إذا عرفنا أن معنى "الصيام" في اللغة هو "مطلق الامتناع والإمساك"، سواء عن الطعام والشراب والجماع، أو العمل أو الكلام. اتضحت لنا أنواعُ الصيام وطبيعته، فالصيام عن الكلام عرف قبل الإسلام، كما في القرآن عن السيدة مريم فيما أمرت به: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].
واكتفت السيدة مريم "بالإشارة" في تفاهمها مع قومها، فليس من كلام يفيد في حالتها، وهي تحمل عيسى الذي ولدته دون أب، فكان كلامه في المهد إعلانًا ببراءتها من أي سوء ظنه بها قومها، فيقول الله في كتابه الحكيم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ...} [مريم: 27-30].
وكان صيام مريم على شريعتها التي كانت عليها هي وقومها قبل مبعث عيسى بالرسالة المسيحية، وذكرت بعضُ الروايات أن اليهود كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، وعن ابن إسحاق عن حارثه قال: "كنت عند عبد الله بن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف أن لا يكلم الناس اليوم.. فقال ابن مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإن تلك امرأة -يقصد السيدة مريم- علمت أن أحدًا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج ليكون عذرًا لها إذا سئلت"، كما ذكر أنه في عهد الرسول وكان يخطب الناس فرأى رجلا واقفًا في الشمس من دون المستمعين، ولما سأل عنه قيل: له هذا أبو إسرائيل نذر أن يصوم واقفًا في الشمس.
كما أن الصوم عن الكلام موجود بالمسيحية، قررته طائفة الكاثوليك، وجعلته فرضًا على رجال الدين في بعض الأحوال، ومستحبًّا لمن عداهم.
وكانت فرقة "الترابيست" من أشد فرق الكاثوليك التزامًا بهذا النوع من الصوم، حتى لقد فرضته على أتباعها مدى الحياة، فكانوا يعتزلون العالم في مهاجر يقيمون فيها صائمين صامتين عن الكلام حتى الموت، وكما يذكر د. عبد الله وافي في بحثه القيم عن الصيام بين الإسلام ومختلف الشرائع، فان هذه الفرقة نشأت حوالي القرن الثاني عشر وظلت قائمة حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
وقد عرف العرب في جاهليتهم هذا النوع من الصوم ومارسوه، وكان يطلق عليه عندهم اسم "الضَرْس" -بفتح الضاد وسكون الراء - ويعني في اللغة، صمت يوم إلى الليل، وقد ظلت بعض عشائر العرب محافِظة على هذا النوع من الصوم حتى بعد الإسلام.
ويروى أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة اسمها زينب، من "الحُمْس"، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة -أي حجت وهي صائمة عن الكلام ولم تنته بعد مدة صيامها- فقال لها أبو بكر: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت.
وقد حرم الرسول - صلَّى الله عليه وسَلَّم - صيام الصمت عن الكلام طول اليوم حتى الليل، فقاول: "لا صمات يوم إلى الليل".
وغير صيام الصمت، هناك نوع آخر من الصيام هو "الصيام عن العمل"، وهو إن وجد عند طوائف كالبرهمية والجينية والبوذية، فإنه أيضًا مقرر في الشريعة اليهودية.
إذ حرم على اليهود العمل يوم السبت، ويؤكد القرآن ذلك فيما رواه عن عصيانهم في هذا اليوم وقيامهم بالعمل والصيد، فعاقبهم بأن أصبحوا مثل القردة، فيقول الله مخاطبًا اليهود: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، والسبب الذي من أجله حرم العمل على اليهود في يوم السبت، يرجع في زعمهم إلى أن الله تعالى قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، فوجب عليهم أن يكونوا مثل الرب فلا يعملون في هذا اليوم، ولكن القرآن يكذب هذا الادعاء فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38]، أي لم يمسسنا تعب حتى نحتاج إلى راحة.
كما يتضمن صيامُ اليهود في اليوم العاشر من شهر تشري العبري وهو الشهر الأول من شهر سنتهم المدنية، الامتناعَ عن معظم الأعمال، ويسمي اليهودُ هذا اليوم الذي يصومونه، يومَ "كبور"، يعني يوم الكفارة، عن عبادتهم للعجل الذهبي في أثناء غياب موسى عنهم لتلقي الألواح من ربه.
ومع أنه لا يوجد نص في تحريم العمل يوم الجمعة، الذي يعد عادة يوم إجازة وراحة للمسلمين تمييزًا لهم عن اليهود في يوم سبتهم، وعن النصارى في يوم الأحد، فإن القرآن الكريم يأمر المسلمين بأن يدعوا أعمالهم وقت صلاة الجمعة بحيث لا يتخلف أحد منهم عن صلاة هذا الفرض الذي لا يصلح إلا في جماعة، فيقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
و"ذروا البيع" أي اتركوا البيع، وإذا لم يكن هناك بيع فليس هناك شراء، وقد اتفق العلماء على تحريم البيع بعد الأذان الثاني لصلاة الجمعة الذي تبدأ بعده خطبه الجمعة.
هذا وقد اعتاد المسلمون، بالإضافة إلى صيامهم في رمضان، أن يكونوا في شبه صوم عن العمل، خاصة في مصر التي دأبت على تقصير أوقات العمل في شهر رمضان رغبة في التخفيف عن الصائمين وإتاحة السبل أمامهم للتعبد وقضاء لوازمهم المنزلية.
ويرجع هذا التقليد إلى العصر الطولوني، فقد حدث أن زار أحمد بن طولون مسجده وقت بنائه -وكان ذلك في رمضان- فرأى الصناع يعملون إلى وقت الغروب، فقال: متى يشترى هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم؟ وأمر أن يتركوا العمل وقت العصر، ولما انتهى شهرُ رمضان قيل له: هل سيرجعون إلى العمل حتى الغروب؟ فقال: لقد بلغني دعاؤهم وقد تبركت، اصرفوهم عصرًا، فصارت سنة في مصر من بعده.
وتشير كل الدلائل إلى أن حجم الإنتاج يكون أقل من معدله الطبيعي في شهر رمضان في الوقت الذي يزيد فيه الاستهلاك، مع أن العكس كان يجب أن يكون.
وبالعودة إلى أنواع الصيام غير صيام الكلام وصيام العمل - نجد الصيام عن الطعام والشراب، وهذا هو الشائع، ولكنه يختلف من أمة إلى أمة.
فعند المسيحيين مثلا يقتضي بعض أنواع صيامهم الامتناعَ عن بعض أنواع المأكولات والمشروبات دون بعضها الآخر، فيصومون فقط عن الحيوانات البرية وما يستخرج منها، وبعض صيامهم يقتضي منهم الامتناع عن تناول لحوم الحيوانات البحرية وما يستخرج منها إضافة إلى لحوم الحيوانات البرية وما يستخرج منها.
ومن أنواع صيام المسيحيين أيضًا: ما يقتضي الإمساك عن المفطرات نهار اليوم وليله.
ومن الصيام: الامتناع عن المأكولات والمشروبات والجماع من طلوع الشمس إلى غروبها كصيام البوذيين والصابئة والمانويين.
أو صيام يوم واحد أو ليلة واحدة أو جزء من يوم وليلة كصيام اليهود.
أو الصيام الليلي الذي يبدأ بعد صلاة العشاء إلى غروب شمس اليوم التالي، كما كان يفعل المسلمون في بدء صيامهم.