إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه في كل عام ينزل بساحة المسلمين ضيف كريم هو شهر رمضان المعظم الذي فيه تغفر السيئات، وتقال العثرات، وتقبل الطاعات، وتزاد الحسنات، وتفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ويقال لباغي الخير أقبل ولباغي الشر أقصر.
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بليٍّ قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا. فكأن أحدهما أشد اجتهادا من الآخر. فغزا المجتهد منهما فاستشهد. ثم مكث الآخر بعده سنة. ثم توفي. قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما. فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما. ثم خرج فأذن للذي استشهد. ثم رجع إلي فقال ارجع. فإنك لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس. فعجبوا لذلك. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثوه الحديث: فقال (من أي ذلك تعجبون؟) فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادا. ثم استشهد. ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس قد مكث هذا بعده سنة؟) قالوا: بلى، قال: (وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟) قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض))[1].
بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف أنت ومن في الناس ينساه
في كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه
في موسم الطهر في رمضان تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه
من كل ذي خشية لله ذي ولع في الخير تعرفه دومًا بسيماه
قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا والاستباق هنا المحمود عقباه
صاموه قاموه إيمانًا ومحتسبا أحيوه طوعًا وما في الخير إكراه
فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب أواه
وكلهم بات بالقرآن مندمجًا كأنه الدم يسرى في خلاياه
فمن رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فهو الملوم.
وفي كل ما خلقه الله عز وجل أو شرعه حكمة بالغة علمها من علم وجهلها من جهل، وللصيام الذي شرعه الله عز وجل وفرضه على عباده حكم عظيمة ومزايا متعددة وخصائص متنوعة وفضائل جليلة وأسرار جمة.
ومن ذلك ما ذكره الحق تبارك وتعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 183-185].
ففي هذه الآيات الكريمات يبين الله تعالى أنه قد أعظم المنة على عباده بما فرضه عليهم من شريعة الصوم، التي عمت كل الأمم السابقة، وصارت عونًا للمؤمنين على سلوك طريق المتقين، فإن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم وإحسانًا إليهم، وحمية لهم وجنة.
يقول القفال رحمه الله:
انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة، والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت. ثم ثانيًا: بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب لحصول التقوى، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف. ثم ثالثًا: بين أنه مختص بأيام معدودة، فإنه لو جعله أبدًا أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة. ثم بين رابعًا: أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن؛ لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة. ثم بين خامسًا: إزالة المشقة في إلزامه، فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون. فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيرًا.
وجميل ما قاله الإمام القفال، فقد فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس، وهو أقوى العبادات في كبح جماح الشهوات، ومن ثم كان مشروعًا في جميع الملل حتى الوثنية، فهو معروف لدى قدماء المصريين، ومنهم انتقل إلى اليونان والرومان، ولا يزال الهنود الوثنيون يصومون إلى الآن، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين، وليس فيها ما يدل على أنه فرض، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يومًا، كما أنه ليس في الإنجيل نص على الفرضية، بل فيها مدحه وعده عبادة، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح وهو الذي صامه موسى عليه السلام وكان يصومه عيسى والحواريون، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبًا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف[2].
فالله تعالى فرض علينا الصيام كما فرضه على الأمم السابقة من لدن آدم عليه السلام، وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين، فإنه عبادة شاقة، والأمور الشاقة إذا عمت كثيرًا من الناس تحملها ورغب كل أحد في عملها[3].
يقول الطاهر ابن عاشور: وفي التشبيه أغراض ثلاثة:
أحدها: الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل الإسلام، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها، ووفرة ثوابها، وإنهاض هم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات، ويحبون التفضيل على أهل الكتاب، وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة، فلا شك أنهم يغبطون أمر الصوم، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنُف، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهم من المسلمين، إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة.
والغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينًا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين، فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام.
والغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة[4].
وقد بين تعالى حكمة شرعيته الأزلية الباقية بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين التي هي فوق الطاعة؛ لأنها ثمرة العبادة الخالصة والطاعة الراضية، فهي غاية كل عبادة وغرض كل طاعة، وفلسفة كل أمر ونهي، فتتقوا المعاصي، وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم؛ وذلك لأن الصوم يربي النفس على الضبط، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها، وحيث قويت الإرادة قوي سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات؛ ولذلك كان من آدابه المكملة له أن يمتنع عن المحظورات كلها فلا يسب ولا يقول الزور، ولا يعمل به، ولا يجترح المنهيات بلسانه.
والتعبير بـ"لعل" فيه معنى الإعداد والتهيئة، فالصيام يعد النفوس لتقوى الله وطاعته، لأن الامتناع عن أهم رغبات الجسد وحاجاته الضرورية من طعام وشراب، وما إليهما مما يفسد الصيام امتثالا لأمر الله تعالى، يحمل على التقوى، ويحض على الإخلاص لله تعالى في السر والعلن، ومراعاة حدوده في كل وقت، كما أن هذا الامتناع من ناحية أخرى يضعف تحكم القوى الشهوانية في الإنسان فلا تستبد به أو تسيطر عليه، وفي هذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (والصيام جنة)[5] أي: وقاية من كل شر ومن كل فساد.
ويزيد الحق سبحانه وتعالى في رحمته وشفقته بعباده في جانب التكليف بالصوم، فيقول تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أي: موقتات ومقدرات بعدد معلوم أو أيام قلائل، فالله تعالى لم يفرض علينا صيام الدهر ولا صيام أكثره تخفيفًا ورحمةً وتسهيلا لأمرِ التكليف على جميع الأمم[6].
ولما خص الله شهر رمضان بهذه العبادة العظيمة بين سبب تخصيصه بإنزال أعظم كتبه فيه، فذكر هذه الجملة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} كتقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته، والتنبيه على أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه. أي: الصوم المفروض عليكم، هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيق بشهر هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسمًا للعباد مفروضا فيه الصيام[7].
وبالجملة فالمعنى المقصود في الآيات الكريمة: لقد فرضنا عليكم الصوم أيها المؤمنون، وجعلناه -كما هو الشأن من كل ما شرعناه- متسمًا باليسر لا بالعسر، ومن مظاهر ذلك أننا فرضنا عليكم صوم أيام معدودات، وهي أيام شهر رمضان، ولم نفرض عليكم صوم الدهر، وأننا شرعنا لمن كان مريضًا مرضًا يضره الصوم أو يعسر معه، أو كان على سفر يشق عليه معه الصوم، شرعنا له أن يفطر وأن يصوم بدل الأيام التي أفطرها أياما آخر مساوية لها في العدد.
وهناك من يرى أن من حكمة الصيام وأسراره أنه منهج صحي يشفي الجسم من بعض الأمراض، وأنه إلى هذا وسيلة لأن يحس الأغنياء قسوة الجوع فيعطفوا على الفقراء؛ ولكن هذا الرأي يخرج عبادة الصيام عن طبيعتها وينقص من قدسيتها وجلالها، ويهوي بها إلى مستوى العادات، ويجردها من أغراضها الروحية السامية.
فمع التسليم بأن الصيام -كما شرعه الله- يفيد الجسم صحيًا، فإن الصيام في جوهره تربية روحية سامية، وليس عادة صحية أو منهجا غذائيًا قد يفيد في بعض الأحيان دون البعض الآخر، والقول بأن الصيام قد فرض ليحس الأغنياء قسوة الجوع فيعطفوا على الفقراء، قول لا يخلو من شبهة تفسده، وإلا فلماذا لم يفرض على الأغنياء فقط دون الفقراء؟
وبعد:
فإن الصيام تدريب حقيقي للقوة في مجالاتها المختلفة، وتربية للنفوس والسمو بها إلى آفاق عليا من التطهر والصفاء، فلا تتحكم فيها نزغات الإثم ووساوس الشر وشهوات الجسد، وعلى الأمة أن تدرك مهمة الصيام الحقيقية في إعداد المسلمين للحياة العزيزة الكريمة التي خلقوا لها، وأمروا بالحفاظ عليها.
نسأل الله عز وجل أن يبلغنا آمالنا في رمضان، وأن يوفقنا فيه لمراضيه ويجنبنا مناهيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ
[1] سنن ابن ماجه 2 / 1293 وصححه الألباني.
[2] تفسير المراغي 2/68.
[3] تفسير المراغي 2/68، نظم الدرر للبقاعي 3/44، تفسير البيضاوي 1/461.
[4]التحرير والتنوير 2/156.
[5] صحيح مسلم 3/157.
[6] ينظر التحرير والتنوير 2/161، تفسير المراغي 2/71.
[7] تفسير البحر المحيط 2/45، نظم الدرر للبقاعي 3/56، تفسير السعدي 1/86.