الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقريبًا سيطلُّ علينا رمضان، وما أدراك ما رمضان! يطلُّ علينا بكاملِ زينته وجميل حليته؛ والتي منها: صلاةُ التراويح والتهجد جماعة في المساجد، يرفع فيها ذكرُ الله وتلتقي فيها قلوبُ المؤمنين في صفوفٍ واحدة.
لوحة إيمانية إبداعية، تتكاملُ فيها خطوطُ جمال الطاعة مع حروفِ صفاء الأخوة، فما أروعها من لحظاتٍ تكاد تُعجِزُ الواصفين وتُسكِت المادحين! نسأل الله أن يبلِّغنا إياها، ويرزقنا قمةَ لذتِها، وأعلى درجة في حلاوتها.
غير أنه يحصلُ أن صلاةَ الليل تثقل علينا أو على عددٍ منَّا، سواء كانت صلاة التراويح أم صلاة التهجد التي تقامُ في العشرِ الأواخر من هذا الشهر المبارك في كثيرٍ من المساجد في عموم بلاد المسلمين ولله الحمد والمنة، فلماذا؟! لماذا نستثقل صلاةَ القيام؟!
مسكينةٌ هي المعدة؛ فهي المتهم الأول في ذلك! عندما وجهتُ السؤالَ السابق لعدد من الزملاء أجمعوا على أنَّ كثرةَ الأكل على رأسِ الأسباب، وقبل ذلك وفوق ذلك وأصدق من ذلك قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنِه))، لكن عجيبٌ أمر ابن آدم؛ فهو الذي يملأ معدتَه، ثم يشكو منها!
ولا نستطيعُ أن نقولَ: إنَّ الأكلَ غير المعتدل لا يؤثر على الخشوعِ، ولا يذهب بالنَّشاطِ لصلاةِ القيام، لكننا نجزمُ أنَّ هناك أسبابًا أخرى تفعلُ ذلك وإن كانت المعدة معتدلة وهادئة.
إنَّ للصلاةِ أسرارًا تحفظُ خشوعَها، وتجعلها محبوبةً إلى النفوسِ، يتلذَّذُ فيها المصلي ويشعر براحةٍ غير عادية، ويعيش لحظاتِ مناجاةٍ للرحمن، والوقوف بين يديه والسجود له والركوع لا تساويها أيُّ لذةٍ في الدنيا، هكذا تحدثنا أخبارُ السلف عن حالِهم في الصلاة.
إنَّ القراءةَ اليسيرة في حالِ السلف مع قيامِ الليل تجعلنا نسلمُ أنَّ هناك أسبابًا تؤثر في الحصولِ على لذة القيام، وعدم استثقال الصلاة غير الأكل والنَّوم والمكان والزمان وباقي الأسباب التي نتفقُ عليها ونؤكد عليها في محاضراتِنا وخطبنا ومجالسنا ومقالاتنا.
وجدنا من يقيمُ الليلَ كلَّه إلا قليلاً، ووجدنا من يصومُ النَّهارَ ويقوم الليل، ووجدنا من يقفُ عند آيةٍ واحدة ليلته كاملة، ووجدنا من يصلي ولا يدري ما حوله، ومن إذا دخل في الصلاةِ فلأهله أن يفعلوا ما شاؤوا؛ فهو في حياةٍ أخرى لا يدري بهم!
وجدناهم صورة عمليَّة لقوله - تعالى -: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ [السجدة : 16]، ووجدنا من يصلي ليلَه، ويصبح نهاره كأنَّه نام الليلَ كلَّه.
ألا يدلُّ هذا وغيره على أنَّ في المسألةِ سرًّا غير الأكل والشرب والنوم وغيرها من الأسباب الظَّاهرة، فهي وإن كانت مؤثرة، لكن هل يتأتى الخشوعُ وتحصل لذة للعبادة إذا ما قلَّلنا الأكلَ والشرب، وأخذنا قسطًا من الراحةِ في النهار، وقمنا بالأسبابِ المادية التي تعينُ على القيام؟ إنَّها ولا شكَّ ستحدث نشاطًا وخفة، لكن يبقى السؤال: هل تحصل لذة للعبادة؟ فذاك النشاط الناتج يعين على القيامِ دون تململ وتقليب رِجل والوقوف على أخرى، لكن هل يأتي بالتلذذ؟
إنَّ التلذذ بالعبادةِ شيء آخر، وهو ما يجعلها سهلةً، بل راحة وانشراحًا، هو من يطردُ النوم من العين، والكسل من البدن.
والتلذذ لا يأتي من أكلةٍ معينة؛ نوعًا وكمية، ولا من صوتِ إمام معين، فهو يأتي من ذاتِ الشخص، يأتي من حضورِ القلب في الصلاة، هذا ما نجدُه بين سطورِ قيام السلف.
إنَّ عدم حضورِ القلب في الصلاة هو السببُ الرئيس في استثقالِها، ولو قرأ الإمامُ نصفَ صفحةٍ وكان من أعذبِ النَّاس صوتًا؛ فحضور القلب في الصلاةِ ينقلُ المصلي من حديقةٍ إلى أخرى، ومن متعة إلى أخرى، ومن مشهدٍ لآخر، فتمرُّ عليه آياتُ الجنةِ وقلبه حاضر، فيرفرف آملاً في بلوغها وشوقًا إلى دخولِها، وتمرُّ عليه آياتُ العذابِ فيكاد ينخلعُ من مكانِه خوفًا من أن يكونَ من أهلِها، وتأتيه محطاتُ الاستغفارِ والرحمة، فيسعى لتلمسِها وسؤالها، ويمر بالقصصِ فيعيشها في لحظتِه كأنَّه من أهلها، كل ذلك وغيره إذا كان قلبه حاضرًا في صلاتِه، هذا ما نلمسُه من قيامِ السلف فكيف لنا بهم؟!
تأمل النموذج التالي:
روى ابنُ المبارك في "الزهد" عن مولى لأبى ريحانة قال: "قفل أبو ريحانة من بعثٍ غزا فيه، فلمَّا انصرف أتى أهلَه فتعشَّى من عشائهم، ثم دعا بوَضوءٍ فتوضَّأ منه، ثم قام إلى مسجده - يعني مصلاه في بيته - فقرأ سورةً ثم أخرى، ولم يزل كذلك؛ كلَّما فرغ من سورةٍ افتتح الأخرى، حتى إذا أذَّن المؤذن من سحر شدَّ عليه ثيابَه، فأتته امرأتُه فقالت: يا أبا ريحانة، قد غزوتَ فتعبتَ في غزوتِك، ثم قدمتَ إليَّ فلم يكن لي منك حظٌّ ولا نصيب، فقال: بلى والله، ما خطرتِ لي على بال، ولو ذكرتُك لكان لك علي حقٌّ، قالت: فما الذي شغلك عنَّا يا أبا ريحانة؟ قال: لم يزل قلبي يهيمُ فيما وصف الله في جنتِه؛ من لباسها وأزواجها ونعيمها ولذاتها حتى سمعتُ المؤذن"؛ اللهم ارزقنا لذة مناجاتك.
ومما ذكره الأحبةُ في الأسبابِ الظاهرة لاستثقالِ القيام إلى جانبِ الأكل: إجهاد البدن في النَّهار، التأخر في الحضورِ إلى الصلاة، صوت الإمام، عدم التعودِ على القيام خلال العام، الزحام في الصفوف وغيرها.
وهذه وإن كانت أسبابًا لاستثقالِ الصلاة، لكن يبقى السؤالُ قائمًا: إذا خفَّفنا الأكلَ، ولم نجهد البدن، وبكَّرنا في الحضورِ، واخترنا مسجدًا إمامه صاحب صوتٍ أخَّاذ ندي، وأخذنا مكانًا مريحًا في الصف، وقمنا بجميع الأسبابِ المادية - بالطبع سنجدُ نشاطًا - فهل حققنا شروطَ الحصولِ على صلاة نتنعم بها؟
آخر مَن ألقيتُ عليه سؤالي السابق فاجأني بإجابتِه مستنكرًا؛ حيث قال: "أصبحنا نستثقل صلاةَ الجماعةِ للفريضة وأنت تسألُ عن قيامِ الليل!" كانت نظرتُه أبعد، وقوله أصرح وأشد علينا في نفسِ الوقت، لم أملك إلا موافقته، فالواقع مؤلم وبعد التهدئة والعودة إلى موضوع سؤالي وافقني، فقال مختصرًا: "السببُ عدم وجود لذة للعبادة".
اللهمَّ إنا نعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يُستجاب لها، اللهمَّ بلغنا رمضان، وارزقنا قيامَه وصيامه على الوجه الذي يرضيك عنَّا، يا رحمن ارحمنا، وطهر قلوبنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا.
وصلَّى الله على عبدِه ورسولِه وصفيه من خلقِه وخليله وعلى آله وصحابته وسلَّم.
والحمد لله ربِّ العالمين