لئن كان لكل خير مواسم، ولبعضها مناسبات أفراح، فإن شهر رمضان هو موسم جميع المسلمين الذي تتنافس فيه معطيات الخير في نفوسهم، وتبرز معاني فِطرهم الطيبة، متحدية كل نوازع الشر والعبث، هذا بالإضافة إلى أن هذا الشهر تتضاعف فيه أعمال العبد عند خالقه، وتحتسب النوافل بأجر الفرائض التي يضاعف الله أجرها عن غيرها في باقي الأيام.
ذلك أن شهر رمضان هو شهر الله الذي اختصه لنفسه - تعالى - فقال - جل وعلا - في الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به"؛ حيث يتفرغ المؤمنون فيه لصيامه نهارًا ولقيامه ليلاً، يجوعون ويظمئون بالحمد والشكر، ثم هم يسهرون ويصلون، ويتضرعون بالاستغفار، ورجاء العفو والفضل من ربهم، إن فرحتهم بهذا الشهر لا تكاد تعادلها فرحة، وهم يقبلون على الله آناء الليل وأطراف النهار، طائعين مستبشرين؛ ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ﴾ [المائدة:2].
ولعظمة هذا الشهر المبارك نتذكر بعض ما جاء في حقِّه: فقد روى ابن مسعود - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنه سمعه يقول في جمع من الصحابة - رضوان الله عليهم -: ((لو يعلم العباد ما في رمضان، لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان)).
ولقد طلب منه بعض الصحابة أن يحدثهم عن هذا الشهر العظيم، فقال - عليه الصلاة والسلم -: ((إن الجنة لتُزيَّن لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أول رمضان، هبَّت ريحٌ من تحت العرش، فصفقت ورق أشجار الجنة، فتنظر الحور إلى ذلك، فيقُلْنَ: يا ربَّنا، اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقرُّ أعيننا بهم، وتقرُّ أعينهم بنا)).
ثم قال: ((فما عبد يصوم يومًا في رمضان إلاّ زوّج زوجة من الحور العين في خيمة من درة))، وقد كان - عليه الصلاة والسلام - يُبشّر أصحابه في شهر رمضان، ويقول: ((قد جاءكم الشهر المبارك الذي فيه الليلة التي هي خير من ألف شهر، ولله في كل ليلة من ليالي شهر رمضان ستمائة ألف عتيق من النار، وله في آخر ليلة من لياليه مثل ما اعتق في جميع الشهر)).
قال بعض الزُّهاد:
إنّ شهر الصيام مضمار نُسك = وسباق إلى رضا المعبودِ
حلبة خيلها الصيام مع الن = سك وإدخالها جنان الخلودِ
وقال آخر:
شهر الصيام مشاكل الحمّام = فيه طهور جوامع الآثامِ
فاطهر به واحذر عثارك إنما = شرّ المصارع مصرع الحمامِ
وقال أبو جعفر الرامي في شهر رمضان:
فيا لك شهرًا شهّر الله قدره لقد شُهرت فيه سيوف الهدى شهرًا
وقال أحدهم:
ألا إن شهر الصوم عنكم قد انقضى = فهل مرجع منكم لوشك له انصرامه
وهل فيكم مستوحش لفراقه = وما فاته من صومه وقيامهِ
فلا تغفلوا يا قوم إخراج حقّه = وأدوا زكاة الفطر عند تمامهِ
وما شرعت إلا لتكفير لغوه = ولم تُقض إلا طُهرة لصيامهِ
فقد فاز من زكّى وصلى لرّبه = وحاز بشهر الصوم تكفير عامهِ
وقال آخر:
طوبى لعبد صام لله عن = مطعومه شهرًا ومشروبهِ
وصان عن قول الخنا صومه = ولم يشبه بأكاذيبهِ
والتمس الأجر على صومه = من ربه في ترك محبوبهِ
فالصوم لله كما صح = عن نبيّه والله يجزي بهِ
اقتباسًا من قوله - سبحانه - في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به).
وقال آخر:
شهر الصيام سيّد الشهور = كما أتى في الأثر المشهور
ولم يزل في سالف الدهور = محترمًا ذا بهجة ونور
فيه كما في الخبر المذكور = نُزّل بالتوراة يوم الطور
والذكر والإنجيل والزبور = فاستكثروا فيه من القصور
في جنة الخلد بلا قصور = واجتنبوا اللغو وقول الزور
وانتبهوا للعرض والنشور = قبل حلول ظلمة القبور
وبعد:
هذا غيض من فيض مما جاء في فضائل شهرنا المعظم الذي يحظى لذلك بالإجلال والتعظيم، ولكونه أيضًا هو الذي كانت تنزل فيه الكتب السماوية لهداية الناس؛ كما قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - بأن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أنزلت صحف إبراهيم - عليه السلام - في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)).