الوطنية .. الإنتقال من الغزيرة إلى العقل ..
بقلم د :- عبد الكريم بكار
مفهوم الوطن من أكبر المفاهيم التي تتغلغل في طبقات وجودنا غير الواعي. ويبدو أنه راسخ في التراث الجيني للبشرية، كما أنه كذلك بالنسبة إلى الحيوان.
المجال الحيوي الذي يرسمه كل واحد منا لنفسه، يعمق مفهوم الوطن واقتحام ذلك المجال يثير فينا مشاعر عدوانية لا يثيرها أي تصرف آخر. الأعلام والرايات التي ترفعها الدول فوق أراضيها تحمل معنى الاختصاص بمكان والتمسك به والذود عنه. وللمكان عبقريته الفذة القادرة على توليد ما لا يحصى من المشاعر والمفاهيم والخلفيات المشتركة بين كل أولئك الذين يقطنون فيه، ومنها جميعاً تتشكّل معاني (المواطنة) على نحو مبهم وغير مرئي.
ولعلي أقف مع مسألة الوطنية الوقفات التالية:-
1- الوطنية ذلك المعنى النبيل شيء أسمى من الحضور في مكان والانتماء إليه؛ إنها كيان معنوي يبنيها الأفراد الصالحون من خلال التضحيات التي يقدمونها من أجل صلاح المجموع وسلامتهم وكرامتهم. وهذه التضحيات تتعاظم لتبلغ حد التضحية بالحياة نفسها؛ ولذا فإن (الشهيد) يمثل رأس الهرم في البناء الوطني، ولن يكون المواطن صالحاً إلا إذا حمل بين جوانحه معنى من معاني الشهادة، والتي تمثل قمة العطاء غير المحدود، وغير المشروط. والذين لا توحي إليهم (الوطنية) بمعنى من هذا القبيل يشكلون عبئاً على أوطانهم.
2- حب الوطن والساكنين فيه ومناصرتهم، غريزة لدى الإنسان، يندفع للعمل بمقتضاها دون وعي منه؛ لكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس بعضهم مع بعض، يولِّد في حد ذاته توترات كثيرة بسبب ضعف المفاهيم الجامعة، وتصادم المصالح وانتهاك الفضاءات الخاصة. وهذا يعني أن على أبناء كل وطن أن يبحثوا عن صيغة للتعايش إذا ما أرادوا تحقيق درجة من التقدم الحضاري. وهذه الصيغة لا يمكن لها أن تنشأ من غير توفير الحد الأدنى من القيم المشتركة والفهم المتبادل. وهذا من جهته يتطلب أن ننمي في العقلية الجماعية رؤية واضحة لمعطيات الواقع وآفاق المستقبل. إن ما لدينا من غرائز ودوافع فطرية، يظل كافياً لتوجيه وتنظيم أوضاعنا البدائية، مما هو على شاكلة النمو والتكاثر والحد الأدنى من البقاء؛ لكن الإنسان الذي كرّمه الله -تعالى- وجعل منه خليفة ومتعه بالخيال والطموح والإرادة الحرة -لا يستطيع أن يحيا بكامل خصائصه، كما لا يستطيع توفير كل حاجاته إذا ما خضع للدوافع الغريزية، بل عليه دائماً أن يتخذ قرارات صعبة وشاقة، ومن تلك القرارات تنبثق إنسانيته حيث تنشط دوافعه العدوانية في ظل نظم قيمية تكسر حدتها، وتجعلها جزءاً من حياة طيبة متوازنة تُلبي فيها الرغبات في إطار من المشروعية والتعاون والتضامن الأهلي.
3- على مدار التاريخ، وفي كل مكان من الأرض ظلَّت (الوطنية) تعاني من معضلتين اثنتين، هما: فوضى المشاعر، وعدوان الطموحات غير المحدودة. ونجد في سياق المعضلة الأولى أن سعي الكائنات الحية -بدءاً بالفيروس وانتهاء بالإنسان إلى المزيد من الاستقلال- قد أجَّج مشاعر الأنانية. والبحث عن الخلاص الشخصي لدى كثير من الناس بعيداً عن التفكير في شجون الآخرين. وجاءت (العولمة) لتعزز هذه النزعة، فهي تزيد في مشاعر الفردية، وتدمر أحاسيس التعاون والانتماء بما تمارسه من خلع للفرد من أسرته، وللأسرة من المجتمع، وللمجتمع من أمته الكبرى. وهذا ما أشاع في الناس هواجس الخوف من المستقبل.
ونجد إلى جانب هذا مشاعر الولاء المتطرف للوطن والتعلق بكل ما فيه، والحرص الشديد على عدم مغادرته مهما كان الثمن، ومشايعة أهله على الحق والباطل. وقد تضخم ذلك عند بعض الشعوب، حتى أفرز حركات قومية وعنصرية (النازية نموذجاً) غاية في التطرف وتمجيد الذات واحتقار الآخرين. وهي تطل برأسها من جديد اليوم في أكثر دول العالم إحرازاً للتقدم التقني. وهذا كله يتم بدافع من الغريزة، بعيداً عن موازين الحق والعقل. وقد قال الشاعر العربي قديماً:-
وهل أنا إلا من غُزيَّة إن غوت …غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
وقال الآخر:-
إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم …على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم
إن مجال الوجدان يستعصي أكثر من أي مجال آخر على سلطان العقل؛ مما يجعل الفوضى والاختلال من سماته الأساسية.
الإسلام وقضية الولاء :- حين جاء الإسلام رشّد قضية الولاء للوطن ومشايعة أهله في جملة ما رشّد من شؤون الحياة. ونجد في هذا الصدد أن الله -تعالى- أخذ على المنافقين أنهم متشبثون بالإقامة في أوطانهم إلى حد عصيان أمر الله، حيث يقول: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً" سورة النساء:66، وذكر أنه قد يكون في مغادرة الأوطان والهجرة في سبيل الله سعة في الرزق وإرغام للعدو: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً" سورة النساء: من الآية100
وفي الحديث الصحيح :- "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومًا؛ أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: "تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره". وقد كان من جملة بنود الوثيقة التي أنجزها النبي -صلى الله عليه وسلم- لتنظيم العلاقة مع اليهود في المدينة نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم. إنها صياغة جديدة للمشاعر والمواقف وردود الأفعال.
المعضلة الثانية :- التي أضرت بالمشاعر الوطنية هي الطموحات الجامحة لدى كثير من الناس، والتي تدفع على نحو صارخ إلى اختراق المجال الخاص للآخرين والعدوان على حقوقهم وحرمانهم من فرص الترقي الاجتماعي والاقتصادي. إن الشعور بالواجب تجاه حقوق الوطن والمواطنين، لا يتولد لدى المرء إلا إذا شعر بشرف الانتماء لذلك الوطن، وهذا من جهته لا يتوفر إلا إذا أحسَّ الناس بأنهم ينالون ما يستحقونه دون عناء. وقد قال أحدهم: لماذا أدافع عن وطن لم يطعمني من جوع، ولم يؤمِّني من خوف"؟!
انخفاض سوية الالتزام لدى كثيرين منا بالإضافة إلى أزمة ( قصور المفاهيم ) التي نعاني منها على أكثر من صعيد -يجعل الشأن العام بعيدًا عن بؤرة الاهتمام-.
ويبدو أن ما أحرزه الفرد من وعي أعلى بكثير مما أحرزه المجتمع، مما يجعله يندفع نحو أهداف وغايات غامضة، ويجعل نمو المعاني والمفاهيم الجمعية بطيئًا.
لا يمكن توليد مشاعر وطنية صادقة من غير توفر كتلة حرجة من النماذج الخيرة التي تعلم الناس بسلوكها معاني الاستقامة والتضحية، ومن غير امتلاك شفافية جديدة نحو العدل
(بكل مستوياته ومظاهره) ومن غير مراقبة جيدة لاستثمار التفوق حتى يظل ضمن أطر مشروعة، وإلى أن يتم ذلك، فإن لنا أن نتوقع الكثير من أنماط الإساءة للمعاني الوطنية، والمزيد من الاستغلال الجائر لها.