إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهديه الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين.. الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه لهم من إنعامه وإكرامه.. وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. وأرسل إليهم رسله الكرام.. وأنزل عليهم أفضل وأكمل بيان.. وخاطبهم فيه بأرق خطاب وألطفه، وناداهم فيه بالاسم الذي به ينتسبون إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، ودلهم على ما فيه نجاتهم، وحذرهم مما فيه هلاكهم، وكتب عليهم ما فيه رفعتهم وعلوهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وجعله له وجزاؤه منه (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)[1] وخص أصحابه بمدخل يرضونه (بابا يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون)[2].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين.. وهدى به إلى أقوم الطرق وأبين السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وسدّ جميع الطرق إلى جنته إلا من طريقه، فشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره.. وقرن اسمه باسمه فلا يذكر إلا ويذكر معه كما في التشهد والتأذين، وجعله رحمة للعالمين بالمؤمنين رؤوف رحيم.. قال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة)[3] وقال: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[4].
وصم يومك الأدنى لعلك في غد تفوز بعيد الفطر والناس صومُ
أما بعد:
فهذه رسالة صغيرة مختصرة في شهر رمضان أقدمها لإخواني أرجو بها نفعهم وتذكيرهم.. وجعلتها وقفات وتأملات لتكون أسهل في التذكر وأيسر في الاستحضار.
وأخيرا فما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو نسيان فأنا له أهل والله ورسوله منه براء.
الوقفة الأولى
حقيقة الصوم
الصيام هو حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وثورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ويسكن كل عضو منها وكل قوي عن جماحه وتلجم بلجام المتقين ورياضة الصالحين المقربين، فهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده وإلهه، فهو يترك محبوبات النفس ولذائذها إيثارا لمحبه الله ومرضاته.. لذلك فهو سرّ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، فالعباد قد يطلعون على ترك المفطرات الظاهرة، أما كونه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل إلهه ومعبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم[5].. والصوم يحفظ على القلب والجوارح عافيتها ويعيد إليها ما استلبته منها مخالبُ الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
الوقفة الثانية
إن لله نفحات في أيام دهركم
إن الله –عز وجل- جعل الطاعات متعاقبة وجعل مواسمها يخلف بعضها بعضًا وذلك رحمة بابن آدم لما علم الله منه –سبحانه– ضعفه ونسيانه (ولذلك سمي إنسانا) {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].
جعل الله هذه الطاعات ومواسمها متعاقبة ومتلاحقة؛ لتقويه كلما ضعف وتذكره كلما نسي.. فالصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة.. ورمضان إلى رمضان، وما شرع الله هذه العبادات وفرض على العبد هذه القربات إلا لسعادته ونعيمه وفوزه وربحه على الله أعظم الربح وأكرمه –إلا وهو رضوان الله ورحمته- فمن فاته هذا الربح وهو موفور.. ومن فاته هذا العطاء وهو مبذول.. فهو الخاسر الخسران المبين، ورغم أنفه مع المحرومين.. فقد دعا الأمين وأمّن على دعائه سيد المرسلين - على من دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له.. فيا له من محروم من حرم من عطاء الكريم؛ فإنه لم يتعرض له ولا لنفحاته، وفاته هذا الموسم العظيم وفاته ركب المقبولين والمغفور لهم والمتقين.. وها أنت قد أمهلك الله وأمد لك في عمرك حتى اقتربت من دخول سوق المؤمنين، وها هو قد حط رحاله شهرا كاملا.. فاغتنم الفرصة ولا يفوتنك من ذخائره شيء، وكن في أول الركب لعلك تكون أربح الرابحين
إذا رمضان أتى مقبلا فأقبل بالخير يستقبل
لعلك تخطئه قابلا وتأتي بعذر فلا يقبل
الوقفة الثالثة
عام جديد
عن أسامة بن زيد –رضي الله عنه– قال: "قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم في شعبان، قال: (ذاك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)"[6].
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي في قوله: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال.." قيل: ما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل؟ قلت: يحتمل أمران:
أحدهما: أن أعمال العباد تُعرض على الله تعالى كل يوم ثم تُعرض عليه أعمال الجمعة كل اثنين وخميس ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان فتعرض عرضا بعد عرض لكل عرض حكمه مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية.
ثانيهما: أن المراد أنها تُعرض في اليوم تفصيلا ثم الجمعة جملة أو بالعكس
ومما سبق يتبين أن شعبان هو ختام العام الذي ترفع فيه أعمال العبد في العام كله ثم يدخل رمضان ليبدأ العبد عاما جديدا وينادي المنادي: (يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر)[7] إنها دعوة لمن أراد ما عند الله من انشراح الصدر وحصول التقوى في الدنيا ولذة وسعادة أبدية في الآخرة.. دعوة لمن أراد الخير، والخير كلمة جامعة لما عند الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص: 60] فمن أراد ذلك فليقبل وليشمر عن ساعد الجد وليعزم على الخروج من رمضان فائزا رابحا متزودا لعامه كله بخير الزاد {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، فهنيئا لمن بدأ عامه بهذا الشهر صائما.. قائما.. قانتا متصدقا.. ذاكرا.. تاليا للآيات.. نائيا عن الشهوات.
الوقفة الرابعة
شهر القرآن
يقول الله –عز وجل- في كتابه العزيز: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] يقول ابن كثير في تفسيره: "يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء".
ويقول: "وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه؛ كما قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس".
ويقول: "وقوله: {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه {وبينات} أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال والرشد المخالف للغي ومفرقا بين الحق والباطل والحلال والحرام"[8].
فحقيق بهذا الشهر أن يسمى شهر القرآن، وحقيق بهذا الشهر أن يملأ ليله بالتلاوات ويشغل نهاره بالآيات، وحقيق بعبد أقبل على الله وعلى طاعته ورغب فما عند سيده ومولاه أن يلقي السمع وهو شهيد؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
لمن كان له قلب: أي قلب حي يعي ويعقل عن مولاه.. فارغ من المفسدات والشهوات قابل للذكر والآيات.
أو ألقى السمع: أي أصغى وانتبه لما يلقى على مسامعه.
وهو شهيد: أي حاضر القلب والفؤاد غير لاهٍ ولا ساهٍ.
فمن كان هذا حاله فلا بد عند سماع الذكر أن "يجد ملكًا له الملك كله وله الحمد كله أزِمَّة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومردّها إليه، مستويًا على سرير ملكه، لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته، عالمًا بما في نفس عبيده، مطلعًا على أسرارهم وعلانيتهم، منفردًا بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها و جليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه، وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه. فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين. ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم. والدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق، ونصيرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكًا عظيمًا رحيمًا جميلا، هذا شأنه، فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل من سواه، وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت، ولم تنتفع بحياتها"[9].
الله الله في القلب الحي النابض.. الله الله في إلقاء السمع والإصغاء والإنصات.. الله الله في القلب الحاضر الشاهد. اللهم ارزقنا ومنّ علينا بذلك.
الوقفة الخامسة
طوبى لمن قام
يقول الله – عز وجل –: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16]، ويقول أيضا: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] سئلت أمنا عائشة –رضي الله عنها–: كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان؟ فقالت: "ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة؛ يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا..."[10]. وعن أبي هريرة –رضي الله عنه– عن النبي –صلى الله عليه وسلم–: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)[11]، وأيضا عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم– قال: (أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة صلاة الليل)[12]، وعن جابر –رضي الله عنه– أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قال: (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة)[13].
أما جبريل الأمين –عليه السلام– فقد جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم– فقال: (يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه في استغنائه عن الناس)[14].
هذا في قيام سائر الليالي، أما ليالي رمضان فيقول عنها النبي –صلى الله عليه وسلم–: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[15].
"وقام النبي –صلى الله عليه وسلم– بأصحابه بعض ليالي رمضان، ثم ترك ذلك إشفاقا على الأمة من فرض القيام عليها فقال: (خشيت أن تفرض عليكم)، ولما أُمِنَ هذا الجانب بوفاة النبي –صلى الله عليه وسلم– وانقطاع الوحي، أمر عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– أبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمئين (المئين هي السور التي تحوي مائة آية أو نحوها) في الركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر"[16].
الوقفة السادسة
الريح المرسلة
كان النبي –صلى الله عليه وسلم– أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن.
إن القرآن يأخذ بالنفس من واقعها الأرضي ويرتفع بها عاليا في سماء اليقين ويعرج بها إلى مدارج المتقين، فعندما يستمع العبد إلى قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]، وإلى قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121] فيبادر العبد وينفق ما يستطيع وإن كان قليلا.. وإن كان غير ذي سعة فالله سبحانه يقبل من العبد أقل القليل، وفي الحديث (اتق النار ولو بشق تمرة)[17]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه –قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل)[18]، فيطمئن العبد لذلك ويثق فيما عند الله أكثر مما في يده، فقد روي عن أمنا عائشة –رضي الله عنها– أنهم ذبحوا شاة "فقال النبي –صلى الله عليه وسلم– (ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال: بقي كلها غير كتفها)[19].
كذلك "كان النبي -صلى الله عليه وسلم– أعظم الناس صدقة بما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله، وكان لا يسأله أحد شيئا عنده إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا، وكان عطاؤه عطاءَ من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير؛ يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه؛ تارة بطعامه وتارة بلباسه، وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته؛ فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعًا كما فعل ببعير جابر وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر"[20].
وقد جاء في الحديث (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)[21]. فها هي صنوف الصدقة فلا يفوتنك منها شيء.
الوقفة السابعة
لو أقسم على الله لأبره
يقول الله – عز وجل –: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ويقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: (الدعاء هو العبادة)[22] ويقول: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)[23] ويقول: (من لم يسأل الله يغضب عليه)[24] ويقول صلوات الله عليه وتسليماته: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله الملح، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)[25]، وهذا مأمور به في كل وقت وحين في رمضان وفي غير رمضان، ولكن يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم– (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)[26] فيا لها من منحة عظيمة ويا لها من عطية كريمة.. إن الله سبحانه وتعالى يدعوك لتدعوه وهو قريب سميع الدعاء يقبل دعاء المخلصين {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] ويبذل عطاءه للسائلين {وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] ويتفضل عليهم بالقبول وإقالة العثرات {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25].
فلا يبقى إلا أن ترفع يديك إليه سبحانه وتعالى في نهار رمضان ولياليه.. وفي صيامه وقيامه.. عند الفطر وفي أسحاره.. لعل الله أن يكتبنا من عتقائه في هذا الشهر الكريم.
الوقفة الثامنة
ليلة العمر
إن الله –عز وجل– تفضل على هذه الأمة، وخصها بكثير من الخصائص التي تفردت بها بين سائر الأمم، كأن جعل لها الأرض مسجدا وطهورا، وكأن قسّم لها في الفيء، وكأن ميزها بصلاة الجمعة والجماعة، وغيرها الكثير من هذه الخصائص والعطايا، ومنها -بل وأعظمها- ما اختص الله به هذه الأمة بليلة هي خير من ألف شهر (ليلة القدر) ليلة عظيمة الشأن جليلة القدر كثيرة البركة فهي ليلة مباركة كما قال سبحانه وتعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} وجعل الله –عز وجل– كل هذا الخير والبركة والعطاء الوفير لمن قام هذه الليلة إيمانا واحتسابا كما في الحديث عن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: (من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه)[27].
من يقم ليلة القدر: أي يحييها بالصلاة وغيرها من القربات.
إيمانا: أي تصديقا بأنها حق.
واحتسابا: يريد وجه الله تعالى لا رياء ولا سمعة ويحتسب الأجر عنده وحده ولا يرجو ثناء الناس.
وقد دل النبي –صلى الله عليه وسلم– أمته على أن يتحروها في الوتر من العشر الأخير.. الحديث، وفي رواية أخرى في السبع الأواخر من رمضان.. الحديث.
"وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة فيرى أنوارها أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهد ما يتبين به الأجر والله تعالى أعلم"[28]، وكما قال أبو الدرداء –رضي الله عنه– (من يتحر الخير يعطه)[29].
سألت أمنا عائشة –رضي الله عنها– النبي –صلى الله عليه وسلم- قالت: (يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)[30].. ما أعظمه من دعاء وما أجملها من صفة للرحمن "صفة العفو"؛ فعن أبي هريرة قال: قام فينا أبو بكر رحمة الله عليه فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم اليوم فقال: (إن الناس لم يعطوا شيئا أفضل من العفو والعافية فسلوهما الله)[31].
فيا أخي الحبيب: أسأل الله لي ولك العفو والعافية والمعافاة، وأسأله –سبحانه- أن يوفقني وإياك إلى قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا.. ولنعد العدة من الآن ونطيب نفوسنا ونزين قلوبنا لله لعله –سبحانه- أن يطلع عليها فيكتبنا في الفائزين {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}.
الوقفة التاسعة
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر
كلما مرّ علينا شهر رمضان نتذكر ما كان فيه من انتصارات للمسلمين وما فتح الله على هذه الأمة من فتوحات، ففيه غزوة بدر الكبرى أول غزوة في الإسلام وكانت معركة فاصلة غيرت مجرى التاريخ، وفيه فتحت مكة وفيه كان التحدي الكبير للروم في تبوك وفيه فتحت الأندلس وكانت معركة وادي برباط التي انتصر فيها المسلمون نصرا عزيزا وفي السنة التي تليها أيضا، وفيه كانت معركة الزلاقة في الأندلس المفقود التي انتصر فيها يوسف بن تاشفين نصرا لا مثيل له وكان جيش الكفار ثمانمائة ألف.. قيل لم ينج أحد وقيل عشرة أشخاص.. وفيه فتحت أنطاكية على يد الظاهر بيبرس، وفيه كانت عين جالوت وما أدراك ما عين جالوت.. المعركة التي أنهت أسطورة التتار وعادت للمسلمين هيبتهم، وفيه الكثير من الانتصارات والفتوحات والكرامات التي منّ الله بها على المسلمين.
وفي خضم هذه الذكريات وتداعي اللحظات يفجع المرء ويتحسر على واقع المسلمين اليوم من تكالب الأعداء من صليبيين ويهود ومشركين وروافض بل وملحدين.. ثم يرى النخر في عقيدة الأمة من المبتدعة والظالمين من الذين بدلوا الدين ونبذوا السنة ونصروا البدعة وصدوا عن سبيل الله.
يفجع المرء ويتحسر وينفطر القلب ويعتصر ألما لما يلاقيه إخواننا في الدين والعقيدة في كثير من البقاع على مختلف أعراقهم بعضهم يحاصر وبعضهم يضطهد ويضيق عليه والآخرون يذبحون كالأنعام وما لنا ولهم إلا الله فلنلجأ إليه ونسأله ونلح عليه بالدعاء.. اللهم إنا مغلوبون فانتصر.. اللهم إنا مغلوبون فانتصر.. فيا أخي الحبيب ليس أقل من الدعاء في ركوعك وسجودك، عند فطرك وسحورك في قيامك وتلاوتك أن ينصر الله هذه الأمة وأن يعز المسلمين بالإسلام والتوحيد والجهاد.
الوقفة العاشرة
قلوب وجلة
المؤمن دائما يشعر بالتقصير ويتهم نفسه بالتفريط في جنب الله مهما قدم من أعمال ومهما قام بالطاعات.. لا يوفي حق الله ولا يكافئ أقل نعمة من نعم الله عليه، هذه هي الحقيقة التي تعيها القلوب المؤمنة الوجلة والتي تقدر وتعظم حق الله عليها. عن جابر بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك راكع أو ملك ساجد فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئا)[32] وكذلك ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يُدخِل أحدا منكم عملُه الجنة، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ووضع يده على رأسه)[33].
عندما تعي القلوب المؤمنة هذه الحقيقة تصبح بين خوف ورجاء.. تطمئن إلى رحمة الله وعفوه وتخشى عقابه إذا هم عصوه وفرطوا في أمره.. وهكذا يكون المؤمن في وجل بعد رمضان وبعد كل طاعة يتقرب بها إلى الله -عز وجل-.. يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] قال الحسن: (يؤتون الإخلاص وهم يخافون ألا يقبل منهم)، وروى الترمذي (عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات)[34]، وقال الحسن: (لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفقَ منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها)[35] قال معلى بن الفضل: كانوا -أي سلفنا الكرام رضوان الله عليهم- يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم، وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا[36]. اللهم أمين.
والحمد لله رب العالمين.
[1] جزء من حديث.. أخرجه البخاري.
[2] أخرجه البخاري.
[3] جزء من حديث.. أخرجه البخاري.
[4] أخرجه البخاري.
[5] زاد المعاد.
[6] صحيح الترغيب والترهيب.
[7] جزء من حديث.. سنن الترمذي.
[8] تفسير ابن كثير.
[9] الفوائد لابن القيم.
[10] أخرجه البخاري.
[11] سنن أبي داود.
[12] شرح النووي
[13] صحيح مسلم.
[14] السلسلة الصحيحة (للألباني).
[15] صحيح البخاري.
[16] لطائف المعارف.
[17] الجامع الكبير للسيوطي.
[18] صحيح البخاري.
[19] السلسلة الصحيحة (للألباني).
[20] زاد المعاد لابن القيم.
[21] السلسلة الصحيحة (للألباني).
[22] السلسلة الصحيحة (للألباني).
[23] مسند الصحابة في الكتب التسعة.
[24] مسند الصحابة في الكتب التسعة.
[25] سنن الترمذي.
[26] مسند الصحابة في الكتب التسعة.
[27] صحيح البخاري.
[28] مجموع الفتاوى لابن تيمية.
[29] شعب الإيمان (للبيهقي).
[30] صحيح ابن ماجه.
[31] مسند البزار.
[32] المعجم الكبير.
[33] مسند الإمام أحمد.
[34] السلسلة الصحيحة (للألباني).
[35] حلية الأولياء.
[36] لطائف المعارف.