قال - تعالى -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ﴾ [البقرة: 185].
فإلى جانبِ ما في شهر رَمضان من فضائل صحيَّة وتربويَّة، فهناك رمزٌ سياسي هام في فرْض صيام هذا الشَّهْر بالذات، وقد أشارتْ هذه الآية الكريمة إلى ذلك الرَّمْز السياسي، وهو أنَّ هذا الشهر كان محلاًّ لبَدء نزول القرآن الكريم، ذلك الكتاب الذي أنزل ليكونَ دستورًا للمسلمين، وهدايةً للمؤمنين، ومصدرَ خير ونور وتقدُّم للبشرية كلها.
ولقد أراد الله سبحانه أن يؤكِّد للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا المعنى وللمؤمنين أيضًا، فكان ينزل جبريل إلى رسولِ الله كلَّ رمضان، يعرِض عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - القرآنَ وما نزل عليه مِن قبل.
كما يَروي البخاريُّ عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ((كان النبيُّ أجودَ الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلْقاه جبريل، وكان جبريل - عليه السلام - يَلْقاه كلَّ ليلة في رمَضان حتى ينسلِخ، يعرِض عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - القرآنَ، فإذا لقِيَه جِبريل - عليه السلام - كان أجودَ بالخير مِن الرِّيح المرسَلة)).
فكأنَّ هذا إحياءٌ للمناسَبة الكريمة - مناسبة نزول أرْقى دُستور عرفته البشريَّة، وأقْوى سِراج وهَّاج على طريقِ الهِداية والنُّور، كما قال الله في كِتابه التكريم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ [التوبة: 33]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
وإذا كانتِ الأُمم الحديثة تحتفِل بمناسبات صُدور دساتيرها الوضعيَّة التي هي من صُنع أيديهم، والتي تجِد فيها التناقض والتعارُض، ولا تزال بحاجةٍ إلى استدراك، أو إضافة موادَّ معدَّلة بجانب الموادِّ الأساسية، ما بقِي للعمل بها وحتى يصدر قانون أو استدارك آخَر، فإنَّ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، والذي وصَفه مُنَزِّلُه سبحانه على عبدِه بأنَّه لو كان مِن عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، وذلك في قوله: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، فإنَّ هذا الكتابَ أولى بالاحتفال بعظمة المناسبة التي نزل فيها - الليلة والشهر:
فالليلة - وهي ليلة القدْر - كما قال تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 3 - 5].
والشهر - وهو شهر رمضان - قد فرض صيامه على مَن شهده تكريمًا لذلك الوحي الإلهي الذي كان فاتحةً لحياة النور، وقاضيًا على عهد الظُّلمات وعهْد التجبُّر والهمجيَّة، ولقد وصَف أمير الشعراء أحمد شوقي حياةَ الدنيا قبل إنقاذها بذلك الوحي النبويِّ وصفًا تتجلَّى منه مناسبة نُزول هذا الوحي الكريم، ومبعث ذلك النبيِّ الذي بُعِث رحمة للعالمين، فقال يخاطب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومادحًا إيَّاه:
أَتَيْتَ وَالنَّاسُ فَوْضَى لاَ تَمُرُّ بِهِمْ
إِلاَّ عَلى صَنَمٍ قَدْ هَامَ فِي صَنَمِ
وَالأَرضُ مَمْلُوءَةٌ جَوْرًا مُسَخَّرَةٌ
لِكُلِّ طَاغِيَةٍ فِي الخَلْقِ مُحْتَكِمِ
مُسَيطِرُ الفُرْسِ يَبْغِي فِي رَعِيَّتِهِ
وَقَيصَرُ الرُّومِ مِنْ كِبرٍْ أَصَمُّ عَمِي
يُعَذِّبَانِ عِبَادَ اللَّهِ في شُبَهٍ
وَيَذْبَحَانِ كَمَا ضَحَّيْتَ بِالغَنَمِ
ثم يتحدَّث عن أثر دعوة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في البشرية وفي حياة الناس، فيقول:
أَخُوكَ عِيسَى دَعَا مَيْتًا فَقَامَ لَهُ
وَأَنْتَ أَحْيَيْتَ أَجْيَالاً مِنَ الرِّمَمِ
وَالجَهْلُ مَوْتٌ فَإِنْ أُوتِيتَ مُعْجِزَةً
فَابْعَثْ مِنَ الجَهْلِ أَوْ فَابْعَثْ مِنَ الرَّجَمِ
هذه هي الدعوةُ المحمَّدية، وهذا هو القُرآن، وهذا هو الشَّهر الذي نزَل فيه القرآن، فما أجدرَ هذا الشهرَ بالصيام! انطلاقًا مِن جلال الحادث وعظمته، إلى جلال المناسبة والزَّمن وعظمتها، وتبعية الظرف لمظروفه، والوعاء لمحتواه؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
لا بدَّ وأن تصومَه الأُمَّة الإسلامية إجلالاً لذلك القرآن، وتقديرًا لقِيمته كدستور كفَل للبشرية سعادتَها وهناءها، ومزجه باستقبال خيرِ مناسبة جاء فيها الوحي الإلهي، واتَّصلتِ السماء بالأرْض وتنزلت عليها؛ مِن أجْل أبناء الأرْض، ومن أجْل تكريمهم، وإحياء الإنسانيَّة فيهم، وإخراجهم مِن الظلمات إلى النور! فما على أبناء الأرض إلا أن يُقابلوا هذا الاتِّصال والتنزُّل من السماء باتِّصال مثله، ومحاولة الارتفاع بالنَّفْس والصُّعود بالرُّوح إلى ذلك المستوى العالي مستوى السَّماء، والإقبال على الله بصومِ شهْر رمضان، وهو أجدرُ الشهور بذلك، ذلك الشهر الذي عظم عندَ الله مِن أجْل نزول القرآن فيه، فجعل صومه رُكنًا من أرْكان الإسلام.
فلتنظر الأمَّة الإسلامية إلى جلالِ هذه المناسبة التي جعَل الله لها تعظيمًا وإجلالاً فرض صِيام هذا الشهر، والتقرُّب إلى الله فيه، وتتعبَّد إليه بكلِّ ما يملك الإنسان مِن مناسك التعبُّد المشروعة، وألوان القُرُبات المقرِّبة إلى الله؛ شكرًا له على إنعامه علينا بنِعمة الإسلام ونِعمة القرآن، وشكرًا له على أنَّه لم يترك البشرية سُدًى، ولم يكِلْها إلى نفْسها تتخبَّط في ظُلمات الجهالة وحياة البَداوة والوحشيَّة.
ولتنظر هذه الأمَّة أيضًا إلى منشِئ ذلك الجلال وخالِق تلك العظَمة، والذي كان سببًا في تكريم هذا الشَّهْر، وهو القرآن الكريم، وبعث محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذلك النبي الأمين، ولتراعِ أحكامه، وتتمسَّك بأوامره، وتجتنب نواهيَه وتحكِّمه في كلِّ صغيرة وكبيرة في حياتها في ضوءِ ذلك التعظيم، وهذا الإجلال، ولتعرف أنَّ عظمتها إنما هي في ذلك التمسُّك، وفي عظمة العمَل، وجلال الاقتداء واتِّباع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه ﴾ [النساء: 64]، وهذه مِنَّة كبرى ونِعمة عظمى، نجد الله - سبحانه وتعالى - يمتنُّ علينا بها في قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
فلنُصمْ شهر رمضان، ونحْن على هذه النَّظرة، ولنستحضر دائمًا أنَّ رمضان كان ولا يزال رمزَ العِزَّة والعظمة والخلود، وأنَّه مناسبة كريمة أكْرمَنا الله فيها بأن جعلنا خيرَ أمَّة أُخرجت للناس، تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأعدَّها بسبب ذلك لقيادة العالَم، وأنَّ هذا هو طريق المفلحين الأعزَّة، ولتعلم أيضًا أن الله - سبحانه وتعالى - إنما أراد لنا تلك القوَّة والعظمة، وبيدها تقريرُ مصيرها، بل ومصير العالَم أجمع؛ لأنَّ بيدها خيرَ دستور أُخرج للناس، وخير قانون يَهدي البشريَّة، وخير كتاب أَخْرَج الناس مِن الظلمات إلى النور، كتاب العدل والحريَّة، والإخاء والمساواة.
ألا إنَّ في صيام رمضان بهذا المعنى تحرُّكًا نحو العزَّة، وتوثُّبًا نحو التقدم، وتبوُّءًا أعْلى مكانة في الدنيا، ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، ممَّن أرادوا لأمَّة الإسلام القوةَ والمجد والخلود.