العطاء (2)
مشعل عبد العزيز الفلاحي
عرضت في الجزء الأول من هذا المقال كلمة الزوجة الكبيرة خديجة رضي الله عنها في وصف زوجها محمد صلى الله عليه وسلم بقولها :- ( كلا ، والله لا يخزيك الله أبداً .. إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق " وقد وقفت هناك مبهوراً من وصف بهذا الحجم لم يكن مزوراً في قلب من تحدث به من قبل ، وإنما عرض الواقع في لحظة كأصدق ما يكون ..
إن خديجة رضي الله عنها عرضت وصفاً دقيقاً للعطاء عند محمد صلى عليه وسلم عرضت رجلاً يتدفّق حباً وصلة لرحمه وأهله ، وعرضت رجلاً يحمل الضعفاء ويعين البؤساء ، وعرضت رجلاً كريماً في بيته ، مضيافاً لكل هاتف بالقِرَى ، واختتمت وصفها له بالعون على نوائب الحق لكل ملهوث في الأرض ... فو الله لو لم تقل إلا هذه الكلمة الأخيرة لكانت وسماً رائعاً في حياته صلى الله عليه وسلم فكيف وقد تآزرت هذه الصفات مجتمعة في شخصه صلى الله عليه وسلم ؟!
وإنني سأتجاوز كل ما قالت خديجة رضي الله عنها في مقالتها التي دونتها عقداً فريداً في سيرة من تحب ، وسأذهب أقلّب صفحات الحبيب صلى الله عليه وسلم متلمساً للعطاء في حياته . . باحثاً عن ذات المعنى الذي شهدت به الزوجة وهي تعيش حياتها مع زوجها الكبير ..
إن العطاء الذي كان يتمثله النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حبيس مفهوم واحد فحسب ، وإنما ضرب في كل طريق كبير بسهم ، وإذا تحدثنا عن العطاء في المال إنما نتحدث عن صور تحتاج إلى تأمل في سيرة ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، حدّث صلى الله عليه وسلم صاحبه أبا ذر رضي الله عنه بأمنية تتطلّع إليها نفسه صلى الله عليه وسلم ، ولحظات تتوق نفسه إلى عيشها واقعاً في حياته حين قال صلى الله عليه وسلم :- ( يا أبا ذر : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً ، تمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا شيئاً أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ، عن يمينه ، وشماله وخلفه ) وإني والله أعجز من أن أبين عن حجم هذه الأمنية في قلب هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم . ولئن قال لأبي ذر أمنيته ، وفتح له سره ، فإن ابن عباس رضي الله عنه يحكي تلك الصورة التطبيقية لما قال على أبي ذر حين قال :- ( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ) .. ووالله لو لم يكن في قيمة العطاء ا لتي كان يعيشها النبي صلى الله عليه وسلم إلا قول خادمه أنس رضي الله عنه :- ( ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أعطاه ) لكان كافياً في طي كل حرف يأتي بعد ذلك مهما كان رائعاً جميلاً ..!
إن عطاء المال مسألة ليست باليسيرة ، وإن إنساناً يقدم على هذا العطاء بهذه الروح لهو إنسان كبير بحق ، فكيف إذا تبيّن لك أن المال لم يكن كل شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان بعضاً من كثير .
لقد برز صلى الله عليه وسلم لعامة الناس فكان يستقبلهم ، ويقف معهم ويحل مشكلاتهم حتى قالت عائشة رضي الله عنه تحكي هذا العطاء بعد زمن عريض من حياة ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تقول :- ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته جالساً بعدما حطمه الناس )
كان صلى الله عليه وسلم لا يرد من دعاه في شيء ، كانت الأمة تخرجه إلى طرقات المدينة تحكي له ظروفها ومعاناتها وحياتها ومشكلاتها ولا يجد غضاضة أن يشارك امرأة من عامة الناس تحتاجه كما يحتاجه الكبار لا فرق ، كذات اللحظة التي هرع إليه فيها مغيث طالباً منه الشفاعة في عود زوجه بريرة إليه فيقوم صلى الله عليه وسلم ويتتبع بريرة ويعرض لها شفاعته في مغيث فتقول يارسول شافع أو آمر ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم :- ( بل شافع ) .. فتقول :- لا حاجة لي به .
وهاجه خبر وفاة الأمة التي كانت تقم المسجد فاستقطع لها بعضاً من وقته وذهب إلى قبرها وصلى عليها وفاء لها وعرفاناً بدورها .
ويذهب مرة يتخطى البيوت ويقطع الطرقات ، ويدخل بيت بعض صحابته لأنه لم يعد قادراً على حضور المسجد للصلاة فيه .
وظل زمناً من حياته يستقبل الصغار فيضعهم في حجرة ويحنكهم ويدعو لهم ويحتمل من أجل إدخال السرور على صحابته ما يمكن أن يكون كبيراً على فئام من الرجال . هذا كله ولم يكن يترك مريضاً لم يعده ، ولا جنازة لم يشيع صاحبها ، وظلت هذه النفس الكريمة تستوعب كل ذلك غير شاكية من موقف أو متألمة من لقاء ، وظل العطاء معنى يرزح في صدره صلى الله عليه وسلم يفيض لآلام الناس ، ويحزن لمصابهم ، ويقلق لقلقهم ، ويسعد ويفرح ويسر حين يقف على بعض هذه المعاني عند إنسان .
إنني أكتب عن هذه المواقف مما علق في الذاكرة فحسب .. وتركت أشياء يجدها الإنسان في مواقف أخرى أكثر تأثيراً وأعمق أثراً ، وحسبي أنني بذلك أفتح نافذة في بناء عريض .
وإذا أردنا أن نكون كباراً بحق فعلينا أن ندرك أن المعنى العريض لحياة إنسان ليس ملأ بطنه من عشاء أو سد شهوته من عطاء .. كلا .. وإنما المعنى الذي يتحوّل فيه الإنسان من إنسان أقصى ما يراه أصابع قدميه إلى إنسان يعيش مسروراً في الأرض بقدر قضاء حوائج الناس وتفريج همومهم .. وإنها والله الحياة .. فوالهفاه على هذا المعنى الكبير حين يفقد في لحظة .. وواشوقاه إلى حياة الكبار في كل لحظة .. !