تعلّم التواصل والتأثير في الناس من رسول رب الناس
د. علي الحمادي .
_________________________
عملية التأثير هي في الحقيقة عملية اتصال بالآخرين من أجل التأثير فيهم وفي الواقع الذي يعيشونه، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أم غير مباشرة، وسواء كان الاتصال باللسان أم بلغة الجسد أو عن طريق الكتابة.
وكلما كان الاتصال بأكبر عدد ممكن من الناس كان تأثير المتصل في دنيا الناس أعمق وقدرته على صناعة الحياة وهندستها أكبر، ولذا يقول نابليون بونابرت: إن الرجال الذين غيروا وجه العالم لم يصلوا إلى ما هم فيه بالتأثير في القادة، بل بتحريك الجماهير، فالتأثير في القادة هو أسلوب التآمر، ولا يؤدي إلا إلى نتائج ثانوية، أما التأثير في الجماهير فهو ضربة العبقرية التي تغير وجه العالم.
_______________________
فمن لا يحسن فنون الاتصال سيجد نفسه في عزلة تامة عن الآخرين، وسيضطر إلى مضاعفة الجهد والوقت والمال حتى يحصل على نتائج متواضعة ومحدودة.
فلنتعلّم فنّ التبليغ والتواصل
من رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد أتقن الرسول صلى اله عليه وسلم اتصاله بصحابته وبالناس أجمعين، فتارة ينفرد بالشخص ويقنعه بدعوة ربه، وتارة أخرى يخطب بالناس فيلهب المشاعر ويثير العواطف فتذرف الدموع وتوجل القلوب وتقشعر الجلود.
روى أبو داود والترمذي عن أبي نَجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وَعَظنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَت منها العيونُ، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مودعٍ فأوصِنا..).
وصدق شوقي حينما أثنى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندى وللقلوب بكاء
______________________
كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف تارة على الصفا منذراً قومه، وتارة يناقش المعادين لمشروعه التأثيري ويحاورهم بالعقل والمنطق، وتارة يمازح أصحابه، وتارة يحزم في أمره معهم، وتارة يمسك السيف بيده فيحتمي به الشجعان من الصحابة الأبطال من فرط قوته وشجاعته.
بالكلمة الطيبة يفتّح الأسماع
وبالابتسامة المشرقة يفتّح القلوب
والكلمة الطيبة كانت إحدى أساليبه صلى الله عليه وسلم عند تواصله مع الآخرين، وهي وصيته لأمته كما ورد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبة).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه في أوقات متفاوتة ومتباعدة نسبياً حتى لا يملُّوه ولكي يبقوا على أنسٍ من حديثه.
فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكِّرنا في كل خميس مرّة، فقال له رجلٌ: يا أبا عبد الرحمن، لودِدتُ أنك ذكَّرتنا كل يوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُم وإني أتخولُكُم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.
وهذا الأدب العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس كان وفق توجيه الله تعالى وتربيته له.
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 16/125].
وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 3/159].
وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 15/88].
_______________________
وبالحكمة ومراعاة أوضاع كل الناس تصل كلمته إلى كلّ الناس :- ومن عظيم تفننه صلى الله عليه وسلم في الاتصال بالآخرين أنه ما كان يخاطب الجميع بنفس الأسلوب والمستوى، بل كان يخاطب كلاً منهم وفق مقامه وقدره، ولقد كان هذا واضحاً في رسائله صلى الله عليه وسلم للملوك والأمراء.ففي رسالته للنجاشي ملك الحبشة خاطبه قائلاً: (من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى..).
وكتب إلى المقوقس قائلاً: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط)).
وكتب إلى قيصر ملك الروم قائلاً: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين..) . واختار لحمل رسالته الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي، وكان جميل المنظر، حسن الهيئة، طيب الرائحة.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في هذا قائلاً: (أنزلوا الناس منازلهم).
_____________________
تواضع عظيم ينهض بهمم الضعفاء ويهذّب نفوس الكبراء :- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعان ما يصل إلى الآخرين وتملأ محبتُهُ قلوبَهم بتواضعه الجمّ الذي أدبه عليه ربُّ العالمين.
يقول الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 26/215].
وقال تعالى: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ} [المائدة: 5/54].
وهذا التواضع الذي يجعل من الإنسان قريباً من الآخرين لا بعد أن يتزين به كل مصلح ذكي وكل عاقل لبيب وكل داعية مخلص تاقت نفسه إلى ما عند الله تعالى فأسرعت جوارحه تاركة بصماتها في دنيا الناس مؤثرة تأثيراً يحبه الله ويرضاه.
فعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخَرَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نَقَصَت صدقةً من مالٍ، وما زادَ الله عبداً بعفوٍ إلا عزّاً، وما تواضعَ أحدٌ لله إلا رفعهُ الله) . وعن أنس رضي الله عنه أنه مرَّ على صبيانٍ فسلَّم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُه . وعن أنس رضي الله عنه قال: إن كانَتِ الأَمَةُ من إماءِ أهلِ المدينةِ لتأخذُ بيدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتنطلقُ به حيثُ شاءتْ.
وعن الأسود بن يزيد قال: سُئِلتْ عائشةُ رضي الله عنها: ما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصنعُ في بيتِه؟ قالت: كان يكونُ في مهنةِ أهلِهِ (يعني: خِدمةِ أهلهِ) فإذا حضرتِ الصلاةُ، خرجَ إلى الصلاة.
وعن أبي رِفاعة تميم بن أُسيد رضي الله عنه قال: انتهيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطبُ، فقلتُ: يا رسول الله، رجلٌ غريبٌ جاءَ يسألُ عن دينهِ لا يدري ما دينُهُ؟ فأقبلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وتركُ خُطْبتَهُ حتى انتهى إليَّ، فأُتيَ بكُرسيٍّ، فقعدَ عليه، وجَعَل يعلِّمني ممَّا علَّمهُ الله، ثم أتى خُطبتَه، فأتمَّ آخرها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعثَ اللهُ نبياً إلا رعى الغنم))، قال أصحابه: وأنت؟ فقال: (نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) . وصدق الشاعر إذ يقول:
________________________
تواضع إذا ما نلت في الناس رفعةً فإن رفيعَ القوم مَن يتواضعُ :- ولقد أعجبني ما سطره الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه القيم ((خلق المسلم)) حيث ذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلموأخلاقه وممارساته أثناء اتصاله بالآخرين، مما جعله أقرب الناس إلى صحابته وأحسن الناس تأثيراً في الآخرين، فكان مما قال:
وقد كان رسول الإسلام بين أصحابة مثلاً أعلى للخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: ((خياركم أحاسنكم أخلاقاً)) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفٍّ قط، ولا قال لشيء: لِمَ فعلتَ كذا؟ وهلاّ فعلت كذا!