رمضانُ مدرسةٌ تربوية إيمانية فذة لتخريج الربانيين والربانيات، إذا صام المسلمون أيامه، وقاموا لياليَه، وتخلَّقوا بالأخلاق المناسبة له، وَفقًا للأحكام والضوابط الشرعية، بعيدًا عن الرتابة التي تُبلِّد الحسَّ، وتلغي المقاصدَ.
وما زال الشهر الفضيل في حاجة إلى اقترابٍ مقاصدي يوازي الطرحَ الشعائري القائم على تناول الجزئيات الفقهية والأخلاقية، ليخوض في آفاق الغايات الكبرى، ويبرز الأهداف التربوية للفرد والمجتمع والإنسانية كلها، ومعلوم أن الكتابات في المجال المقاصدي نادرة بالمقارنة بالأبحاث الفقهية المستفيضة، لا تتعدى بعض مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، والعز بن عبدالسلام، والشاطبي، وولي الله الدهلوي، والطاهر بن عاشور، وجماعة من أمثالهم من القدامى والمحدَثين؛ لذلك يبذل العلماء الراسخون في عصرنا جهودًا كبيرة لاستدراك النقص، ودراسة شرائع الإسلام وشعائره وأخلاقه - ومنها الصوم - ليس دراسة فقهية أو حديثية فحسب، وقد أشبعت بحثًا من هذه الناحية عبر القرون؛ وإنما دراسة علمية أصولية مقاصدية، في إطار البناء الديني المتكامل، الجامع بين الالتزام الفردي والمنظومة الاجتماعية، وصناعة الحياة في ضوء المرجعية الإسلامية.
وأتناول في هذا المقال المختصر أمثلةً من مسائلَ متعلقةٍ بالصيام، نعرفها ونمارسها، لكن من غير أن نُعنى بمقاصدها التربوية إلا قليلاً.
فتصفيد الشياطين في شهر رمضان - مثلاً - مسألة غيبية تثير الجدل، لكن يتعلم منها المسلمون أن رمضان فرصةٌ مواتية للدعوة، فينشطون في استمالة القلوب، وتفتيق الأذهان، وكسْب النفوس إلى صف الحق، بعد أن خفَّ ضغط الشياطين، وتوفرت الأجواء الإيمانية، وبعبارة أخرى يكون داعي الشر خلال هذا الشهر في حالة تراجع، مما يتيح لداعية الخير أن يكر ويهاجم، ويدمغ الباطل، ويرفع راية الهداية.
وأما تفطير الصائم الذي يترتب عليه أجرٌ كبير، فما ينبغي أن نَقْصره على مجرد الفعل الفردي الكمالي؛ بل يجب تناوله في إطار العمل التضامني الواعي، الذي يستهدف محاربةَ الفاقة، وإشاعةَ روح الأخوة، من خلال تقاسم الأعباء المعيشية، ولا يكون ذلك إلا بالتغلب على هوى النفس، والتحررِ من حظوظها، وفهمُ الحديث النبوي بمثل هذه الكيفية يحقِّق القيمةَ الأخلاقية، وفي الوقت نفسه يعطي صورةً من صور البديل الإسلامي في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وعندما تفقه هذا المعنى جماهيرُ الأمة المتعطشة لنيل الثواب، فإنها تكون أكثر بذلاً وعطاء، وينعكس ذلك إيجابيًّا على المجتمع، وينوع أساليب الدعوة، ويُبرِز للرأي العام وجهًا آخر من محاسن الإسلام، الكفيلة بأن تجعله يدخل القلوبَ بغير استئذان.
وإذا انتقلنا إلى مثال ثالث، نقف عند عبارة: "اللهم إني صائم"، التي لا تبرح في الغالب الميدان الفردي الجزئي الضيق؛ بل والشعاراتي أيضًا، برغم أنها تشكل ضمن النسق الإسلامي العام قاعدةً دينية، وكلية اجتماعية، ودافعًا دعويًّا تعصم المسلمين الواعين من الاستدراج على كل المستويات، بحيث يتربَّوْن ليس على رد الفعل السريع الأهوج، وإنما على رد الفعل المدروس الهادئ، ومعاني الحلم والمسامحة، والتحكم في العواطف مهما كانت الاستفزازات، فيُكتب لهم الفوزُ أخلاقيًّا ودعويًّا، وسياسيًّا وحضاريًّا.
أما صلاة التراويح، فهي لقاء سنوي حي مع دستور المسلم الأكبر ودليل حياته - القرآن الكريم - في رحلة تتجاوز عدد الركعات، لتكون تلقيًا مباشرًا غضًّا طريًّا لكلام الله - تعالى - وكأنه يتنزَّل للتوِّ على المؤمن، يخاطب قلبَه وعقلَه وحواسَّه، لتكتمل العبودية لله، ويتجدد الإيمان، فتدمع العين، ويقشعرُّ الجلد، ثم يطمئنُّ القلب لذِكر الله، وتنتشر بين المسلمين معاني الأخوة والمحبة والرحمة، فيزداد ارتباطهم بخالقهم وببعضهم.
هذه أربعة أمثلة من قيم رمضانية، كان يمكن تجسيدها في أبعادها المقاصدية؛ لمعالجة أدواء الأمة، وتكوين الفرد الفعال الصالح، وبناء المجتمع المنشود، غير أن الذهنية المتسمة بالشعائرية، والجزئية، والسلبية اكتفتْ بالنظر السطحي، وفوَّتتْ علينا قطفَ ثمارِ الصيام الطيبة، وعلى رأسها التقوى؛ كما ورد في آية الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقد كرَّس هذه الذهنيةَ الموروثة عن عصور الانحطاط كثيرٌ من الدروس المسجدية، والإذاعية، والتلفازية، ونحوها، التي لا تلتفت إلى رمضان إلا من خلال كلام متكرر، يحشد الفروع بدون رابط بينها، تضيع في خضمِّها المقاصدُ الشرعية، والأهدافُ التربويةت.
ولنا أن نقارن بين هذه الدروس- التي تبقى ضرورية من غير شك لتعليم الناس أمورَ دينهم - وتلك التي يلقيها علماء ودعاة أفذاذ يربطون الفروع بالأصول، والجزئيات بالمقاصد، فيثلجون الصدور، ويحببون الصيام - والإسلامَ كله - للعباد، باعتباره عبادة لله من جهة، ومدرسة تربوية سلوكية من جهة أخرى، وهذا هو التناول التربوي الواعي الذي ننشده لدفع الشبهات، وإلجام الشهوات، وإذا لم ندرك نحن ذلك، فقد أدركه المتحكمون في الإعلام والتوجيه التربوي والاجتماعي من العلمانيين، فعملوا على تقزيم الحصص الدينية في الإذاعة والتلفاز والمدرسة؛ ليفرغوا الصيام - والشعائر كلها - من الشحنة الإيمانية التي تغيِّر الإنسان وتدفعه نحو الأفضل.
إنها دعوة لفقه مقاصد الصيام وغيره من شعائر الإسلام؛ لإصلاح النفوس، وبناء المجتمع، واستلهام النبع القرآني أكثر ضمن عملية دعوية واعية، وهذا هو الرجوع إلى القرآن والسنة عينُه، وهو خطوة ضرورية لتكوين القاعدة الصلبة، وإيجاد الربانيين، واستئناف الحياة الإسلامية.