رمضان جمعنا.. رمضان أمتعنا.. رمضان أسعدنا.. رمضان فرحنا!
فرحنا بقرآنه؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
أفراح رمضان:
فرحنا بصيامه؛ ((للصائم فرحتان: فرحة عند فِطْره، وفرحة عند لقاء ربِّه))؛ سُنن ابن ماجه.
فرحنا بقيامه؛ عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغِّب في قيام رمضان من غير أنْ يأمرَهم بعزيمة، ثم يقول: ((مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه))؛ سُنن أبي داود.
فرحنا بشفاعته؛ عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: أي ربِّ: إني منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار، فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ في الليل فشفِّعني فيه، فيشفعان))؛ صحيح، رواه البيهقي في شُعب الإيمان.
الفرحة الزائفة!
هل للذين جاءَهم رمضان فوجدَهم يسرقون وينهبون؟! أو يَغشون ويستغلون؟! هل الذين ينافقون ويكذبون؟! أو يغشون ويداهنون؟! هل الذين يظلمون ويستبدون؟! أو يأكلون أموالَ اليتامى ظُلمًا؟! أو يتعدون حدودَ الله بغْيًا؟! أو يرفضون قوانين السماء عنادًا وكُفرًا؟! هل الذين يقضون ليلَهم في مشاهدة المسلسلات الهابطة، والأفلام الخليعة؟! هل الذين يقطعون نهارَهم في غفلة ساهون، وفي غيِّهم سادرون ثم لا يتوبون؟! كلاَّ! إلاَّ مَن رَحمِ ربِّي!
فليفرحْ هؤلاء فرحًا زائلاً، فرحًا زائفًا، فرحًا غيرَ مشروع؛ لأنه فرحٌ بغير الحقِّ؛ ﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾ [غافر: 75].
فرحُهم زائفٌ كفرح قارون الملعون؛ ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76].
فرحُهم زائلٌ كفرح المخلَّفين؛ ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].
فرحُهم مغشوش كفرح هؤلاء؛ ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188].
فرحُهم مؤقَّت كفرح هؤلاء؛ ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].
فرحُهم مكذوب غير صحيح، ومنقوص غير كامل؛ لأنه فقط مرتبطٌ بالدنيا وشهواتها ونَزَواتها ومتاعها؛ ﴿ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد: 26].
أما لو تابوا وأقلعوا وندموا، ولم يصرُّوا على العودة إلى المعاصي، وحقَّقوا شروط التوبة، فإنَّ الله يقبلُهم ويسامحهم ويعفو عنهم، مَهْمَا كانت ذنوبُهم عظيمة فالله أعظم، ومَهْما كانت سيِّئاتهم كبيرة فالله أكبر، ومَهْمَا كانت آثامُهم كثيرة فعفو الله أكثر؛ ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
الفرحة الحقيقية:
الذي جاءَه رمضان فوجدَه قد أكرم ضيافته، وأحسن وفادته، فراح يقدِّر منزلته، ويستشعر مكانته، ويحصِّل أجرَه.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه قد جعلَ يديه ممرًّا لعطاء الله، راحَ ينفق بالليل والنهار، سرًّا وعلانية، بكرة وعشيَّة.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه قد صام إيمانًا واحتسابًا، وقام إيمانًا واحتسابًا، وتحرَّى ليلة القدْر فقامَها أيضًا إيمانًا واحتسابًا؛ هذا ليس حديثًا في صحيح ابن خزيمة، ولكنَّه بابٌ من أبواب الكتاب، اسمه: "باب فرح الصائم يوم القيامة بإعطاء الربِّ إيَّاه ثوابَ صومه بلا حساب".
الذي جاءَه رمضان فوجدَه جَوَادًا كريمًا أطعمَ أفواهًا، وكسا أجسادًا، ورحم أيتامًا، ووصَلَ أرحامًا.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه يهتمُّ بأمرِ المسلمين، يصلح بين المتخاصمين، ويضعُ عن كاهل المستضعفين، ويدعو للمحاصَرين.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه وقَّافًا عند حدود الله، لا يتعدَّاها ولا ينساها، إنما يحفظُها ويرعاها.
الذي جاءَه رمضان فوجده ليِّنًا في طاعة الله، مِطواعًا لأمر الله، مُحبًّا لرسول الله، عاملاً بمنهج الله، إذا قُرِئ عليه القرآنَ سَمِعَ وأنصتَ، وإذا نُودي بالإيمان آمَنَ ولبَّى؛ ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193].
الذي جاءَه رمضان فوجدَه قد أحسَنَ إلى والديه، طائعًا لهما في غير معصية، بارًّا ورحيمًا بهما.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه يعلم ما عليه مِن واجبات، فلم يقصِّرْ فيها، وما له من حقوق، فلم يأخذْ أكثرَ منها.
الذي جاءَه رمضان فوجده يقرأ القرآن بتدبُّرٍ وتفكُّرٍ، ويصلي بخشوع وخضوع، ويعمل لدينه بقصْد حسَنٍ وفَهْم صحيح.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه يحافظ على صلاة الجماعة، وخاصَّة صلاة الفجر التي تشهدُها الملائكة، وتصغرُها الدنيا وما فيها؛ ((ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها))؛ صحَّحه الألباني.
هذا ليس حديثًا، ولكنه باب في صحيح ابن خزيمة، واسمه: باب ذِكر فرح الربِّ - تعالى - بمشي عبده إلى المسجد متوضِّيًا.
الذي جاءَه رمضان فوجدَه يفهم أنَّه لا قيمة إلاَّ بالإيمان، ولا نجاة إلا بالتقوى، ولا فوزَ إلا بالطاعة، ولا يَنال الدرجات العُلا إلا رجلٌ مجاهد ينصر العقيدة، ويجابه الباطلَ، ويحمي الحقَّ.
الذي جاءَه رمضان فوجده يفتتح يومَه: (أصبحنا على فِطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى مِلَّة أبينا إبراهيم وما كان من المشركين)؛ صحيح، ثم يستظلُّ بنور الحقِّ فلا يسمع إلاَّ نداه، ولا يصحب إلاَّ أهله، ولا يمضي إلاَّ في طريقه، ولا يعمل إلاَّ له، ويظلُّ كذلك حتى يأتيه اليقينُ، فيستمع يوم الدين بشرى ربِّ العالمين؛ ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119].
أصحاب الفرح:
هؤلاء فرحوا بقدوم رمضان، فاستقبلوه وهم يؤدُّون هذه الأعمال لا يملون ولا يكلُّون، ويتركهم رمضان وهم على عهْدهم ووعدهم وأعمالهم، لا ينقطعون ولا يفرِّطون، وإنَّما على أعمالهم يستقيمون، لا يعبدون رمضان، وإنَّما يعبدون ربَّ رمضان؛ لذلك هم أصحاب الفرح وملوكه، يفرحون فرحًا محمودًا، يفرحون فرحًا مشروعًا، يفرحون بطاعة الله، يفرحون بفضل الله، ويفرحون برحمة الله؛ ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].
ويفرحون ببذلهم أرواحَهم في سبيل الله؛﴿ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: 170].
يقول عمير بن الحُمام الأنصاري وقد أخرج تمراتٍ من قرنه، شرع يأكلها، ثم طوَّح بها، يقول: لإنْ أنا حَييتُ حتى آكلَ تمراتي هذه، إنها حياة طويلة، وأنشد:
رَكْضًا إِلَى اللهِ بِغَيْرِ زَادِ
إِلاَّ التُّقَى وَعَمَلَ الْمَعَادِ
وَالصَّبْرَ فِي اللهِ عَلَى الْجِهَادِ
وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ
غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ
ويفرحون بحبِّهم لله ولرسول الله؛ عن أنس أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله، متى قيام الساعة؟ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، فلمَّا قَضَى صلاته، قال: ((أين السائل عن قيام الساعة؟ فقال الرجل: أنا يا رسولَ الله، قال: ما أعددتُ لها؟ قال: يا رسول الله، ما أعددتُ لها كبيرَ صلاة ولا صوم، إلا أني أحبُّ الله ورسولَه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرءُ مع مَن أحبَّ، وأنت مع مَن أحببتَ))، فما رأيتُ فَرِحَ المسلمون بعد الإسلام فرحَهم بهذا، قال أبو عيسى: "هذا حديث صحيح"، قال الشيخ الألباني: صحيح.
فرحهم بلقاء الأحبَّة؛ بلال بن رياح - رضي الله عنه - كان يعالج سكرات الموت، فسمع مَن تقول: وا حسرتاه! فقال لها: لا تقولي: وا حسرتاه! ولكن قولي: وا فرحتاه، فغدًا ألْقى الأحبَّة؛ محمدًا وصحْبَه.
بل إنَّ الله ليفرح بعبده المؤمن العامل لدينه، المخلص لربِّه؛ عاش سعد بن معاذ سنوات قليلة في الإسلام لا تتعدَّي سبع سنوات، أسلم وهو في الثلاثين على يد مصعب بن عمير، وقضى شهيدًا بجُرْحه الذي انفجر تلبية لدعوته، وهو في السابعة والثلاثين، لكنَّه عندما مات شيَّعه سبعون ألف مَلك، واهتزَّ لموته عرشُ الرحمن؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اهتزَّ العرشُ لموت سعد بن معاذ من فَرح الربِّ - عز وجل))؛ السلسلة الصحيحة.
وجاء عند النسائي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عدد الملائكة الذين شاركوا في تشييع جنازة سعد، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا العبد الصالح الذي تحرَّك له العرشُ، وفُتحت أبوابُ السماء، وشَهِدَه سبعون ألفًا من الملائكة، لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضُمَّ ضمَّة ثم أُفْرِج عنه))، قال الذهبي - رحمه الله -: "والعرشُ خَلْقُ الله مسخَّر، إذا شاء أن يهتزَّ اهتزَّ بمشيئة الله، وجَعَلَ فيه شعورًا لحبِّ سعد، كما جَعل - تعالى - شعورًا في جبل أُحد بحبِّه النبيَ - صلى الله عليه وسلم".
وفي حديث البراء - رضي الله عنه - قال: أُهديتْ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّة حرير، فجَعَل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لِينها، فقال: ((أتعجبون مِن لين هذه؟ لمناديلُ سعد بن معاذ في الجنَّة خيرٌ منها وألْيَنُ))؛ رواه مسلم.
أي إن الناس لا تُوزن عند الله بألوانهم ولا بأشكالهم ولا بأعمارهم، وإنَّما بمناقبهم وأعمالهم، فأين العاملون لدينهم؟! أين المخلصون لربِّهم؟! أين الباذلون جُهدَهم؟! أين الفرحون بفِطْرهم في الدنيا، المنتظرون للفرحة الكبرى بلقاء ربِّهم في الآخرة؟! عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أحبَّ لقاءَ الله، أحبَّ الله لقاءَه، ومَن كَرِه لقاءَ الله، كَرِه الله لقاءَه، فقيل له: يا رسول الله، كراهية لقاء الله في كراهية لقاء الموت؛ فكُلُّنا يكره الموت، قال: لا إنَّما ذاك عند موته، إذا بُشِّر برحمة الله ومغفرته أحبَّ لقاءَ الله، فأحبَّ الله لقاءَه، وإذا بُشِّر بعذاب الله، كَرِه لقاءَ الله، فَكَرِه الله لقاءَه))؛ قال الشيخ الألباني: صحيح.
اللهم فرِّحْنا بالإسلام، وفرِّحْنا برمضان، وفرِّحْنا في رمضان، وشفِّعْ فينا الصيام والقرآن، واجعلْنا من المخلصين لك، العاملين لدينك، الفرحين بلقائك، التوَّاقين للقاء حبيبك وصفيِّك في الجنة، اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ هَمِّنا ولا مَبْلغ عِلْمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله ربِّ العالمين.