أزمة أخلاق
بقلم الدكتور :- سامي بن عبدالعزيز الماجد
أزمة الأخلاق أزمة مستفحلةٌ في مجتمعنا غائرة غوراً أصاب طبقات المجتمع كلَها ، حتى الطبقةَ المنصبغة بصبغة العلم والثقافة والأدب ، وصبغةِ الغنى والوجاهة، إلا من رحم الله، وقليل ماهم.
وكثيرون هم أولئك الذين يخالقون الناس بأخلاق نفعيةٍ ، محكومةٍ بالمصلحة حيناً ، ومفروضةٍ بالأعراف والتقاليد الاجتماعية حيناً آخر ، تدور مع المنفعة والمصلحة وجوداً وعدماً .. ولذا؛ إذا أردت أن تسبُر أخلاق الرجل وتضعها على المحك، فلا تعتبرها في معاملته مع معارفه ، ممن تربطه به علاقة اجتماعية أو مصلحة نفعية ، ولكن تحسّسْها في تعامله مع غيرهم ممن لا يعرفهم ولا تربطه بهم علاقة اجتماعية أو نفعية .. فهذا محك صادق يكشف لك زيف النفاق الاجتماعي الذي كنا نظن أنه أخلاق مطبوعة مطردة.
_____________________________________
ربما ساقك القدر إلى أحدهم لحاجةٍ تُقضى بيده ، فتجد منه الفظاظة والغلظة والنزق وقلة الاحترام وعدم المبالاة ؛ حتى إذا عرَّفته بنفسك ، وذكّرته بما بينكما من علاقة اجتماعية مفروضةٍ ، أو مصلحةٍ مشاعة ، اضطرب وتأسف وسأل العفو عما بدر ، وقال لك بنبرة تنكرها منه ، فيها التودد والتلطف وحسن الأدب والخطاب: عفواً! لم أعرفك؟!! فماذا عسى أن تكون هذه الصبغة من الأخلاق إن لم تكن ضرباً من النفاق الاجتماعي ، الذي يطبع الرجل على وجهين من الأخلاق ، فخلقٌ حسنٌ يخصه لمعارفه ومن تربطه بهم منفعة، وخلق سيء يجعله خالصاً لغيرهم ممن لا يعرفه، ولا يرتجي منه مصلحة.
_____________________________________
هذه صورة نتنة من أزمة الأخلاق التي نعانيها ، وللأزمة صورٌ أخرى كثيرة ، تدل على أن فقه الأخلاق الذي تشبعنا منه تنظيراً لم يتبعه تطبيق واقعي... انظر –مثلاً- إلى أدبنا في حوارنا مع المخالف ، على أي مسألة كان الخلاف ، فإنك لواجد فيه أموراً منكَرةً تدلك على تجذّر أزمة الأخلاق في مجتمعاتنا ، يبدأ حواراً ، ثم يؤول تعالماً وفجوراً في الخصومة ، وسوءَ أدب مع أهل الأقدار ، وتشهيراً ولمزاً بالأعيان، واستخفافاً بالمخالف وتحقيراً ، وتكاد تغيب لغة العقل والمنطق والدليل مع هذا التهارش والإسفاف والتعالم ، يبدأ الحوار نقداً في الرأي فينتهي بنقد قائله وتعييره بخِلقته التي لا يد له فيها ولا اختيار، وأكثر ما تجد هذا فيمن ينادي بالحرية ، وبقبول الآخر واحترامه، وبثقافة التعدد ، فإذا هو أول من يخفَق في ظلها ، وأولُ من يجتوي جوَّها.
_____________________________________
ومن أخطر صور الأزمة وبخاصة في هذا العصر :- عصر الاتصالات والإعلام :- تتبع عورات الناس بالتحسس والتجسس ، والتشهير والفضح .. وأصبحت كثير من المجالس تمارس تتبع عورات الناس بقصد وبغير قصد ، بل وأحياناً بحسن نيةٍ وبدافع الغيرة ؛ كما يزعم أصحابها .. وتشعرُ بمبلغ خطورة هذا الامر حين تجد وسائل الإعلام وبخاصة الصحافة تمارس دوراً كبيراً في هذا الشانئ القبيح ، ليس احتساباً ، ولكن طمعاً في السبْق الصحفي وقصداً إلى الإثارة، وأقبح به من سبْقٍ إلى غضب الله، وأقبحْ بها من إثارة تثير غضبه سبحانه؟!
وإذا كنا نغار على حدود الله أن تُنتَهكَ فلزامٌ علينا أن نكف عن التجسس والتحسس وتتبعِ عورات الناس في بيوتهم وخلواتهم حتى ولو بحجة الاحتساب بإنكار المنكر، فإن ذلك من انتهاك حدود الله الذي توجب علينا الغيرة أن نكف عنه. ولِزامٌ علينا -ونحن نزعم الغيرةَ على حدود الله- أن نعلن النكير على من يتخذ شعيرة الاحتساب على المنكرات ذريعةً لتتبّعِ عوراتِ الناس والتشهيِر بما أسرّوا به من المنكرات. فلا يجوز بحالٍ السكوتُ عن هذا المنكر بدعوى أن صاحبه من المحتسبين الذين يذبّون عن حرمات الله ويقيمون حدوده. فإن الإصلاح لا يكون بما يخالف الشرع، والمصلحة لا تؤتى من باب المفسدة، وإزالة المنكر لا يكون بالمنكر.
_____________________________________
وإذا كنا نزعم محبة الله فإن الله يقول:- ( يا أيها الذين امنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ) .. وإذا كنا نزعم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: "لا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ المسلمين؛ فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ويَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ " ويقول صلى الله عليه وسلم: "إنَّكَ إنْ تَتَبَّعْت عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ " أَيْ قَارَبْت " تُفْسِدُهُمْ " فَيَزُولُ خَوْفُهُمْ ويحصل منهم الْإِصْرَارُ وَالْإِعْلَانُ .
والإسلام يذهب في هذا الشأن مذهباً أبعد من مجرد النهي عن التجسس وتتبع العورات ، فقد حث على الستر على العصاة غير المجاهرين ؛ لأن ذلك أدعى لهم أن يسارعوا بالتوبة ، وألا يجاهروا بها ، وصاحب المعصية إذا افتُضح وشهر بما كان به مستتراً مستخفياً لم يبالِ بعد ذلك أن يجاهر بمعصيته ويصرَّ عليها، وفي ذلك ظهور للمنكر في المجتمع.
على أن المسألة برمّتها خاصة بمن استتر بستر الله ، فاستخفى بمعاصيه ولم يجاهر بها ، ولم يكن فيها انتهاك لعِرضٍ ولا اعتداء على أحد ، أما من جاهر بمعصيته واظهر المنكر ونشره بين الناس، فلا حرمة له فيما جاهر به، والكلام عنه في ذلك ليس من الغيبة المحرمة، وحق هذا الذي اظهر المنكر أن يُجهر بالإنكار عليه تحذيرا للناس من شره، وإنكاراً للمنكر المعلن. والقاعدة أن من أعلن لنا المنكر أعلنا له الإنكار. أما أن يعلن المنكر ثم يطالبنا بالإنكار في السر فهذا مكر وحيلة في حماية باطله، والناس إذا رأوا المنكرَ لم يُنكر حسِبوه معروفاً وظنوه حقاً.