إنّ من الأحداث العظيمة الّتي حدثت في شهر رمضان الفضيل فتح مكة المكرمة الّتي وقعت في يوم 20 من رمضان، دخلها سيّدنا الحبيب المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، معزّزاً مكرّماً بجيش تعداده عشرة آلاف مقاتل كلّهم يردّدون ''لا إله إلاّ الله، نصر عبده وأعزَّ جنده وهزم الأحزاب وحده''، بعد أن أخرجته قريش منها.
إن فتح مكة هو نتيجة لجملة من المرتكزات الفكرية الّتي قامت عليها الدعوة المحمّدية المباركة، منها:
أوّلاً: البناء العقائدي، كما جاء في الحديث الّذي رواه البخاري من طريق عائشة رضي الله عنها: ''علّمنا الإيمان قبل الأحكام''. فالتربية الإيمانية هي الّتي دفعت بلال بن رباح، رضي الله عنه، لأن يتحمّل كلّ ألوان العذاب وهو يردّد ''أحد أحد، فرد صمد''.
ثانياً: المفهوم الشامل للإسلام، كما قال تعالى: {قُل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، وبذلك أًمِرتُ وأنا أوّل المسلمين}. قوله ''صلاتي'' كناية عن العبادات، و''محياي'' كناية عن الحياة الّتي يحياها المسلم بتبني ميادينها ومجالاتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والروحية، لابدّ أن تكون لله، لأنّ الإسلام منهج حياة.
ثالثاً: التدرّج في الدعوة ومراعاة المرحلية في التّغيير، فالنّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، كان متدرِّجاً في دعوته، وعلّم الصّحابة، رضي الله عنهم، التدرّج في الدعوة، كما جاء في الحديث الّذي يرويه البخاري في صحيحه أنّ النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فقال له: ''إنّك ستدرك قوم أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة ألاّ إله إلاّ الله وأنّ محمّد رسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم وتُرد إلى فقرائهم''.
رابعاً: كسب الأنصار بالتّرغيب. لذا، كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو ويقول: ''اللّهمّ انصُر الإسلام بأحد العُمرين: عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام (أبو جهل)''، أي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يطمح في إسلام أبي جهل. ولمّا دخل مكة، أمَر أن ينادي: ''مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمِن''، تأليفاً لقلبه على الإسلام. لذا، على الدعاة أن يرفعوا شعار ''التّرغيب لا التّرهيب، التّيسير لا التّنفير''، وأن ينشروا الإسلام بالحُبّ.
خامساً: حقن الدماء مقصد من مقاصد الشّرع، ولمّا دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة، سمِع سعد بن عبادة يقول: ''اليوم يوم الملحمة، الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ''، فقال رسول الله: ''لا يا سعد، اليوم يوم المرحمة، اليوم تعظّم الكعبة وتبجّل''.
سادساً: العفو عند المقدرة. لمّا دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن حطّم الأصنام الّتي كانت في جوف الكعبة وحولها، قام خطيباً ثم قال: ''ما تظنّون أنّي فاعل بك؟'' فقالوا: أنتَ الكريم ابن الكريم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: ''اذهبوا فأنتُم الطُّلقاء''.
سابعاً: التّواضع والبكاء من خشية الله. فقد دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة وهو مطأطئا رأسه ويقرأ قوله تعالى: {إنَّا فتحنا لك فتحاُ مُبيناً}، والدموع تذرف من عينيه الشّريفتين ليُعلّمنا الربّانية في الدعوة، وأن نستشعر أنّ النّصر من عند الله كما قال عزّ وجلّ: {وما النّصر إلاّ من عند الله''، وقوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}.
* إمام مسجد ابن باديس ـ الجزائر الوسطى