية كانت من أهل منبهج قوم من أهل الحرب وراء البحرِ كتبوا إلى عمر بن الخطاب فقالوا: دعنا ندخل أرضك تجارا تعاشرنا قال: فتشاور عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشاروا عليه به، فكان أول من عشر من أهل الحرب[102].
ولا شك أن هذا الاجتهاد العمري الذي وافق عليه الصحابة يعد أصلا عظيما في العلاقات التجارية الدولية وفي تنميتها، وفي ترسيخ موازين العدل والمساواة والمعاملة بالمثل بما يحقق الخير للجميع وفي دعم الاقتصاد الإسلامي حيث يصرف ما يجبى منها مصرف الفيء.
د- فرض الخمس على الركاز ( المعادن والكنوز) وما تخرجه البحار:
فقد فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس في الركاز فقال:(وفي الركاز الخمس )[103] وهو يشمل على الراجح المعادن بجميع أنواعها السائلة والصلبة الظاهرة والباطنة ويشمل الكنوز أيضا[104], وهل هو زكاة أو فيئ؟ يأتي التفصيل في بحث مستقل يأتي.
وعلى ضوء ذلك فما تخرجه الأرض من أثقالها ومعادنها وكنوزها للإمام الحق في فرض ضريبة الخمس، يقول أبو يوسف: وفي كل ما أصيب في المعادن من قليل، أو كثير الخمس فأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت ففيه أيضا الخمس ومن أصاب كنزا عاديا في ملك أحد فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب فإن في ذلك الخمس[105].
ويقول أبو يوسف فيما يخرجه البحر فإن فيما خرج من البحر من الحلية والعنبر الخمس[106] وترجم البخاري باب ما يستخرج من البحر، ثم نقل قول الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخمس، فإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الركاز الخمس[107]
فهذه الأنواع السابقة ( من الجزية والخراج والعشور وخمس الركاز) وإن كان لها أسماؤها الخاصة، لكنه لا مانع من تسميتها بالضرائب، إذ هي تتفق معها في جوهرها وهدفها مع ملاحظة أن لكل نظام خصائصه ومميزاته ولذلك فالأفضل إبقاؤها على مصطلحاتها ومن هنا فإن الدولة الإسلامية لها الحق في الأخذ بهذه الوسائل المقررة لتحصيل الأموال وتوفيرها كما أن عليها أن تأخذ بكل قديم صالح, وجديد نافع دلت التجارب البشرية نجاحها.
ثانيا : فرض ضرائب جديدة بجانب الزكاة ليس لها سابقة عملية في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلاقة الراشدة فهل الدولة الإسلامية الحق في فرضها؟
هذا ما أثار فيه خلاف بين الفقهاء قديما وحديثا بين رافض ومانع، ومجيز بشروط وضوابط ويمكن التعبير عنه من خلال السؤال الآتي: ( هل في المال حق سوى الزكاة )،أو هل يعفى دفع الزكاة صاحب المال من أية التزامات مالية أخرى، أم أنها هي الحق الأساسي، ولامانع من تشريع حقوق أخرى بجانبها؟
وسبب الخلاف الأساسي يرجع إلى نصوص متعارضة في ظاهرها، حيث إن بعضها تدل على أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة مثل حديث الأعرابي الذي سأل عن الزكاة ثم قال: هل على غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم :( لا. إلا أن تطوع) ومع ذلك شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفلاح والفوز بالجنة[108]، كما استدلوا بحديث ورد مرة بلفظ (ليس في المال حق سوى الزكاة ) لكنه حديث ضعيف جدا ومردود بل فيه خطأ وتحريف[109].
ولكن بجانب هذه النصوص توجد أخرى تدل على أن في المال حقا سوى الزكاة حيث استدلوا بقوله تعالى: "ليس البِرُّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البِرَّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"[110] وقد استدل بهذه الآية على أن في المال حقا سوى الزكاة الترمذي والطبري وغيرهما[111] كما أستدلوا بالآيات والأحاديث الواردة في حق الزرع عند الحصاد ما عدا زكاته، وحقوق الأنعام والخيل، وحق الضيف وحق الماعون، ووجوب التكافل بين المسلمين[112] وقد دافع ابن حزم دفاعا مستميتا عن هذا الرأي فناقش المخالفين ورد على أدلتهم، ثم أورد من النصوص مايدل عليه[113].
وهذا الرأي هو الأولى بالترجيح والقبول، فإذا ثبت هذا فتنتقض قاعدة المخالفين في حصر حقوق المال في الزكاة وبالتالي يفتح باب جواز فرض الضرائب مع الزكاة لرقابة مصالح الأمة، وتغطية النفقات العامة للدولة بضوابط وشروط وهذا ماعليه بعض المعاصرين ودافع عنه الشيخ القرضاوي ورد على المخالفين الذين ينفون وجود حق مالي آخر على المال سوى الزكاة.
ونحن نوجز أدلة الفريقين مع المناقشة والترجيح حيث استدل النافون لجواز فرض ضرائب جديدةٍ مع الزكاة بما يأتي:
أولا: أن المشهور عند الفقهاء أن لاحق في المال سوى الزكاة بدليل بعض النصوص الدالة على ذلك كما سبق ، وبالتالي فلا يجوز فرض الضريبة على المال.
ثانيا: أن الإسلام احترم الملكية الخاصة وصانها من الاعتداء، ويدل على ذلك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة فقال صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا )[114] وقوله : ( من قتل دون ماله فهو شهيد )[115].
ولا شك أن فرض الضريبة على المال اعتداء على هذه الملكية بدون دليل شرعي.
ثالثا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل المكس وهو الضريبة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن صاحب المكس في النار)[116] وقال أيضا: (لايدخل الجنة صاحب مكس)[117] وقال أيضا في توبة المرأة الغامدية الزانية: ( لو تابها صاحب مكس لغفر له )[118] فهذه الأحاديث تدلى على أن المكس إثم عظيم وهو الضريبة المفروضة على الأموال وكذلك وردت أحاديث وإن كانت ضعيفة لكنها يقوى بعضها بعضا في عدم جواز العشور على تجارة المسلمين، منها مارواه الطبراني في الكبير بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إلا لبغي بفرجها،، أو العشار)[119] قال أبن الأثير : المكس الضريبة التي يأخذها الماكس، وهو العشار[120] قال الحافظ المنذري: أما الآن فإنهم يأخذون مكسا بأسم العشر ومكوسا آخر ليس لها اسم، بل شيء يأخذونه حراما وسحتا[121] وقد وردت أحاديث أخرى[122] بلفظ ( إنما العشور على اليهود والنصارى)[123].
ويمكن أن تناقش هذه الأدلة على المطلوب لأن احترام الملكية لا يتنافى مع فرض حقوق أخرى تعود آثارها بالمصلحة والخير على المجتمع الذي يشمل صاحب المال نفسه، وأن الدليل الثالث يدل على حرمة المكس والعشر الذي فيه ظلم وتعسف وإجحاف وبدون حق وضوابط ولا سيما أن كلمة (المكس) قد ارتبطت منذ قديم الزمان بالإتيان والضرائب والجائزة التي كانت تفرض بالقوة وتجبي بالسياط وتصرف لمصالح الإمبراطور أو الحاكم وحده دون رعاية مصالح الفرد والأمة، ولذلك جاء في البحر الرائق أن ماورد من ذم (العشار) محمول على من يأخذ أموال الناس ظلما، كما يفعله الظلمة اليوم[124] وقال الذهبي : "المكاس من أكبر أعوان الظلمة،بل هو من الظلمة أنفسهم، فإنه يأخذ مالا يستحق، ويعطيه لمن لايستحق"[125].
وأما حديث رفع العشور عن المسلمين فقال الشيخ القرضاوي: ومع أنه لم يصح ليس صريح الدلالة على ما قالوه بل له أكثر من معنى صحيح يمكن حمله عليه بدون العشر الذي كان يأخذه ملوك العرب والعجم في الجاهلية إلى ربع العشر[126].
وأما أدلة المجزين لفرض ضرائب بجانب الزكاة فهي:
أولا: أن التضامن الاجتماعي فريضة تدل عليه النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة كما سبق.
ثانيا: أن مصارف الزكاة محدودة ونفقات الدولة كثيرة فالزكاة لها مقدارها الخاص، ومصاريفها الخاصة فلا تخلط ببقية أموال الدولة، بينما الدول تحتاج إلى أموال كثيرة للدفاع والحرب، والبحوث العلمية والتقدم التكنولوجي ولتحقيق مجتمع العدالة والتعاون والتضامن والتكافل، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي نضب فيه مورد الغنائم والفيء لقد ذكر فقهاء الشافعية أن رواتب الجند المرتزقة لا تؤخذ من الزكاة، وإنما تكون من بيت المال، وإذا لم يوجد فيه فيلزم أغنياء المسلمين إعانتهم من غير مال الزكاة، يقول النووي: أظهرهما أي القولين لا يعطي المرتزقة من الزكاة من سهم سبيل الله، بل تجب إعانتهم على أغنياء المسلمين[127] .
ثالثا: إن قواعد الشريعةِ كقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ) وقاعدة رعاية المصالح، ودرء المفاسد وقاعدة الغرم بالغنم، تدل بوضوح على ضرورة وجود الدولة القوية, وأن قوتها لا تتحقق بدون أموال كافية, كما أن الفرد يستفيد من وجود الدولة وقوتها وهيبتها فلابد أن يكون له مقابل[128].
رابعا: ماذكره القرآن وأقره في قصة ذي القرنين حول عرض الشعب الخراج والضريبة الزائدة لحماية الأمة فقال تعالى: ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا)[129] يقول القاضي ابن العربي: "وعلى الملك فرض أن يقوم بحماية الخلق فيحفظ بيضتهم وسد فرجتهم،وإصلاح ثغرهم من أموالهم التي تفي عليهم حتى لو أكلتها الحقوق وأنفقتها المؤن واستوفتها العوارض لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم"[130] قال الشوكاني قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء وعلى الجزية وعلى الغلة قال قطرب الخراج الجزية،: والخراج في الأرض وقيل: الخرج ما يخرجه كل أحد من أمواله، والخراج ما يجبيه السلطان[131] .
خامسا: الأدلة التي ذكرناها في ان في المال حقا سوى الزكاة.
الترجيح
والذي يظهر لنا رجحاه هو أن الأصل عدم جواز فرض ضرائب ولكنه يستثنى من هذا الأصل حالات الضرورة والحاجة الملحة للدولة المسلمة مع ضرورة توافر ضوابط العدالة والمساواة وعدم الجور والاعتساف والإجحاف والحاجة الملحة هنا واسعة تشمل حاجة الدولة إلى الأموال للبنية التحتية الاقتصادية, وللتنمية الشاملة, وللتطوير الصناعي, والزراعي والتجاري, وللبحوث والابتكارات, إضافة إلى تحقيق التكافل الاجتماعي, ونفقات الدفاع وغير ذلك.
وبذلك نجمع بين الأدلة المتعارضة في ظاهرها حيث يدل بعضها على جواز ذلك مطلقا وبعضها على المنع،وذلك بأن تحمل أدلة المنع على حالات عدم الحاجة، والظلم والجور والإِعتساف وأدلة الجواز على حالات الحاجة مع ضوابط العدل والمساواة والإنصاف، يقول السرخسي، "ماروي من ذم العشار فمحمول على مايؤخذ مال الناس ظلما كما هو في زماننا دون مايؤخذ ماهو حق"[132].
وقد أكد فقهاؤنا هذا الأصل والاستثناء حيث يقول صاحب المعيار العرب في جواب سؤال حول حكم فرض الخراج على الرعية ( أن الأصل أن لا يطالب المسلمون بمغارم غير واجبة بالشرع، وإنما يطالبون بالزكاة وما أوجبه القرآن والسنة كالفيء والركاز ، وإرث من يرثه بيت المال ، وهذا ما أمكن به حمل الوطن وما يحتاج له من به حمل جند ومصالح المسلمين وسد ثلم الإسلام فإذا عجز بيت المال عن أرزاق الجند وما يحتاج إليه من آلة حرب وعدتها فيوزع على الناس ما يحتاج إليه من ذلك وعند ذلك يخرج هذا الحكم ويستنبط من قوله تعالى ( قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا )[133] لكن لايجوز هذا إلا بشروط...[134].
وهناك فتوى شبه جماعية في مذهب مالك حيث جمع الأمير العادل يوسف بن تاشفين (410-500هجرية ) العلماء والقضاة في المغرب وبينهم أبو الوليد الباجي وعرض عليهم حاجة الدولة إلى أموال إضافيه من أجل تجهيز الجيوش ومدافعة الأعداء وعدم وجود المال الكافي في بيت المال فأجازوا له أن يأخذ من أموال المسلمين ما يفي بذلك بشروط[135].. وقد حدث مثل ذلك في أيام قطز بمصر حينما أراد التجهيز لقتال التتار حيث جمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم في أخذ الأموال ليستعان بها على جهادهم وكان من بينهم القاضي بدر الدين السنجارى قاضي قضاة الديار المصرية وحضرة الشيخ عز الدين بن عبد السلام فتناقشوا في الأمر فانتهوا إلى ما قاله من أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ماتستعينون به على جهادكم بشرط أن لايبقى في بيت المال شئ ، وتبيعوا مالكم من الحوائص[136] المذهبة والآلات النفيسة ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه وتساووا هم والعامة أما أخذ الأموال من العامة مع بقايا ما في أيدى الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا[137]. وتكرر هذا الموقف للإمام النووي مع الظاهر بيبرس[138] .
ونرى مثل هذه الفتاوى المتزنة لدى فقهائنا الذين تطرقوا لمثل هذه القضية مثل الغزالي[139] والشاطبي[140] 00والجويني[141] والقرطبي[142] وابن العربي[143] والشوكاني وغيرهم حتى قال امام الحرمين : فإذا كانت الدماء تسيل على حدود الظبات - السيوف - فالأموال في هذا المقام من المستحقرات واجمع المسلمون على انه إذا اتفق في الزمان مضيعون فقراء تعين على الأغنياء أن يسعوا في كفايتهم وكذلك اتفقوا كافة على وجوب بذل الأموال … في جهات فرض الكفايات, فلاح على ابلغ وجه في الإيضاح انه يجب على الأغنياء في هذا القسم أن يبذلوا فضلات أموالهم … حتى تنجلى هذه الداهية -أي احتلال الكفار لديار الإسلام- وتنكف الفئة المارقة الطاغية .
اعلى الصفحه
الشروط المطلوبة لفرض الضرائب :
ومع التأكيد على أن الأصل هو عدم إباحة فرض الضرائب والاستثناء هو جوازها للضرورة, والحاجة المُلِحَة (الواسعة) فلابد أن يكون هذا الاستثناء في إطار الشروط والضوابط الآتية وهذا ماأكده فقهاؤنا المحققون يقول القاضي ابن العربي :
"ذلك -أي أخذ الأموال من الرعية- بثلاثة شروط :
الأول : ألا يستأثر بشيء عليهم ...
الثاني : أن يبدأ بأهل الحاجة منهم ..
الثالث : أن يسوى في العطاء بينهم على مقدار منازلهم ..
وذكر الونشريسي خمسة شروط نذكرها فيما بعد ، وقسم امام الحرمين الأحوال إلى ثلاث حالات احتلال الكفار لديار الإسلام ، وحالة الاستشعار بالخطر الداهم وحالة الحالة إلى المال لاستمرار الجهاد والدفاع...
ويمكن تلخيص الضوابط والشروط المطلوبة فيما يأتي:
1- الحاجة الحقيقية إلى المال بأن لا توجد موارد كافيه لدى الدولة، فلو كان في بيت المال مايقوم به لم يجز ولكن هذه الحاجة في نظري واسعة تشمل الحاجة الواقعة, والحاجة المتوقعة للقضايا التي ذكرناها:
2- أن تتصرف الدولة في المال بالعدل ، بان توزع الأعباء بالعدل 0
3- أن تصرف بحسب المصلحة والحاجة والعدل.
4- أن يكون الغرم -أي الضريبة- على من كان قادرا من غير ضرر ولااجحاف ، أى أن يقتصر فرضها على القادرين دون المحتاجين.
5- أن يتفقد هذا في كل وقت فإذا انتفت الحاجة أزيلت الضريبة وبعبارة أخرى أن يكون فرضا مؤقتا مقيداً بالحاجة الواقعة أو المنتظرة.
6- موافقة أهل الشورى على فرض الضرائب أي لا يكون الحاكم الفرد هو الحكم والخصم.
7- عدم احتساب هذه الضرائب من الزكاة لان مصارفهما مختلفة فالضرائب حتى ولو كانت عاجلة لايجوز احتسابها من الزكاة وأما الجائرة فأولى بهذا الحكم.
هل تغني الضريبه عن الزكاة ؟
للجواب عن هذا السؤال يقول علماؤنا :
انه لاتغني الضريبة عن الزكاة لاختلاف كل منهما في المصرف والنية وغيرهما وما وجد تناقض في أحوال المسلمين فليس المسؤول عنه الإسلام ، وإنما الاستعمار هو الذي صنع ذلك وقد صرح فقهاؤنا المتأخرون بان المكوس لاتغني عن الزكاة ولا تحسب منها مثل ابن حجر الهيثمي وابن عابدين والشيخ عليش ، والسيد رشيد والشيخ شلتوت والشيخ أبي زهرة والقرضاوي وغيرهم ، ولكن الأموال التي تؤخذ كضرائب تحسم من الموجودات الزكوية ..
التهرب من الضريبة ..
إذا كانت الضريبة عادلة وتوافرت فيها شروطها وحكم بها ولي الأمر فإنه يجب على المسلمين الالتزام بها تنفيذاً لقوله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم...).
وبالتالي فلا يجوز التهرب منها, وكذلك لا يجوز للمسلم التهرب من الضرائب بطرق غير قانونية في الدول غير الإسلامية التزاما ًبالعقد الذي بينه وبين الدولة, اضافة إلى أن الضرائب –تُصرف في الغالب في المصالح العامة. والله اعلم.