نبذة:
أرسله الله ليهدي قومه ويدعوهم إلى عبادة الله، وكانوا قوما
ظالمين يأتون الفواحش ويعتدون على الغرباء وكانوا يأتون الرجال شهوة من دون
النساء فلما دعاهم لوط لترك المنكرات أرادوا أن يخرجوه هو وقومه فلم يؤمن
به غير بعض من آل بيته، أما امرأته فلم تؤمن ولما يئس لوط دعا الله أن
ينجيهم ويهلك المفسدين فجاءت له الملائكة وأخرجوا لوط ومن آمن به وأهلكوا
الآخرين بحجارة مسومة.
سيرته:
كَذَّبَتْ
قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ
أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (162) (الشعراء)
دعى لوط قومه إلى عبادة الله
وحده لا شريك له، ونهاهم عن كسب السيئات والفواحش. واصطدمت دعوته بقلوب
قاسية وأهواء مريضة ورفض متكبر. وكان القوم الذين بعث إليهم لوط يرتكبون
عددا كبيرا من الجرائم البشعة. كانوا يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق،
ويتواصون بالإثم، ولا يتناهون عن منكر، وقد زادوا في سجل جرائمهم جريمة لم
يسبقهم بها أحد من العالمين. كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء. قال
تعالى في سورة (النمل):
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
(55) (النمل)
لكن هذه القلوب القاسية جازت هذه النصيحة الصادقة
بالحكم على لوط وآله بالطرد من قريتهم.
فَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) (النمل)
إن المقاييس عند قوم
لوط اختلت.. فصار الرجال أهدافا مرغوبة بدلا من النساء، وصار النقاء
والطهر جريمة تستوجب الطرد.. كانوا مرضى يرفضون الشفاء ويقاومونه.. ولقد
كانت تصرفات قوم لوط تحزن قلب لوط.. كانوا يرتكبون جريمتهم علانية في
ناديهم.. وكانوا إذا دخل المدينة غريب أو مسافر أو ضيف لم ينقذه من أيديهم
أحد.. وكانوا يقولون للوط: استضف أنت النساء ودع لنا الرجال.. واستطارت
شهرتهم الوبيلة، وجاهدهم لوط جهادا عظيما، وأقام عليهم حجته، ومرت الأيام
والشهور والسنوات، وهو ماض في دعوته بغير أن يؤمن له أحد.. لم يؤمن به غير
أهل بيته.. حتى أهل بيته لم يؤمنوا به جميعا. كانت زوجته كافرة مثل زوجة
نوح.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ
وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) (التحريم)
واستطالت
السنوات ولم يؤمن به أحد، بل راحوا يهزءون برسالته ويقولون له فيما يقولون
(ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لما وقع هذا
يئس لوط منهم، ودعا الله أن ينصره ويهلك المفسدين.
خرج الملائكة من
عند إبراهيم قاصدين قرية لوط.. وصلوا ساعة العصر. بلغوا أسوار سدوم.. وابنة
لوط واقفة تملأ وعاءها من مياه النهر.. رفعت وجهها فشاهدتهم.. فسألها أحد
الملائكة: يا جارية.. هل من منزل؟
قالت [وهي تذكر قومها]: مكانكم لا
تدخلوا حتى أخبر أبي وآتيكم.. تركت وعاءها عند النهر وطارت مسرعة نحو
أبيها فأخبرته. فهرع لوط يجري نحو الغرباء. فلم يكد يراهم حتى (سِيءَ
بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) سألهم: من
أين جاءوا؟ .. وما هي وجهتهم؟.. فصمتوا عن إجابته. وسألوه أن يضيفهم..
استحى منهم وسار أمامهم قليلا ثم توقف والتفت إليهم يقول: لا أعلم على وجه
الأرض أخبث من أهل هذا البلد.
قال كلمته ليصرفهم عن المبيت في
القرية، غير أنهم غضوا النظر عن قوله ولم يعلقوا عليه، وعاد يسير معهم
ويلوي عنق الحديث ويقسره قسرا ويمضي به إلى أهل القرية -حدثهم أنهم خبثاء..
أنهم يخزون ضيوفهم.. حدثهم أنهم يفسدون في الأرض. وكان الصراع يجري داخله
محاولا التوفيق بين أمرين.. صرف ضيوفه عن المبيت في القرية دون إحراجهم،
وبغير إخلال بكرم الضيافة.. عبثا حاول إفهامهم والتلميح لهم أن يستمروا في
رحلتهم، دون نزول بهذه القرية.
كانوا ضيوفا في منتهى الغرابة..
ساروا صامتين معظم الوقت.. فلما رأى إصرارهم على المبيت في المدينة، سألهم
أن يمكثوا بهذا البستان حتى يأتي المغرب وتنزل العتمة على المدينة.. قال
لنفسه: آخذهم إلى البيت بعد أن يسقط الظلام فلا يراهم أحد من أهل القرية..
وأسلمهم خارج المدينة في الفجر.. كان حزينا.. ضيق الصدر.
سقط الليل
على المدينة.. صحب لوط ضيوفه إلى بيته.. لم يرهم من أهل المدينة أحد.. لم
تكد زوجته تشهد الضيوف حتى تسللت خارجة بغير أن تشعره. أسرعت إلى قومها
وأخبرتهم الخبر.. وانتشر الخبر مثل شرارة من الكهرباء.. وهرع قومه إليه..
قال تعالى:
وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ
بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ
قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ
اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78)
(هود)
ها قد تحققت نبوءة لوط.. بدأ اليوم العصيب.. (وَجَاءهُ
قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ).. جاءوا محمومين مسرعين.. تساءل لوط بينه
وبين نفسه: من الذي أخبرهم؟.. وتلفت باحثا عن زوجته فلم يرها.. وزاد حزنا
على حزن.. وقف القوم على باب البيت.. خرج إليهم لوط متعلقا بأمل أخير، وبدأ
بوعظهم:
(هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ).. ما الذي
تعنيه هذه العبارة؟ أراد أن يقول لهم: أمامكم النساء في الأرض.. هن أطهر
بمعاني الطهر النفسي والحسي.. هن يلبين الفطرة السوية.. ويثرن مشاعر كذلك
نظيفة.. ثم هن أطهر حسيا، حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا
طاهرا.
(فَاتَّقُواْ اللّهَ).. يلمس نفوسهم من جانب التقوى بعد أن
لمسها من جانب الفطرة.. اتقوا الله وتذكروا أن الله يسمع ويرى.. ويغضب
ويعاقب وأجدر بالعقلاء اتقاء غضبه.
(وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي)..
هي محاولة يائسة للمس نخوتهم وتقاليدهم. و ينبغي عليهم إكرام الضيف لا
فضحه.
(أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ).. أليس فيكم رجل عاقل؟..
إن ما تريدونه -لو تحقق- هو عين الجنون.. والعقل أولى بكم وأفضل.. إن الأمر
أمر رشد وسفه.. إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة ونخوة.
انتظر
قومه حتى فرغ من موعظته القصيرة وضجوا بالضحك.. لم تلمس كلماته الفطرة
المنحرفة المريضة، ولا القلب الجامد الميت، ولا العقل المريض الأحمق.. ظلت
الفورة الشاذة على اندفاعها المحموم.
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
(هود)
سقط في يد لوط.. أحس ضعفه وهو غريب بين القوم.. نازح إليهم من
بعيد بغير عشيرة تحميه، ولا أولاد ذكور يدافعون عنه.. دخل لوط غاضبا وأغلق
باب بيته.. وقف لوط يرتعد وراء الباب خجلا وحزنا وأسفا.. كان الغرباء
الذين استضافهم لوط يجلسون هادئين صامتين.. يحف بهم جو من الجلال.. ودهش
لوط بينه وبين نفسه من هدوئهم.. وزاد إحساسه بالألم لأنهم وثقوا به
واطمأنوا إليه.. لا يعرفون أنه غير قادر على حمايتهم.. وازدادت ضربات القوم
على الباب.. وصرخ لوط في لحظة يأس خانق:
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) (هود)
تمنى أن
تكون له قوة تصدهم عن ضيفه.. وتمنى لو كان له ركن شديد يحتمي فيه ويأوي
إليه.. غاب عن لوط في شدته وكربته أنه يأوي إلى ركن شديد.. ركن الله الذي
لا يتخلى عن أنبيائه وأوليائه.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو
يقرأ هذه الآية: "رحمة الله على لوط.. كان يأوي إلى ركن شديد".
عندما
بلغ الضيق ذروته.. وقال النبي كلمته فطارت مثل عصفور يائس.. تحرك ضيوفه
ونهضوا فجأة.. أفهموه أنه يأوي إلى ركن شديد:
قَالُواْ يَا لُوطُ
إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ
لا تجزع يا لوط ولا
تخف.. نحن من الملائكة.. ولن يصل إليك هؤلاء القوم.. انكسر الباب فجأة،
واندفع الإعصار المحموم داخل بين لوط.. نهض جبريل، عليه السلام، وأشار بيده
إشارة سريعة، ففقد القوم أبصارهم.. وراحوا يتخبطون داخل الجدران فخرجوا من
البيت وهم يظنون أنهم يدخلونه.. طمست إشارة جبريل عليه السلام أبصارهم..
قال تعالى:
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا
أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم
بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ (37) (القمر)
التفتت الملائكة إلى
لوط وأصدروا إليه أمرهم أن يصحب أهله أثناء الليل ويخرج.. سيسمعون أصواتا
مروعة تزلزل الجبال.. لا يلتفت منهم أحد.. كي لا يصيبه ما يصيب القوم.. أي
عذاب هذا؟.. هو عذاب من نوع غريب، يكفي لوقوعه بالمرء مجرد النظر إليه..
أفهموه أن امرأته كانت من الغابرين.. امرأته كافرة مثلهم وستلتفت خلفها
فيصيبها ما أصابهم.
اخرج يا لوط فقد جاء أمر ربك.. سأل لوط
الملائكة: أينزل الله العذاب بهم الآن.. أنبئوه أن موعدهم مع العذاب هو
الصبح.. (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)؟
قال تعالى:
قَالُواْ
يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) (هود)
خرج لوط مع
بناته وزوجته.. ساروا في الليل وغذوا السير.. واقترب الصبح.. كان لوط قد
ابتعد مع أهله.. ثم جاء أمر الله تعالى:
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا
جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن
سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) (هود)
قال العلماء: اقتلع جبريل، عليه
السلام، بطرف جناحه مدنهم السبع من قرارها البعيد.. رفعها جميعا إلى عنان
السماء حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم، قلب المدن السبع وهوى
بها في الأرض.. أثناء السقوط كانت السماء تمطرهم بحجارة من الجحيم.. حجارة
صلبة قوية يتبع بعضها بعضا، ومعلمة بأسمائهم، ومقدرة عليهم.. استمر الجحيم
يمطرهم.. وانتهى قوم لوط تماما.. لم يعد هناك أحد.. نكست المدن على
رؤوسها، وغارت في الأرض، حتى انفجر الماء من الأرض.. هلك قوم لوط ومحيت
مدنهم.
كان لوط يسمع أصوات مروعة.. وكان يحاذر أن يلتفت خلفه.. نظرت
زوجته نحو مصدر الصوت فانتهت.. تهرأ جسدها وتفتت مثل عمود ساقط من الملح..
قال تعالى عن مدن لوط:
فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ
الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) (الذاريات)
هي آية لم تندثر.. يؤكد ذلك
قوله تعالى:
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) (الحجر)
أي
بطريق مسلوك إلى الآن. وقوله تعالى في (الصافات):
وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (138) (الصافات)
يعني أنها آية ظاهرة.. قال العلماء: إن
مكان المدن السبع.. بحيرة غريبة.. ماؤها أجاج.. وكثافة الماء أعظم من
كثافة مياه البحر الملحة.. وفي هذه البحيرة صخور معدنية ذائبة.. توحي بأن
هذه الحجارة التي ضرب بها قوم لوط كانت شهبا مشعلة. يقال إن البحيرة
الحالية التي نعرفها باسم "البحر الميت" في فلسطين.. هي مدن قوم لوط
السابقة.
انطوت صفحة قوم لوط.. انمحت مدنهم وأسمائهم من الأرض..
سقطوا من ذاكرة الحياة والأحياء.. وطويت صفحة من صفحات الفساد.. وتوجه إلى
إبراهيم.. زار إبراهيم وقص عليه نبأ قومه.. وأدهشه أن إبراهيم كان يعلم..
ومضى لوط في دعوته إلى الله.. مثلما مضى الحليم الأواه المنيب إبراهيم في
دعوته إلى الله.. مضى الاثنان ينشران الإسلام في الأرض.