ماذا بعد رمضان؟!
الحمد لله الذي بنعمته
تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي عبد ربَّه حتى أتاه اليقين
والممات.
أما بعد:
فمن نعم الله على العبد
المؤمن أن يبلِّغه مواسم الطاعات، ويوفقه إلى القيام بالواجبات على أتم ما افترضه
المولى - عز وجل -، وقد أكمل الصائمون صومهم، والقائمون قيام ليالي خير الشهور،
وفاز القراء بختم كتاب ربهم وكلام مالكهم، وهذا كلُّه بمنِّ الله وكرمه، ولولاه ما
وُفِّق أحد للخيرات.
فمن وفَّى ما عليه من
الأعمال والطاعات كاملة، وُفِي له الأجر والجزاء كاملا، ومن نقص من عمله شيئا نقص
له من الأجر بقدر ما نقص من العمل.
غدا توفى النفوس
ما كسبت
ويحصد الزارعون
ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا
لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس
ما صنعوا
وقد كان الصحابة رضوان
الله عليهم يجتهدون في إكمال الطاعات، والتقرب إلى الله تعالى بإحسان العمل
ومداومته، مع خوفهم بعدم القبول، فعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -
قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية
﴿والذين
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة﴾،
قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين
يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم».
وقد علموا أنَّ الله
تعالى قال في كتابه:
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ
الْمُتَّقِين﴾.
فعن فضالة بن عبيد قال:
لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛
لأن الله يقول
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ
الْمُتَّقِين﴾». رواه ابن
المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا في الإخلاص.
فشهر رمضان وقت الزرع،
ويوم القيامة وقت الحصاد، فمن لم يزرع لم يحصد إلا الندم والهم، ولقد أحسن القائل:
ترحل شهر الصبر
والهفاه وانصرما
واختص بالفوز
بالجنات من خدما
وأصبح الغافل
المسكين منكسرا
مثلي فيا ويحه!
يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في
وقت البدار فما
تراه يحصد إلا
الهمَّ والندما
فإذا كان عباد الله
المتقون وجلون من عدم تقبل العمل، فكيف بمن ضيَّع وقته في السهر والكسل؟
بل من الناس من تراه يعبد
الله تعالى في شهر الخيرات، يصوم نهاره ويقوم ليله، ويجتنب كلَّ ما يخدش صومه من
الكلام البذيء والعمل الدنيء، فإذا انصرم رمضان رجع إلى ما كان عليه من الآثام،
ومقال حاله: «لا يُعرف الله إلا في رمضان».
كم يفرح المرء عندما يرى
ألوان الطاعات تزداد في رمضان، فما أن يؤذن أذان الفجر إلا وتجد المساجد مكتضة
بالمصلين، ولا تكاد تفرِّق بين الصلوات؛ إذ بيوت الله عامرة في كلِّ وقت من ليل
ونهار، لكن سَلِ المساجد بعد صلاة العيد عن عُمَّارها، أين ذهبوا، فقد ترك الكثير
صلاة الجماعة، ولم يستجب لنداء الله إلا القليل الموفقون.
ألا فليعلَم هؤلاء أنَّ
من علامة قبول العمل عند الله أن يكون المرء على حال أفضل من الحال التي كان عليها،
فالصيام يزيد المرء تقربا إلى الله في كلِّ الأوقات، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾.
قال ابن كثير في تفسيره:
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن
الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله - عز وجل -، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها
وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.
فمن لم تزكو نفسه وتمنعه
من الشهوات بعد رمضان فلم يصم لله حق الصيام، ولم يستفد من شهره إلا الجوع والعطش.
لأنَّ ربَّ رمضان هو ربُّ
الشهور كلها، وما أوجبه عليك في رمضان من فعل الواجبات كالصلوات في الجماعات وترك
المحرمات، أوجبه أيضا في سائر الشهور.
سئل أحد السلف قيل له:«إن
قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان؛ فقال: بئس القوم، لا يعرفون الله حقاً إلا في
رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السَّنة كله».
نسأل الله الكريم رب
العرش العظيم أن يوفقنا وسائر المسلمين للطاعات والقربات، في كل الشهور والأيام
والزمان والأماكن، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «اِتَّقِ
اللهَ حَيثُمَا كُنتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا...».
فتقوى الله أجلُّ مطلوب
يطلبه المسلم، في كلِّ أحيانه وأماكنه، يُتبع الحسنةَ بحسنات، والسيِّئةَ بقرُبات،
عسى الله أن يعفو عنه ويجعله من عباده المتقين الموفقين، والحمد لله رب العالمين.