الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، وأشهد ألا إله إلا الله ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا...وبعد:
فيا عباد الله: إنَّ بلوغ رمضان لنعمةٌ عظمى ومِنحةٌ كبرى، لا يقْدُرُها حق قدرِها إلا الموفَّقون، فلقد كنّا بالأمس القريبِ نتشوق للقائه، ثم- ولله الحمد - تنعمنا ببهائه، وعشنا في نفحاته لحظات مرَّت مرور الطيف، ولمعت لمعان البرق.
فخرج المسلم منها بصفحة مشرِقة بيضاء ناصعةٍ، مفعمَة بفضائل الخصال، مبرأةً من سيئات الأعمال، قد استلهم الصائم الصادق المحتسب من مدرسة رمضان قوَّةَ الإرادة والعزيمة على كل خير، وتقوى الله في كل حين، تقويمًا للسلوك، وتزكية للنفوس، وتنقيةً للسرائر، وإصلاحًا للضمائر، وتمسُّكًا بالخيرات والفضائل، وبُعدًا عن القبائح والرذائل؛ فغدا الصوم لنفسه حصنًا حصينًا من الذنوب والمآثم، وحمى مباحًا للمحاسن والمكارم، فصفتْ روحه، ورقَّ قلبه، وصلحتْ نفسه، وتهذَّبتْ أخلاقه.
هذا في الدنيا أما في الأخرى فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصِّيَامُ وَالقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيَشْفَعَانِ))؛ رواه أحمد وصححه الألباني.
أما من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، فأمضى ليالي رمضان المباركة في لهو ومعصية، ونهاره في نوم وغفلة، لم يرعَ للشهر حرمته، وتجرأ على الحرمات، فليبكِ لعظيم حسراته، وليسعَ لاستدراك ما فاته؛ لئلا يكون ممن قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((أَتَانِي جِبْرَائِيلُ - عليه السلام - فقال: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ...)).
فهنيئًا لمن أحسن استقباله ... هنيئًا لمن أكرم وفادته .. هنيئًا لمن قام ليله وصام نهاره .. هنيئًا لمن أقبل فيه على الله بقلبه وجوارحه .. هنيئًا لمن تقرب إلى الله فيه بأعمال صالحة .. وكفَّ النفس عن سيئات قبيحة..
هنيئًا لمن تاب الله عليه، ورضي عنه، وأعتقه الله من النار في رمضان، وآهٍ على شخص أدرك رمضان ولم يغفر الله له!!.. وا حسرتاه على أناسٍ دخل رمضان وخرج، وهم في غيهم يسرحون! .. وخلف الشهوات يلهثون! .. وفي القربات مفرطين ومقصرين!!
أفلا يحق لنا أن نبكي على فراق شهرنا الكريم ولياليه الزاهرة، وساعاته العاطرة.. التي ولَّتْ مدبرة، وتتابعت مسرعة، فكانت سجلاَّتٍ مطويَّة، وخزائن مغلقة، حافظةٌ لما أودعناها، شاهدةً لنا أوعلينا، لا يُدرَى من الرابح فيها فيُهنَّا، ولا الخاسر منا فيُعزَّى .. حتى ينادي الله بنا يوم القيامة: (( يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))؛ رواه مسلم.
فها هو رمضان آذن بوداع، والعيد على إقبال بإسراع.
يَا رَاحِلاً وَجَمِيلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
مَا أَنْصَفَتْكَ دُمُوعِي وَهْيَ دَامِيَةٌ وَلاَ وَفَى لَكَ قَلْبِي وَهْوَ يَحْتَرِقُ
فيا من صفَتْ له الأوقات في شهر الخيرات، وعمَّر ساعاته بالصالحات، وزكَّى نفسه بالطاعات، وفاضت عينُه بالعبرات، قد زال عنه تعب القيام وجوع الصيام وثبت له الأجر والثواب - إن شاء الله تعالى -، احمد الله! واذكر نعمة ربك القائل: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
واجتهد فيما بقي من حياتك، ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا عَبْدَاللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)). فأنت لا تدري هل قبل الله عملك أو ردَّه عليك؟
روى الترمذي عن عبدالرحمن بن سعيد أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60].
فقلتُ: "أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟" قال: (( لاَ يَا بْنَتِ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينِ يَصُومُونَ وَيُصَلُّون وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ)).
قال ابن عمر - رضي الله عنه -: "لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين؛ لتمنيت الموت بعدها قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أُيقبل منهم أم لا؟" وقال ابن رجب: "كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟!"
إخواني: إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت، قال الله - عزَّ وجلَّ -:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا مَاتَ العَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ)) فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلا الموت.
ولقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف؛ فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين عابدين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة، تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم، التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:
قال الحسن: "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره."، وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل."، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: "ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه."
وكان أبو مسلم الخولاني يقول: "أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثروا به دوننا؟! كلا والله .. لَنُزاحمَنَّهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً."
قال عمر بن الخطاب: "إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض."
فيا عجبًا لإنسان عاقل يعود إلى مرارة المعصية بعد أن ذاق حلاوة الطاعة!!
شَارِطِ النَّفْسَ وَرَاقِبْ لاَ تَكُنْ مِثْلَ البَهَائِمْ
ثُمَّ حَاسِبْهَا وَعَاتِبْ وَعَلَى هَذَا فَلاَزِمْ
ثُمَّ جَاهِدْهَا وَعَاقِبْ هَكَذَا فِعْلُ الأَكَارِمْ
لَمْ يَزَالُوا فِي سِجَالٍ لِلنُّفُوسِ مُحَارِبِينَا
فَازَ مَنْ قَامَ اللَّيَالِي بِصَلاَةِ الخَاشِعِينَا
فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام والقيام والصدقة والذكر وتلاوة القرآن؛ فصيامَ ستًّا من شوالٍ بعد رمضانَ كصيام الدهرِ.. وكذلك صيام ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ؛ فقافلة العمَل الصالح التي لا تتوقَّف رحالها، ولا تتصرم حبالها، فطاعة الله هي الطريق إلى رضاه، و الاستكثار من العبادة يحوِّلُ الأشقياءَ إلى سعداءَ، وتجلب محبة الله لعبده والدفاعِ عنه إذا أصابه من غير الله مكروه.
والمداومة على الأعمال الصالحة تُطهِّر القلوبَ، وتزكّي الأنفسَ، وتُهذب الأرواحَ، وتُريح الأبدانَ، وتُسعدُ العبدَ في الدنيا والآخرة.
• • • •
الخطبة الثانية
يا مَن كنت تصوم وتقوم في وقت واحد مع سائر المسلمين في سائر أنحاء الدنيا، إياك أن تتخلّى عن الإحساس بانتمائك إلى هذه الأمّة الواحدة، وتذكر تلك الطفلة اليتيمة.. والأرملة الكسيرة.. والشيخ العاجز.. وشاركهم في مآسيهم بدعوة صادقة أو صدقة جارية، واجعل فرحة هذا العيد المبارك تعم أرجاء عالمنا الإسلامي لاأريد منك أن تحزن يوم الفرح، ولاتحرم نفسك طيبات ما أحلَّ الله.
لكن كما أدخلت السرور على أهلك ونفسك بالجديد من اللباس والتوسعة في المال، فهلا سعيت لإدخال السرور على أسرٍ أخرى، قد كبلتهم الديون، وأسرتهم الحاجات، لم يبوحوا بسرهم إلا لله.. ولو أسرة واحدة ، فها هي طرق الخير مشرعة أبوابها، فهلموا إليها .. وما تقدموا لأنفسكم تجدوه عند الله. ولذلك شرع الله الحكيم العليم زكاة الفطر؛ طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين فتؤدَّى قبل الخروج لصلاة العيد، ومَن أداها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج، ويجوز توكيل من يؤديها قبل ذلك، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد.
ومن السنة التكبير من غروبِ الشمس ليلة العيدِ إلى صلاةِ العيدِ لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] وصِفتُهُ أنْ يقولَ: الله أكبر الله أكبر لا إِله إِلاَّ الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويُسَنُّ جهرُ الرجالِ به في المساجدِ والأسواقِ والبيوتِ؛ إعلانًا بتعظيم الله وإظهارًا لعبادتِه وشكرِه، ويُسِرُّ به النساءُ. فما أجملَ حالَ الناسِ، وهُمْ يكبِّرون الله تعظيمًا وإجلاَلاً في كلِّ مكانٍ عندَ انتهاء شهرِ صومِهم! يملئون الآفاق تكبيرًا وتحميدًا وتهليلاً، يرجون رحمةَ اللهِ ويخافون عذابَه.
كذلك من تمام ذكر الله - عزَّ وجلَّ - حضور صلاةَ العيدِ فقد أمَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - بها أمَّتَه؛ حتى النساءَ لقول أم عطية - رضي الله عنها -: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض، وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين".
ويسن أن يأتي لمصلى العيد من طريق ويرجع من آخر، وأن يأكل تمرات حين يخرج لصلاة العيد، ويَحرُم صوم يوم العيد، وتخصيص ليلته بقيام بدعة، فلم يصح في إحياء ليلة العيد حديث..