يُعاني الواقع العربي والإسلاميُّ اليوم تراجعًا مريرًا، وانكفاءً مقززًا، ونكوصًا حادًّا، في كلِّ المجالات، وقد انعكس هذا الواقع المزري بشكلٍ سلبي على حال الأمَّة بشكل مباشر؛ بحيث بَدا الحال مُنهَكًا، ومعرَّضًا للاستلاب والمَسْخ من الأعداء بشكلٍ متتابع، ولم يعد العربيُّ المسلم عزيزًا شامخًا، كما هو الأصل في المكانة التي منَحه إيَّاها دينه الإسلامي؛ على قاعدة: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، بل أصبح المواطن العربيُّ المسلم مسكونًا بالذلة والبُؤس والمَسْكنة، والشُّعور بعقدة الدونية، والانبهار بالأجنبي، والتبعيَّة البغيضة له، على صغار الأجنبي القِيَمي والمعنوي، وما يعانيه من فراغٍ روحي وحضاري، قياسًا بالعربي المسلم المستظلِّ بعمق القيم الفاضلة، والتَّراكم الحضاري البَهي.
ولأن قاعدة التكوُّن المؤمن، والارتقاء الخيري، والاقتراب المتجسِّد بالأمة من التاريخ في صفحاته المشرقة، تتطلَّب عملية انقلابٍ شامل على الذَّات، وعلى الواقع الفاسد، على قاعدة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]؛ حيث تكمن مشكلتنا اليوم في تعاطينا مع الإسلام العظيم، بكيفيَّة اتِّصالنا الصادق به؛ ذلك لأنَّ المُلاحَظ أن الفاصلة الزمنية الطويلة، بين الجيل الربَّاني الأوَّل، وبين عصرنا الرَّاهن، وتحديات الحدَاثة، قد نجحَتْ في تكوين عربٍ ومُسلمين، منقطعين عن الإسلام وماضيهم المَجيد، ولا يتَّصِلون بالإسلام كثورةٍ على الواقع الفاسد، الممتلِئ بالظُّلم والطَّاغوت، إلاَّ بالاسم فقط، والاقتصار على تأدية بعض الطُّقوس الخالية من العمق الرُّوحي، المتَّصِل بتجربة الإسلام الحيَّة لجيل الراشدين، الذي كان النَّموذج المتجسِّد للإسلام، كما أراده الله.
ولعلَّ استِكْناه مثل هذا المال، هو ما حدا بالرَّسول القائد أن يقرِّر - بتطلُّعه المؤمن - أن يعضَّ الجيلُ اللاحق من التابعين ومَن يليهم من العرب والمسلمين بالنَّواجذ على كتاب الله وسنَّة رسوله؛ باعتبارها الممارسة العمليَّة الصحيحة للدِّين؛ فهُما لا يفترقان حتى يَرِدان عليه الحوضَ؛ كنايةً عن عمليَّة الاتصال العضوي، التي كان الرسول يطمح لها، وفقًا لرؤيته المستبصرة بحسِّه القيادي لمستقبل منفصِم عن الإسلام - مع طول الفاصلة - على مسارِها الزَّمني المستقبليِّ في حركة الأمة، وتكرار الانقطاعات في مسيرة الهدى الظَّافرة.
ولغرض تَجاوز هذا الحال المنهك، ولغرض معاودة الدَّور الرسالي للأمة، والتأثير باقتدارٍ على الساحة الإنسانيَّة، المُثْقَلة بالآلام؛ فإن المطلوب أن يتوقَّف العرب والمسلمون مع أنفسهم وقفة جادَّة في عملية مُراجعة شاملة، تستهدف وضع آليَّة لردم الهوَّة السحيقة بين الحاضر المنهَك، والماضي المشرق، في عملية اتِّصال حقيقي مع الإسلام الخالد، والتُّراث المجيد، واستلهام واعٍ لهما، في صياغة نَموذج الحال، بطريقةِ نقل الماضي خطوةً إلى الأمام، وأن نعيش العصر بكلِّ حقائقه، من موقعٍ قيادي مؤثِّر، ينقل الحال خطوة إلى الأمام، بصيغة قفزات ضفدعية، وحرق للمراحل؛ لتعويض الغياب الحضاري عن الدَّور، وتوكيد الحضور التاريخي من جديد؛ لكي تكون الأُمَّةُ مجددًا ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
وحيث سيطلُّ علينا بعد بِضْعة أيام شهرُ رمضان المبارك، الذي نزَل فيه القرآنُ الكريم على قلب رسولنا النبيِّ العربي الأمِّي، محمَّد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هُدًى للناس، وبيِّنات من الهدى والفرقان، فكانت البشريَّة جمعاء، والعرب بشكلٍ خاص، على موعدٍ مع إرادة الله - جلَّ وعلا - ليكونوا حاضنة الإسلام العظيم، وطلائع الفتح الربَّاني؛ لتحرير الناس - في أرجاء المعمورة - من وثنيَّات الشِّرك والكفر إلى التوحيد، ومن الظُّلم إلى العدل والإنصاف.
ورغم أنَّ العرب كانوا في مجتمعهم الجاهليِّ - عندما نزل الوحي - يعيشون الكثيرَ من المُمارسات السلبيَّة، والمَظاهر الموبقة، لكنَّهم في ذات الوقت، كانوا مَنجمًا ثريًّا يَذْخر بالكثير من القِيَم الفاضلة، التي كرَّس الرسول الكريم خيريَّتَها، والتأصيل لها بقوله: ((إنَّما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق))، كما أنَّ الله - سبحانه وتعالى - بامتداحه رسولَه الكريم بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، أعطى الدلالة على أنَّ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو خلاصة القِيَم النبيلة، والأخلاق الفاضلة، في عمليَّة التكوين الذاتي، والجمعي معًا، حيث هو ابنُ المُجتمعِ البار، الذي عاش مفرداتِ وتفاصيلَ حياته؛ من رعي الغنم، مرورًا بالتجارة، وانتهاءً بالتحنُّث، والاستعداد لتلقِّي النبوَّة، ومع أنَّ المسيرة الربَّانية، جاءت لإتمام وتعميق القِيَم الفاضلة المُتراكمة عند قومه، فإنَّهم - كانوا بحاجة إلى انقلابٍ شامل على الذَّات العربية - في عمليةٍ جهادية حاسمة، متساوقة مع الإسلام؛ نصًّا، ونهجًا، وسلوكًا، لتقويض كلِّ السلبيات، وهَدْم كل الموبقات التي كانت تشوب المجتمع العربي، بمراكزه المكِّية والمَدنية، وهوامشهما، وأطراف الجزيرة العربية، في عملية صياغةٍ جديدة لملامح حياة عربية خيرة، انصهرت كلِّيةً بالرسالة الإسلامية، واصطبغت بملامح الدين الإسلامي الجديد، حيث انصرف الرسولُ الكريم في دعوته المباركة لبناء جيلٍ ربَّاني من الصحابة الكرام، استطاع أن يتماهى مع هَدْي السماء، والتوجيه النبوي، إلى درجة التطابق التامِّ؛ فكرًا وسلوكًا، حتى وصفهم الله بقوله: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [التوبة: 100]، متخطِّين بذلك كلَّ عوامل التخلف، والنُّكوص، والانكفاء، التي كانت أبرز سمات المجتمع الجاهلي.
فكان التَّماهي - بالتأسِّي بالنموذج النبوي، والخيرية الربَّانية - قد جعل من كلِّ العرب المؤمنين بالدِّين الجديد مَثلاً محمديًّا، مفعمًا بكل معطيات التطلُّع المؤمن، المتفائل بالمستقبل المشرِق، الذي تنبَّأ به الرسولُ القائد باستشرافٍ مؤمن، عندما كانت مَعاول مُقاتلي الصحابة تقدح نارًا، وهي تفتِّت بضرباتها القويَّة صخورَ تربة الخندق عند حَفْرِه من قِبَل صحابته المجاهدين، جند التَّحرير، يوم هتف بصرخته الإيمانيَّة المدوِّية، قائلاً: ((الله أكبر، إنِّي أرى قصور الشَّام وحصونَ اليمَن))، في عمليَّةِ تعبئة وإعداد متطلِّعة؛ لاستكمال مهمات التحرير، وإنجاز النَّصر، وجَنْي المغانم، ورضا الله، فكان نصر الله مدويًا، بالرَّغم من تواضعِ الإمكانات المُتاحة للرَّسول وصحابتِه، بالقياسات الفنِّية المجرَّدة، مقارنةً بإمكانات العدو؛ ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123]، وهذا هو - بلا شكٍّ - قانون الله المركزي، وسُنَّته الكونيَّة في تمكين ونصر المؤمنين، عندما يتماهى إيمانُهم برسالته مع سلوكِهم بتمثُّلِها التام في مسيرتهم الظافرة، حتَّى وإنْ تفوَّق العدو عليهم؛ عددًا وعدة.
واليوم، فإنَّ المطلوب أن نقف في شهر رمضان الكريم وقفةَ استلهامٍ جادَّةً؛ للعمل على صياغة الحال بالاقتراب المتجسِّد من نموذج الأمَّة في جيلها السابق، وأن نقف صفًّا واحدًا - كالبُنيان المرصوص - في دَرْب مُقاومة مشروع شَرْذَمة الأمَّة، ومَسْخِ كيانها بالعولمة الجارفة، في عمليَّة جهاد مقدَّس، تستهدف تحرير فلسطين والعراق من دنَسِ المحتلِّ، في أصدَقِ عمليَّةِ استلهام مباركةٍ لمسيرة النبيِّ وصَحْبِه الكرام، في تحرير الذَّات - وطنًا، وإنسانًا، وقِيَمًا معًا - من طاغوت الهيمنة الغربيَّة الصِّهيونية المقيتة، ومعاودة الدَّور الرِّسالي، بإعمار ما دمَّره الأشرار، ومعاودة الدَّور من جديد، في تحرير الإنسانيَّة المعذَّبة من الظُّلم والاستغلال.
ولا شكَّ أنَّ نفحات هذا الشهر الكريم، الذي ارتبط بذاكرة العرَب، وبالإسلام الحنيف، ونزول القرآن الكريم على النبيِّ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كثورةٍ كُبْرى قادها الرسولُ الكريم، وفجَّرَها أصحابُه الميامين، وانتصرت في معركة بدرٍ الكبرى، بصولات فرسان، ذلك الجيل العرَبِي الإسلامي البدريُّ، الذي حطَّم الطاغوت من قبل، ونشَر الوحدانية والعدل على الأرض، ووضع حدًّا لكلِّ سلبيات الجَوْر والطُّغيان، في مسيرة إنقاذٍ للعباد؛ لينعموا بنور الله، حيث سيُتِمُّ نعمته عليهم إلى الأبد؛ إذْ يأبى إلاَّ أن يُتِمَّ نوره، ولو كره الكافرون.
وما دام أنَّ لله - جلَّت حكمتُه - خَواصَّ في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فنَرجو - ومن وَحْي نفحات هذا الشهر المبارك - أن يكون هذا الشهر خاصَّةَ زمن الله في نَصْرِ العرب والمسلمين على واقعهم الفاسد المتردِّي، والتي عساها أن تكون بتوفيقِه خاصَّةَ شُخوصه، وأن يحرِّر فلسطين الأرض التي بارك حولها، والعراقَ جمجمة العرب، كخاصَّة مكانه، وأن يحمي بقيَّة أقطار الأُمَّة من الفوضى الخلاَّقة، إنَّه نِعْم المولى ونعم النَّصير.
.
الجمعة 5 أغسطس 2011 - 23:18
