أيها الناس:
لقد جاءكم شهر رمضان محيا بتحايا، تضفي إليه من الجلال جلالاً، ومن البهاء بهاءً، أتاكم رمضان يحمل الجوع والعَطَش، ترى الطعام أمامك وتشتهية نفسك، وتصل إليه يدك، ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويلهب الظمأ جوفك، والماء من حولك لاتقدر على الارتواء منه.. ويأخذ النعاس بلبك، ويداعب النوم جفنيك ..ويأتي رمضان ليوقظك لسحورك .. إنها ترادف حلقات الصبر والمصابرة.. ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((الصَّوْم نِصْفُ الصَّبْرِ))؛ رواه الترمذي ،وقال: حديث حسن.
فياسعد الصائم ..كيف ينال الأجر في ظمئة وجوعه عند من لايظلم مثقال ذرة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120].
لقد جاء رمضان؛ لينيب الناس فيه إلى ربهم؛ ويؤموا بيوته؛ ليعمروها بالتراويح والذكر .. تمتلئ بهم المساجد، متعبدين أو متعلمين .. والمساجد في الأقطار حفل بالعباد صفًا واحدًا مُتَراصَّة أقدامُهم وجباهُهم على الأرض؛ سواء الغني والفقير؛ والوضيع والغَطْريف.. الصعلوك والوزير والأمير .. يذلون لله فيعطيهم الله بهذه الذلة عِزَّة على الناس كلهم، إنْ حسن القَصْد واستصوب العمل .. ولا غَرْو - أيها المسلمون - إذ من ذَلَّ لله أعزَّه الله، ومن كان لله عبدًا مطيعًا جعله الله بين الناس سيدًا، ومن كان مع الله باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه كان الله معه بالنصرة والتوفيق والغفران.
وبذلك - عباد الله ساد - أجدادنا الناس.. وحازوا المجد من أطرافه، وأقاموا دولة ما عرف التاريخ أنبل منها، ولا أفضل ولا أكرم ولا أعدل، فماذا بعد الحق إلا الضلال.. نعم لم يكونوا خواء؛ بل إنهم يُذكَرون إذا ذُكِر رمضان، ويُذكر رمضان إن ذُكِروا فيه نزل القرآن على سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - وهو لعمر الله حياة الناس عند الموت ونورهم عند الظلمة.
وفي رمضان.. نصر الله المؤمنين ببدر وهو أَذِلَّة..وسماه يوم الفرقان يوم الْتَقَى الجمعان.. وفي رمضان فُتحت مكة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - فَطَهَّرها من وساوس الوثنية ..وأزاح منها كل قوى التقهقر والشرك .. وفي رمضان يفتح الله على خالد بن الوليد في اليَرْموك، وعلى سعد في القادسية، وعلى طارق بن زياد في الأندلس عند نهر لكة، وعلى الملك قطز والظاهر بيبرس ضد جحافل التتار، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين .. وكذا حطين وجلولاء ..ورمضان فيه وفيه وفيه .. هذا هو رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وعلو الروح، وعظمة النفس، ورضاء الله قبل كل شئ وبعده.
رمضان - أيها الناس- شهر الحب، والوِئَام فكونوا أوسع صدرًا، وأندى لسانًا، وأبعد عن المُخَاصَمَة والشر.. وإذا رأيتم من أهليكم زلة فيه فاحتملوها، وإن وجدتم فُرجة فسدوها واصبروا عليها، وإن بادأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله؛ بل ليقل أحدكم: إني صائم . وإلا فكيف يرجو من يمقت ذلك أن يكون له ثواب الصائمين، وهو قد صام عن الطعام الحلال، وأفطر على ماسواه من الحرام. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ، والعَمَل به فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابهُ))؛ رواه البخاري.
وإن امرأتين صامتا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعرض ثم ذُكرتا له فدعاهما، فأمرهما أن يتقيأا، فقاءتا مِلء قدح قيحًا وصديدًا ولحما عبيطًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ هاتَيْنِ صامتا عَمَّا أَحَلَّ اللهُ لهما، وأَفْطَرَتَا عَلى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لُحُوم النَّاس))؛ رواه الإمام احمد.
فلا إله إلا الله، ما أعظم هذا الجرم! ولا إله إلا الله ما أعظمه من انتهاك لحرمة الشهر! أعاذنا الله وإياكم من ذلك