في ظلّ ما يُصيب المسلمين من ابتلاءات ومحن تعظّم حاجتنا إلى حسن الظنّ بالله جلّ وعلا، فقد حلّت أمور لا ترفع شكايتها إلاّ إلى الله عالم السرّ والنّجوى وكاشف الكرب والبلوى.
روى ابن أبي الدنيا في كتابه حسن الظن بالله عن يوسف بن إسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: ''وأحسنوا إنّ الله يحبّ المحسنين'' قال: أحسنوا بالله الظنّ . وروى أيضاً أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: ''والّذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله عزّ وجلّ، والّذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عزّ وجلّ الظنّ إلاّ أعطاه الله عزّ وجلّ ظنّه، ذلك بأن الخير في يده..''.
قال الله جلّ وعلا: ''ولَنَبْلُوَنَّكُم بشيء من الخوفِ والجوع ونقصٍ من الأموال والأنْفُس والثّمرات وبَشِّرِ الصّابرين الّذين إذا أصابَتهُم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أولئك عليهم صلواتٌ من ربِّهم ورحمة، وأولئك هم المُهتدون''.
إنّ المتدبِّر لكتاب الله ولسنّة سيّد المرسلين وقصص السابقين والصّالحين يعلم يقيناً أن الشّدائد مهما تعاظمت واشتَدّت فإنها لا تدوم، بل إنها أقوى ما تكون اشتداداً واسوداداً هي أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجاً.
قال جلّ وعلا: ''سيجْعَل الله مِن بَعْدِ عُسرٍ يُسْراً}. وروى أبو داود في سننه من حديث خُباب رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسِّد بردة في ظلّ الكعبة فشكونا إليه فقلنا ألا تستنصر لنا ألاّ تدعو الله لنا فجلس محمراً وجهه فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثمّ يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله لَيُتَمَنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلاّ الله تعالى والذئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون''.
ولقد أسلم الصحابة رضي الله عنهم في مكة، فخسروا بإسلامهم -في أول الأمر- المال والعشيرة، وصاروا منبوذين مطرودين، حتّى سامهم المشركون سوء العذاب، مع أنهم كانوا على الحق المبيّن.
وكان من ذلك حصارهم للمسلمين في شعب بني هاشم، لم يحاصروهم يوماً أو أسبوعاً أو شهراً، بل حاصروهم ثلاث سنين، يمنعون عنهم الطعام والشراب، حتّى إنهم أكلوا أوراق الشجر وجلود الميتة، وكان عاقبة الأمر أن ملكوا الدنيا شرقاً وغرباً.
قال الله تعالى: ''أمْ حَسِبْتُم أن تَدْخُلوا الجنّة ولَمَّا يأتِكُم مَثلُ الّذين خَلَوْا مِن قبلِكُم مَسَّتْهُم البأساءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلوا حتَّى يقولَ الرّسولُ والّذين آمنوا معهُ متَى نصرُ الله ألاَ إنّ نصرَ اللهِ قريبٌ''. لأن يبتلى العبد بكل ذنب سوى الشِّرك خير له من أن يسيء الظنّ بربِّه ومولاه، ومتى أحسن العبد ظنَّه بربِّه فرَّج الله عنه.
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي مسلم الخولاني رحمه الله: إنّ أبا مسلم هذا كان من الصالحين العُبّاد، اشتكت إليه زوجته الفقر الّذي هو فيه، وأنه لا دقيق تصنع منه خبزاً، قال لها: هل في البيت مال؟ قالت: دينار واحد، قال: أعطني إيّاه أشتري لكم به دقيق، وخرج إلى السوق ليشتري بهذا الدينار دقيقاً، ولمّا وصل إلى السوق قبل أن يشتري الدقيق، جاءه رجل سائل عليه المسكنة ظاهرة بادية، فأعطى أبو مسلم السائل الدينار ولم يبق في يديه شيء، لم يبق في يديه إلاّ الكيس الّذي خرج به من بيته ليشتري ويضع فيه الدقيق، فعمد إلى صاحب الخشب ونجارة فأخذ نجارة الخشب وملأ بها الكيس وحمله على ظهره وعاد إلى بيته، فلمّا عاد إلى بيته وضعه بين يدي امرأته وتنحى في غرفة أخرى ينتظر قدر الله، وما هي إلا بُرهة فإذا بالمرأة تأتي له بالخبز!.. فقال لها: من أين الدقيق؟ قالت: سبحان الله، من الكيس الّذي أتيت به. فسكت وأخذ يأكل وهو يبكي.
*إمام مسجد سيّدي بومدين
العُبَّاد - تلمسان