بالقرآن أحيا
أ . صباح الكبيسي
___________________
ما أشقى الإنسانية اليوم وهي تعيش بعيدة عن كتاب الله، بل ما أشقى الأمة الإسلامية وهي تبتعد عن ربها وعن دينها وتسير بل تركض لاهثة وراء كل ناعق من غربان الشرق والغرب،
والله الرحيم بعباده قد دلّها على الطريق للعيش الكريم، والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، حياة فاضلة كريمة ملؤها الخير والمعروف والأمل والرحمة والبركة، بل هي حياة السعادة والفوز والنجاح والنجاة والفلاح والفاصل بين هذه الحياة السعيدة وبين عكسها حياة الشقاء والنكد والأمراض والأسقام والأحزان والكآبة والضيق والشدة هو: كتاب الله والعيش معه، والعيش له، والعيش في ظلاله، والعيش في سبيله وتمثيله وتطبيقه في حياتك بكل تفاصيلها صغيرها وكبيرها.
يقول الله سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل: 97 ، وأنا أبحث عن هذه الآية في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن وجدتها في سورة النحل والعجيب أن الآية التي تلتها مباشرة قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل: 98 – 100 ، ويقول سبحانه وتعالى في حق مع مَن يعرض عن هذا القرآن: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه : 124.
_______________
ان أرقى أمنيات الإنسان السويّ هي العيش عيشة كريمة طيبة، وأن تكون له ذرية صالحة طيبة وعاقبته في الآخرة حسنةٌ طيبة.
والعيش مع القرآن يضمن لك ذلك زيادة، والزيادة رضوان من الله ورؤية وجهه سبحانه وتعالى كما أخبرنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكما قال سيد قطب رحمه الله : (ان الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا مَن ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه .. ومَن عاش مع القرآن شعر بالتكريم الإلهي العلوي الجليل، فعاش هادئ النفس مطمئن السريرة قرير العين، تغشاه السكينة التي ما تنزل في قلب عبد إلا أكسبته الوقار والطمأنينة.
________________
إذن الحياة مع القرآن في حقيقتها هي الحياة مع الله، لأن القرآن كتاب الله المنزل وكلامه الموجه إلى الإنسان إلى نفسه وقلبه وفكره وروحه.
ولو أردنا أن نقف مع صورٍ من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والتابعين وسلف هذه الأمة لطال بنا المقام، ولكن لنأخذ صوراً سريعة لبعض السلف وبعض الخلف في عيشهم مع القرآن، وحياتهم معه وله، وكيف رفعهم هذا القرآن في الدنيا، وضمن لهم الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة .
________________
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُميز حملة القرآن في العطاء، ويرسلهم إلى الآفاق يعلمون الناس، وأرسل إليهم هذا الكتاب يوصيهم: (أما بعد فإن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن لكم شرفاً وذخراً، فاتبعوه، فإنه من اتبعه القرآن زخ في قفاه حتى يقذفه في النار، ومن تبع القرآن ورد به القرآن جنات الفردوس، فليكونن لكم شافعاً ان استطعتم ولا يكونن بكم ماحلاً، فإنه مَن شفع له القرآن دخل الجنة، ومَن محل به القرآن دخل النار، واعلموا ان هذا القرآن ينابيع الهدى وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهداً بالرحمن)، في مثل هذا الكلام وهذه البيئة تخرّج الآلاف بل الملايين من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بحق يعيشون بالقرآن ويتبعونه، فرفعهم القرآن حتى كانوا كالنجوم في الليلة الظلماء وأوردهم الجنة بإذن الله تعالى .
________________
هذا الجنيد البغدادي وهو من أعلام الأمة يصفه (الجريري) آخر لحظات حياته يقول : كنت واقفاً على رأس الجنيد في وقت وفاته وهو يقرأ القرآن ، فقلت له: أرفق بنفسك، فقال لي: يا أبا محمد أرأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت؟ وها أنا ذا تطوى صحيفتي، وكان قد ختم القرآن الكريم ثم بدأ بسورة البقرة فقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله، فكيف اليوم بمَن يمر عليه اليوم واليومان والشهر والشهران بل السنة بل السنوات وهو لا يقرأ القرآن ولا يعمل به؟! فكيف هي حياته؟ ثم نقول: من أين تأتينا هذه المصائب والبلايا والهموم والحروب والأمراض وغيرها.
_________________
نقل الغزالي في الإحياء:- ان كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرؤون من المصحف، ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف.
وكان عمر بن عبد العزيز قلما يدع النظر في المصحف بالغداة ولا يطيل.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عندما سجنوه في سجن القلعة ما يصنع أعدائي بي؟
أنا جنتي وبُستاني في صدري
أينما رحت فهي معي
إن حبسوني فحبسي خلوة
وان أخرجوني من بلدي فخروجي سياحة
وان قتلوني فقتلي شهادة في سبيل الله
إن في صدري كتاب الله وسنة رسوله
ويقول لتلميذه ابن القيم وهو في السجن: والله لو أنفقت ملء هذه القلعة ذهباً للذي سجني ما وفيت حقه، لقد فتح الله عليَّ في هذا السجن من علوم القرآن ما يتمنى بعضه كبار العلماء، وإني نادمٌ عل إضاعة الكثير من عمري في غير القرآن الكريم.
___________________
كأنما نزل عليك :- ومن الصور العظيمة من سير الخلف قصة نبوغ شاعر الإسلام محمد إقبال والذي كان يعيش ويحيا بالقرآن يقول: قد كنت تعودت أن أقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم وكان أبي يراني فيسألني: ماذا تصنع؟ فأجيبه: أقرأ القرآن، وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات يسألني سؤاله ، فأجيبه جوابي، وذات يوم قلت له: ما بالك يا أبي! تسألني نفس السؤال وأجيبك جواباً واحداً ثم لا يمنعك ذلك عن إعادة السؤال من غدٍ؟ فقال: إنما أردت أن أقول لك يا ولدي إقرأ القرآن كأنما نزل عليك، ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت.
___________________
وصورة أخرى لمجدد تركيا الإمام بديع الزمان سعيد النورسي :- وتجربته مع القرآن حيث يقول عن نفسه وعن حيرته لمن يتبع وبمَن يقتدي يقول: وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة إذا بخاطرٍ رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي: ان بداية هذه الطرق جميعاً، ومنبع الجداول كلها، وشمس هذه الكواكب السيارة إنما هو القرآن الكريم، فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلا في القرآن الكريم، فالقرآن هو أسمى مرشد، وأقدس أستاذ على الإطلاق، ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه، فاستعدادي الناقص قاصر من أن يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالمنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا أن نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب وأصحاب الأحوال كل حسب درجته، فالأنوار المستقاة من القرآن الكريم ( أي رسائل النور) إذاً ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضاً مسائل قلبية وروحية وأحوال إيمانية فهي بمثابة علوم إلهية نفسية ومعارف ربانية سامية).
__________________
ثم صورة أخيرة من حياة مجددٍ آخر انه الإمام حسن البنا رحمه الله:- الذي بنى دعوة وحركة وأحيا الملايين بالإيمان والإسلام والقرآن ، لأنه كان يعيش ويحيا بالقرآن، يقول عنه أخوه عبد الرحمن البنا وعن علاقته بالقرآن الكريم: غاب عن الناس من خلقه ما جعله بين نفسه وربه يستره عن الناس، فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله ، فهو في بيته شهد الله لا يفتر عن مصحفه ولا يغيب عن قرآنه ولا يغفل عن ذكره، يتلو القرآن على الحافظ منا فيسمع له ويلقي بالصحف إذا لم يجد حافظاً، إلى الصغير فيُراجع عليه، ويملأ البيت بالقرآن والتلاوة سابحاً في آيات غارقاً في ذكريات صاعداً إلى سماوات، يعرف الطريقة التي كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ بها، والمواقف التي كان يقف عندها، وكان تعرو جسمه رعدة وتأخذ نفسه روعة فيتبعه لدى آيات الوعيد ويشرق عند آيات البشرى والنعيم، خارجاً عن الجو الذي يحيا فيه غائباً في معنى بعيد بعيد:
يكاد والله في التنزيل قارئه يحس صوت رسول الله يرتفع
هكذا عاشوا مع القرآن، أناس عاشوا بالقرآن كالملائكة في الطهر والنظافة والعفاف وكالأم بالرحمة والشفقة والحنان وكالأسود بالجشاعة والقوة وقول الحق، وكما قيل: (فرسان في النهار، رهبانٌ في الليلً).
لنعش كما عاشوا ونحيا كما حَيّوا بالقرآن ومع القرآن وفي سبيله.