يعيش أطفالنا هذه الأيام في أجواء ربانية، فالمصلون قد ملئوا المساجد بالصلاة، والمصاحف أصبحت في الأيادي ظاهرة، والألسنة ما زالت رطبة بذكر الله، وفي ظل هذه الرياحين الجميلة، تصبح مهمة تربية الأطفال في رمضان عظيمة، فهناك معانٍ خفية لشهر رمضان غير المعاني الظاهرة، فهناك من الآباء من يحرص على أن يصوم ابنه شهر رمضان، وأن يذهب معه إلى المساجد، ومع كل هذا توجد مشكاة عظيمة، تسمى الأخلاق.
إن للأخلاق دور هام في حياة المسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) [رواه أبو داود، (4684)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، (2110)]، فقد ربط الحبيب إيمان المؤمن, بحسن الخلق، أي من لم يتخلق بالأخلاق الحسنة، يصبح إيمانه ناقصًا، فالأخلاق ميزان للإيمان، كلما استكمل العبد فضائلها كلما اكتمل إيمانه.
إن صاحب الخلق الحسن، في أعلى المراتب, وأعظمها على الإطلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أفاض البيان في حسن الخلق وفضائله، وكأنه النهر ينساب ماؤه حاملًا على صفحته تلك اللآلئ النبوية:
(إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم) [رواه أبو داود، (4800)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (4798)].
(ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق) [رواه أبو داود، (4801)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (4799)].
(ألا أخبركم بخياركم؟)، قالوا : بلى، قال : (أحسنكم أخلاقًا) [رواه أحمد في مسنده، (9473)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2651)].
(إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني في الآخرة، مساويكم أخلاقًا، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون) [رواه أحمد في مسنده، (18204)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2662)].
(وإن أحسن الناس إسلامًا أحسنهم خلقًا) [رواه أحمد في مسنده، (21398)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2653)].
(اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) [رواه الترمذي، (2115)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1987)].
الأخلاق في حياة البشر:
(إن أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين سعداء، ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة.
ولو فرضنا وجود مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط، من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى، فإنه لابد لسلامة هذا المجتمع من خلقي الثقة والأمانة على أقل التقدير.
فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان، تفكك أفراد المجتمع، وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم الدمار.
فإذا كانت الأخلاق ضرورة في نظر المذاهب والفلسفات الأخرى فهي في نظر الإسلام أكثر ضرورة وأهمية، ولهذا فقد جعلها مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، فهو يعاقب الناس بالهلاك في الدنيا لفساد أخلاقهم، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾ [يونس: 13] ، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117] ، بل إن الإسلام يخضع الأعمال العلمية للمبادئ الأخلاقية، سواء كان ذلك في مجال البحث أو في مجال النشر لتوصيله للناس.
ولقد اهتم الإسلام بالأخلاق لأنها أمر لابد منه لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحيتين المادية والمعنوية، فالإنسان - دائمًا - بحاجة ماسة إلى نظام خلقي يحقق حاجته الاجتماعية، ويحول دون ميوله ونزعاته الشريرة، ويوجهه إلى استخدام قواه في مجالات يعود نفعها عليه وعلى غيره.
إن الإسلام يدرك تمام الإدراك ماذا يحدث لو أهملت المبادئ الأخلاقية في المجتمع، وساد فيه الخيانة والغش، والكذب والسرقة، وسفك الدماء، والتعدي على الحرمات والحقوق بكل أنواعها، وتلاشت المعاني الإنسانية في علاقات الناس، فلا محبة ولا مودة، ولا نزاهة ولا تعاون، ولا تراحم ولا إخلاص، إنه بلا شك سيكون المجتمع جحيمًا لا يطاق، ولا يمكن للحياة أن تدوم فيه) [الأخلاق في الإسلام، محمد عبد القادر حاتم، ص(12-13)].
عظماء من جامعة الأخلاق المحمدية:
(ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائحة) [رواه مسلم، (6362)]، هكذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه، بأنه رجل تستحي منه الملائكة، هذا الخليفة الراشد تخلق بخلق فاضل، ألا وهو خلق الحياء، فاستحق حقًا أن تستحي منه الملائكة؛ لأنه فقط كان على خلق، قد استقى خلقه القويم من إمامه ومعلمه وقدوته إمام الأخلاق، محمد صلى الله عليه وسلم، الذي علَّم البشرية كيف تكون الأخلاق، وقدم لها نماذج فريدة، أذهلت أخلاقياتها العالم بأسره، فكان منهم ذلك الخلوق الحيي عثمان الشهيد.
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (ما بلغني عن أخ مكروه قط إلا أنزلته إحدى ثلاث منازل: إن كان فوقي عرفت له قدره، وإن كان نظيري تفضلت عليه، وإن كان دوني لم أحفل به، هذه سيرتي في نفسي، فمن رغب عنها فأرض الله واسعة) [صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/167)].
(ودخل عيينة بن حصن على عمر بن الخطاب، قال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله) [رواه البخاري، (4276)].
فما أعظمها وأروعها من أخلاق، قد خرجت من مشكاة واحدة، وعلمت البشرية كيف تكون أخلاق الإنسان عندما يعيش في كنف عبودية الله لا يحيد عنها.
ابنك بأخلاقه في أعالي الجنان:
إن الأخلاق التي تغرسها في ابنك من خلال رمضان، تبلغ بإذن ربه أعالي المراتب والفضائل (فصاحب الخلق الحسن لا يليق لفضيلته تلك إلا مكان مخصوص في جنان النعيم، لعِظم مقامه، وعلو كعبه في الخير، والضامن لذلك هو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى فيقول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه) [صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (4800)].
من المعاني الخفية:
الصبر الجميل:
إن رمضان خير غارس لخلق الصبر في أطفالنا، فالإنسان يجاهد نفسه ويتحمل التعب أثناء الصيام، بالإضافة إلى صوم اللسان عن الكلام البذيء والشتائم والسباب، فالصبر سيد الأخلاق، وبه ترتبط مقامات الدين، فما من خلق فاضل إلا يمر بقنطرة من الصبر، وإن تحول إلى اسم آخر (فإن كان الصبر عن شهوة فرج محرمة سمي عفة، وإن كان عن فضول عشق سمي زهدًا، وإن كان عن دواعي غضب سمي حلمًا، وإن كان صبرًا عن دواعي الفرار والهرب سمي شجاعة، وإن كان عن دواعي الانتقام سمي عفوًا، وإن كان عن إجابة الإمساك والبخل سمي جودًا ... وهكذا بقية الأخلاق، فله عن كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله الصبر، فأكرِم به من خُلُق، وما أوسع معناه، وأعظم حقيقته) [عدة الصابرين، ابن القيم، ص(11)].
وربط الطفل بالقصة في رمضان من الأمور الهامة جدًا، فعندما نحث الطفل على معاني خلق الصبر ثم ندعم ذلك بمثال حي من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، يكون ذلك أبلغ (فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتأملت سيرته مع قومه، وصبره في الله، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله، وتلون الأحوال عليه من سلم وخوف، وغنى وفقر, وأمن, وإقامة في وطنه، وظعن عنه، وتركه لله، وقتل أحبابه وأوليائه بين يده، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول، والفعل، والسحر، والكذب، والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك صابر على أمر الله، يدعو إلى الله.
فلم يؤذ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يُعط نبي ما أعطيه، فرفع الله له ذكره، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة, وأعظمهم عنده جاهًا، وأسمعهم عنده شفاعة، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله شرفًا وفضلًا, وساقه بها إلى أعلى المقامات) [مفتاح دار السعادة، ابن القيم، ص(1/301)].
ماذا بعد الكلام؟
♦ درَّب ابنك على التخلق بالأخلاق في رمضان.
♦ كافئ ابنك إذا أظهر سلوكًا حسنًا في تعاملاته.
المصادر:
♦ مفتاح دار السعادة، ابن القيم.
♦ عدة الصابرين، ابن القيم.
♦ صفة الصفوة، ابن الجوزي.
♦ الأخلاق في الإسلام، محمد عبد القادر حاتم.