عن أبى أيوب الأنصارى (1) رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر " .( رواه مسلم (2) ) .
هذا الحديث يدل على فضل عظيم وعطاء كريم من الله سبحانه ، وعلى المسلم : أن يتعرض لهذا العطاء الوافر من الله سبحانه ، ولا يحرم نفسه من ذلك .
والصوم خمسة أقسام :
1. صوم واجب بإيجاب الله تعالى ، وهو معين ، وهو : شهر رمضان .
2. صوم واجب بإيجاب الله تعالى مضمون فى الذمة ، كصيام الكفارات ( كفارة اليمين لمن عجز عن الإطعام ، وكفارة الجماع فى نهار رمضان ، وكفارة القتل الخطأ ) وكصيام القضاء لما أفطره فى رمضان .
3. صوم واجب بإيجاب الإنسان على نفسه معين ، كنذر صوم يوم ، أو أيام بعينها .
4. صوم واجب بإيجاب الإنسان على نفسه مضمون فى الذمة غير معين ، كنذر صوم يوم ، أو أيام بغير تعيين .
5. صوم التطوع .وصوم التطوع منه ما هو محدد فى الأيام من العام ، كصوم عرفة وعاشوراء ، ومنه : ما يأتى من جملة الصالحات ، كالتسع الأولى من ذى الحجة لحديث : " ما من أيام العمل الصالح فيها خير من هذه الأيام العشر .. " ومنها : ما هو مطلق فى الشهور المعينة ، كصيام شعبان والمحرم ، والصوم فى الأشهر الحرم ، وصوم الست من شوال ، ومنها : ما هو مطلق فى الشهور غير معينة ، كصيام ثلاثة أيام فى كل شهر ، وقد يخص منها الأيام البيض ( القمرية ) ، ومنها : صيام الإثنين والخميس .
وأفضل الصيام عند الله : صيام داود ، كان يصوم يوماً ، ويفطر يوماً .ويحرم الصوم فى العيديد ، ويحرم صوم الشك ، وهو ليس يوم الثلاثين من شعبان إنما هو اليوم الذى يُشك فيه هل هو آخر يوم من شعبان ( ثلاثين منه ) أو هو يوم من أيام رمضان ، لأن الهلال غُم على الناس فلم يستن لهم طلوعه من عدمه .
ويكره الصوم فى أيام التشريق ، وهى : الأيام الثلاثة بعد عيد الأضحى ، لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى .ويكره إفراد الجمعة أو السبت بالصوم تطوعاً ، إلا أن تصوم يوماً قبله ، أو يوماً بعده .
صوم الست من شوال :
فرض الله تعالى على الذين آمنوا صوم شهر رمضان ، وقد شرع لنا النبى صلى الله عليه وسلم الصوم قبله فى شعبان ، لحديث عائشة رضى الله عنها قالت : لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم يصوم فى شهر أكثر من شعبان ، فإنه كان يصوم شعبان كله إلا قليلاً ( متفق عليه ) .
وقد شرع الصوم بعده فى شوال لحديث أبى أيوب : " من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر " فكانت كالراتبة من نوافل الصلاة قبلها وبعدها .
ومعلوم أن أعظم النوافل أجراً : النوافل الراتبة ، وهى : ركعتان قبل الصبح ،وأربع قبل الظهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء .
شوق إلى الصوم :
ولما كان الحديث القدسى : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزي به .. " فإذا استشعر المسلم معنى ( فإنه لى ) ، وخالط هذا المعنى شغاف قلبه ، أحب الصوم ، وتمنى ألا ينتهى من رمضان أبداً ، ولكن كيف ينال ذلك ورمضان يبدأ بالهلال وينتهى بالهلال ؟! هذا الشوق يؤهل العبد لمكافأة من الله وعطاء كبير ، حيث يجعل له صوم ستة أيام من شوال تكمل له حلقة العام مع رمضان ، فيصبح كمن صام العام كله ، ومن كان هذا شأنه دائماً ، فكأنما صام العمر كله ، وذلك عطاء من الله سبحانه لمن إذا خرج من العبادة أحب العودة إليها ، وعليه يمكن حمل الأجور العظيمة على الأعمال اليسيرة بعد العبادة كحديث : " ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " تسبحون ، وتحمدون ، وتكبرون ، خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. " .
فمن صام رمضان ، أى : أتم أيامه صياماً حتى طلع عليه هلال شوال ، ثم أتبعه ستاً من شوال ، أى : بعد عيد الفطر ، لأنه معلوم أن العيد لا يجوز صومه لا فى قضاء ولا كفارة ولا تطوع .
فيبدأ الصوم من اليوم الثانى أو ما بعده إلى أن يتم صومه الأيام الستة متتابعة أو متفرقة فى أول الشهر ، أو فى وسطه ، أو فى آخره ، بهذا كله يكون قد تحقق له أنه ( أتبعه ستاً من شوال ) .
حكم صوم الستة من شوال :
قال القرطبى : ( واختلف فى صيام هذه الأيام ، فكرهها مالك فى موطئه ، خوفاً أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ) . وقد وقع ما خافه ، حتى إنه كان فى بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم فى رمضان ، وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها فى خاصة نفسه . واستحب صيامها الشافعى ، وكرهه أبو يوسف ( انتهى ) .
ولقد استحب صيامها جمهور العلماء إلا المالكية ، فكرهوا صيامها إذا اجتمعت شروط أربعة ، فإن تخلف منها شرط أو أكثر لم يكره صيامها عند المالكية ، وهذه الشروط هى :
1. أن يكون الصائم ممن يقتدى به ، أو يخاف عليه أن يعتقد وجوبها .
2. أن يصومها متصلة بيوم الفطر .
3. أن يصومها متتابعة .
4. أن يظهر صومها .
صيام الدهر (3) :قوله صلى الله عليه وسلم : " كان كصيام الدهر " أى : كتب له أجر من صام كل يوم فلم يفطر ، ولقد أخرج الدارمى فى سننه عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صيام شهر بعشرة أشهر ، وستة أيام بعدهن بشهرين ، فذلك تمام سنة " يعنى : شهر رمضان ، وستة أيام بعده .وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها ، وإنما يرجى ذلك لمن أنس العبادة وأحبها ، وذلك فوق التضعيف الخاص بالصوم فى قوله : " فإنه لى " فهو تضعيف ، وزيادة فوق ذلك التضعيف وتلك الزيادة والله أعلم .قوله صلى الله عليه وسلم : " كصيام الدهر " مع أن الأحاديث قد جاءت بالنهى عن صيام الدهر .
لكن التشبيه هنا : أن من أراد أن يحصل على ثواب صوم الدهر فعليه بصيام ستة ايام من شوال بعد رمضان ، فيضاعف له الثواب حتى يجوز من الأجر كأنه لم يفطر أبداً . بل إن حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له : " صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها ، وذلك مثل صيام الدهر " .
فكان من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال وصام ثلاثة أيام من كل شهر بعد ، كان كمن صام دهرين فى عمره ، وذلك مما اختص الله سبحانه به هذه الأمة على قصر أعمارها ، فإن الله سبحانه ضاعف لها أعمالها ، فتسبق الأمم بذلك العطاء العظيم من الله سبحانه .
قضاء رمضان وصوم شوال :
ومعلوم أن القضاء فريضة ، فهى على الوجوب ، أما صوم شوال فنافلة ما لم ينذره العبد فيصبح عليه فريضة بنذره ، والقضاء مقدم على صوم النافلة ، فإن استطاع العبد القضاء فى شوال ، ثم صام الستة بعدها فعل ذلك ، وإن خاف لو صام الستة من شوال ألا يستطيع القضاء على مرور العام حتى رمضان الذى يليه ، تعيين عليه القضاء فى شوال دون الستة .
فإن كان لا يتسع شوال عنده للستة مع القضاء ، وهو يرجو أن يفرق القضاء بعد ذلك على أيام العام ، جاز له صوم الستة فى شوال ، وتأخير القضاء إلى ما بعده ذلك ، لأن وقت الستة من شوال محصور فيه ، أما القضاء فوقته مُوسع على العام كله ، لقوله تعالى : " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ " ( البقرة : 185 ) ، وذلك مراعاة لوظيفة الوقت المضيقة دون ما كان وقته موسعاً. والله أعلم بالصواب .
محمد صفوت نور الدين
-----------------
(1) أبو أيوب الأنصارى ، واسمه : خالد بن زيد بن كليب ، من بنى النجار ، شهد العقبة وبدراً وأحداً والمشاهد كلها ، وكان مع على بن أبى طالب - رضى الله عنه - ، ومن خاصته ، وشهد الجمل والنهروين ، ثم غزا أيام معاوية - رضى الله عنه - ،أرض الروم مع يزيد سنة إحدى وخمسين ، ومات عند مدينة القسطنطينية ، وقد آخى النبى صلى الله عليه وسلم بين أبى أيوب ومصعب بن عمير .وأبو أيوب : هو الذى نزل النبى صلى الله عليه وسلم فى بيته لما قدم المدينة إلى أن بنى المسجد ، ثم بنى بيته إلى جوار المسجد فتحول النبى صلى الله عليه وسلم عن بيت أبى أيوب إلى بيته . وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لما هاجر نزل فى بنى عمرو بن عوف خمسة أيام ثم انتقل إلى المدينة ، وقد ركب ناقته وأرخى زمامها ، والناس على جنبتى الطريق يقولون : تعالى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العدد والعدة والعزة والمنعة ، ويأخذون بخطام الراحلة فيقول صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها مأمورة " حتى ناخت فى بنى مالك بن النجار . فلما نزل عنها النبى صلى الله عليه وسلم انشغل الناس به يأخذونه إلى بيوتهم ، أما أبو أيوب فحمل رحل النبى صلى الله عليه وسلم فأدخله إلى بيته ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : " المرء مع رحله " .ويذكر أبو أيوب : أن النبى صلى الله عليه وسلم نزل فى بيته الأسفل فكسر إناء الماء فسكب الماء فى الغرفة ، فقام هو وزوجه ليجففا الماء بالثوب الذى يلتحفون به مخافة أن ينزل شىء منه على النبى صلى الله عليه وسلم ، قال أبو أيوب : فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا ينبغى أن نكون فوقك ، فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغرفة . فانظر إلى أب أيوب يبقى مجاهداً حتى آخر عمره فيموت غازياً فى سنة أحدى وخمسين وقد طعن فى السن ، ويقول : قال الله تعالى : " انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا " ( التوبة : 41 ) فلا أجدنى إلا خفيفاً أو ثقيلاً . ومناقبه كثيرة رضى الله عنه .
(2) الحديث رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد والدرامى فى سننه ، والحديث مروى كذلك عن ثوبان وأبى هريرة وابن عباس والبراء بن عازب وعائشة .
(3) فى الصحيح : أن سائلاً سأله عن صوم الدهر . فقال : " من صام الدهر فلا صام ولا أفطر " ، قال : فمن يصوم يومين ويفطر يوماً ، فقال : " ومن يطيق ذلك ؟! " قال : فمن يصوم يوماً ، ويفطر يومين ، فقال : " وددت أنى طوقت ذلك " ، فقال : فمن يصوم يوماً ويفطر يوماً ، فقال : " ذلك أفضل الصوم " فسألوه عن صوم الدهر ، ثم عن صوم ثلثيه ثم عن صوم ثلثه ثم صوم شطره .
وأما قوله : " صيام ثلاثة ايام من كل شهر يعدل صيام الدهر " وقوله : " من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر ، الحسنة بعشر أمثالها " ونحو ذلك . فمراده : أن من فعل هذا يحصل له أجر صيام الدهر بتضعيف الأجر ، من غير حصول مفسدة . فإذا صام ثلاثة أيام من كل شهر حصل له أجر صوم الدهر بدون شهر رمضان .
وإذا صام رمضان وستاً من شوال حصل بالمجموع أجر صوم الدهر ، وكان القياس أن يكون استغراق الزمان بالصوم عبادة ، لولا ما فى ذلك من المعارض الراجح ، وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم الراجح ، وهو إضاعة ما هو أولى من الصوم ، وحصول المفسدة راجحة فيكون قد فوت مصلحة راجحة واجبة أو مستحبة ، مع حصول مفسدة راجحة على مصلحة الصوم .
وقد بين صلى الله عليه وسلم حكمة النهى ، فقال : " من صام الدهر فلا صام ولا أفطر " فإنه يصير الصيام له عادة ، كصيام الليل فلا ينتفع بهذا الصوم ، ولا يكون صام ، ولا هو أيضاً أفطر .
ومن نقل عن الصحابة أنه سرد الصوم ، فقد ذهب إلى أحد هذه الأقوال ، وكذلك من نقل عنه أنه كان يقوم جميع الليل دائماً ، أو أنه يصلى الصبح بوضوء العشاء الآخرة ، كذا كذا سنة ، مع أن كثيراً من المنقول من ذلك ضعيف .
وقال عبد الله بن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صوماً وصلاة من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيراً منكم ، قالوا : لم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : لأنهم كانوا أزهد فى الدنيا ، وأرغب فى الآخرة . فأما سرد الصوم بعض العام ، فهذا قد كان النبى صلى الله عليه وسلم فعله .
قد كان يصوم حتى يقول القائل : لا يفطر ، ويفطر حتى يقول القائل : لا يصوم . ( من مجموع الفتاوى ج22 ص 302 - 304 ) .
صوم الست من شوال
محمد صفوت نور الدين