ها هو رمضان معنا وبيننا من جديد بَعد سنَة كاملة من الغياب، فماذا فعَلْنا من أجْله ولأجْله؟ هل اسْتقبلناه بما يَليق من الحفاوة والتكريم؟ هل صامَتْ أسلحتُنا عن الولوغ في الدَّمِ الحرام، فلَم نجدِّد حكاية قابيل وهابيل كلَّ يوم؟ هل صامَتْ ألسنتنا عن الفحش والكذب وقول الزُّور؟ هل صامت أعيننا وأيدينا وأرجلُنا عن اقتراف المحرَّمات والنظر إليها والسعْي وراءها؟
هل صامت نيَّاتنا عن التفكير في الإساءة إلى الآخرين؟ وهل عطف كبيرُنا على صغيرنا؟ واحترَم صغيرُنا كبيرَنا كما يريد ربُّنا تعالى؟
هل فكَّ أغنياؤنا رِبَاط القسوة عن قلوبِهم، فخَفقَت لشهر واحد بالرَّحْمة والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين؟
هل شعر تُجَّارنا بالغلاء الذي يَكوي القلوب ويشقُّ الجيوب، فلا يستقِرُّ فيها ريال؟ هل شعروا بأنَّ الأسعار التي يرفعونها والأرباح التي يأْمُلون تحقيقها في رمضان فيها مشقَّة على إخوانهم المسلمين؟!
إنَّ محطَّة الصيام التي نَمْكث فيها شهرًا كاملاً نقْهر نفوسنا بالجوع والعطش؛ كيْ نقودها وتقودنا، وننتصر عليها ولا تنتصر علينا في معركة الجهاد الأكبر الذي أشَار إليه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه المحطَّة ينبغي أن نَعرف بماذا نتزَوَّد منها؟ وماذا نترك؟
نتزوَّد في هذه المحطة بِشُحْنة رُوحية من موائدها الغنيَّة، فنتدارس القرآن والأحاديث، ونتقرَّب إلى الله - عزَّ وجلَّ - بالطاعات التي تشحن نفوسنا بقوة الإيمان، والقدرة على اجتياز مرحلَةِ ما بَعد المحطة، ونترك فيها الطَّعام والشراب، ونترك الغِيبَة والنَّميمة، والكذب والغشَّ وأذى الناس، فتصوم ألسنتنا عن السِّبَاب، وجوارحُنا عن الأذى، وتصوم أعيننا عن النَّظَر إلى المحرَّمات، وأيدينا عن فعل المنكرات، وأرجلُنا عن السعي إلى المحظورات.
ومتى فعلنا ذلك أدركنا أننا صائمون حقًّا، وأننا معْنِيُّون بقول رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه))؛ رواه البخاري ومسلم.
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَامُمٌ
وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فَحَظِّي إِذًا مِنْ صَوْمِيَ الْجُوعُ وَالظَّمَا
وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي صُمْتُ يَوْمًا فَمَا صُمْتُ
وللأسف، فإننا نُشاهِد في أيامنا هذه ما وصَل إليه الناس مِن فَهْم لرمضان وممارسةٍ للصيام، فهم يتَبارَوْن في صُنْع الأطباق المتنوِّعة، ولا يكتفون بطعام واحد، بل يضَعون على موائد الإفطار كلَّ ما اشْتهتْه نفوسهم أثناء النهار، فإذا دوَّى مدْفع الإفطار انطلقوا على سجيَّتهم يَملؤون بطونهم من كل نوع حتَّى التُّخمة.
وجهلوا أنَّ رمضان مصنع للرِّجال وليس مطبخًا للطعام، فلو تجوَّل الإنسان في الأسواق عشيَّةَ الإفطار لرَأَى العجب العُجَاب مِن تَهافُتِ الناس القادرين على شراء اللُّحوم والخضار والحلويات والمآكل المتنوِّعة، حتى ترتفع الأسعار تبَعًا لزيادة الطلب، وتُفقَد أحيانًا هذه المواد الغذائية من الأسواق، ويتعذَّر بالتالي على الفقراء شراءُ ما يَحتاجون منها بريالات محدودة.
يقول القاضي محمد سويد في كتابه الرائع "من رياض الإسلام": "إنَّ هناك ناحيةً نفسيَّة مهمَّة، هدَفَ إليها الإسلام بإنشاء هذه المحطَّة الكُبْرَى الرَّمضانية، ألاَ وهي ربْطُ المسلم بالله بحيث يشعر أنَّ هذه الفريضة سِرٌّ بينه وبين الله، لا ثالث بينهما".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلَّم - قال: قال الله - تعالى -: ((كلُّ عمَلِ ابن آدم له، إلاَّ الصوم؛ فإنَّه لي، وأنا أجزي به))؛ رواه البخاري ومسلم.
ولمَّا كانت دعوة الصائم الممْتَثِل لأوامر الله، المُجْتَنِب لنواهيه - مستجابةً في رمضان، فإنَّ ما ينبغي أنْ يفعله المسلم الصائم هو أن يتوجَّه إلى الله بخشوع لقضاء حوائجه ورغائبه.
فمِن المستحَبِّ الدعاء عند رؤية هلال رمضان؛ فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إذا رأى الهلالَ قال: ((اللهمَّ أهِلَّه علينا باليُمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيقِ لِمَا تحبُّ وترضى، ربِّي وربُّك الله)).
ومن المستحبِّ أنْ يَدعو الصائم عند الإفطار، فيقول: "اللهم إنِّي لك صمْتُ، وبك آمنتُ، وعلى رِزْقك أفطرت، ذهب الظَّمَأ، وابتَلَّت العروق، وثَبتَ الأجْرُ إن شاء الله".
ويستحبُّ للصائم أن يتوجَّه إلى الله بالدعاء في ليالي رمضان، حيث تُفَتَّح أبواب السماء، ويَستجيب الله - عزَّ وجلَّ - الدعاء.
ختامًا أقول:
إنَّ أعظم هدية حَمَلها إلينا رمضان، بل حَملها إلى البشرية جَمْعاء هي القرآن الكريم، الذي أنزلَه الله - تعالى - في هذا الشهر المبارَك على محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].
كما أنَّ هديَّة رمضان الثانية هي ليلة القدْر، وهي ليلة نزول القرآن الكريم على محمَّد - عليه الصلاة والسلام - وكيف لا تكون هديةً عظيمة وفيها انطلقَتْ أنوار العلم والمعرفة، ماحيةً ظلمات الجهل والجاهلية؟!
وبعد:
فلو أسْهَم كلٌّ منا بإحياءِ رمضان في نفْسه، لعَمَّ الرخاء ومات الشَّقاء وذهب البلاء، وكنَّا بنعمة الله إخوانًا.