الحمد لله
أولاً :
جريمة الزنا سواء كانت عن تراضٍ أو بالاغتصاب فهي تثبت بالإقرار والاعتراف أو بالبينة وشهادة الشهود ، ومما يشترط في الشهود أن يكونوا أربعة من الرجال .
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) النور/4
ولا تصح شهادة النساء في ذلك مراعاة لطبيعة النساء وما جبلن عليه من الضعف واحترار العاطفة والشعور ورهافة الحس ورقة الطبع .
قال ابن قدامة في "المغني" (10/170) في شروط شهود واقعة الزنا :
" أن يكونوا أربعة وهذا إجماع ليس فيه اختلاف بين أهل العلم لقول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) .
وقال تعالى : ( لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) .
وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : " أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتى بأربعة شهداء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم ) " رواه مالك في " الموطأ "و أبو داود في سننه .
الشرط الثاني : أن يكونوا رجالاً كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ، ولا نعلم فيه خلافًا إلا شيئًا يروى عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال و امرأتان ، وهو قول شاذ لا يعول عليه ؛ لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكورين ، ويقتضي أن يكتفى فيه بأربعة ، ولا خلاف في أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء أنه لا يكتفى بهم ، وأن أقل ما يجزئ خمسة وهذا خلاف النص ، ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن ، قال الله تعالى : ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ) والحدود تدرأ بالشبهات " انتهى .
ولمزيد من التفصيل يمكنكم مراجعة السؤال رقم (114877) .
ثانيًا : اشتراط الشهود الأربعة في حد الزنا هو تأكيد لمزيد من الاحتياط في صيانة الأعراض ، كي لا يتساهل الناس في القذف والطعن في الشرف ، ولا تتسارع الألسنة في هتك الأعراض ونشر الفحش والتشكيك في الأنساب وإلحاق المعرة بالشرفاء .
قال الماوردي رحمه الله في " الحاوي" (13/226 ) :
" الشهادات تتغلظ بتغليظ المشهود فيه ، فلما كان الزنا واللواط من أغلظ الفواحش المحظورة وآخرها ، كانت الشهادة فيه أغلظ : ليكون أستر للمحارم ، وأنفى للمعرة " انتهى .
ثالثًا : ليس مطلوبًا من المسلم أن يتتبع عورات الناس وأن يتجسس على خصوصياتهم حتى يثبت جريمة الزنا ، بل قد ورد النهي عن التجسس في الكتاب والسنة .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ) الحجرات /12.
وعَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا إِخْوَانًا ) .
رواه البخاري ( 4849 ) ومسلم ( 2563) .
ولمزيد من التفصيل يمكنكم مراجعة السؤال رقم (99738) .
فلا يجوز للحاكم أو غيره أن يتجسس على الناس وأن يتتبع عوراتهم حتى يثبت الجريمة ، لكن إن رأى منكرًا غيره بغير تنقيب عنه .
قال إمام الحرمين : " ليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون ، بل إن عثَر على منكر غيَّره جهدَه " انتهى من "شرح صحيح مسلم" للنووي ( 2 / 26) .
رابعًا : رغم أن الأصل في التجسس المنع والتحريم ، لكن إذا علم المحتسب ، أو غلب على ظنه : أن ثم جريمة يمكن الحيلولة دون وقوعها ، وإذا تأخر فسوف يفوت استدراكها ، كقتل بريء أو اغتصاب فتاة ، فمصلحة حفظ نفس من التعرض للقتل ، أو منع وقوع المنكر إذا ظهرت علاماته ، وبدت بوادره ، مقدمة على مفسدة التجسس على الآخرين .
قال الماوردي : " ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يَظهر من المحرمات ، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت : فذلك ضربان :
أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ، ويقدم على الكشف والبحث ، حذراً من فوات ما لا يستدرك ، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة : جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار .
الضرب الثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز التجسس عليه ، ولا كشف الأستار عنه ، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار : لم يهجم عليها بالدخول ، لأن المنكر ظاهر ، وليس عليه أن يكشف عن الباطن " انتهى من "شرح صحيح مسلم" للنووي ( 2 / 26) .
خامسًا : إذا رأيت جريمة الزنا فلست مطالبًا بالاتصال بمن يأتي ليكون شاهدًا عليها ، لكن إن كان الواقع في هذه الجريمة مستترًا قد غلبته شهوته وترجى توبته ، فالأولى ستره وعدم فضحه إلا لمصلحة راجحة ، أما إن كان مجاهرًا مجترئًا على الفواحش فالأولى فضحه وتسليمه للحاكم إن توفر الشهود الأربعة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " ( 12 / 124 - 125 ) عند حديثه عن قضية الصحابي ماعز الذي أقر على نفسه بالزنى وأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليه :
" ويؤخذ من قضيته : أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ، ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز .
وأن مَن اطلع على ذلك : يستر عليه بما ذكرنا ، ولا يفضحه ، ولا يرفعه إلى الإمام ، كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة : ( لو سترته بثوبك لكان خيراً لك ) ، وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه ، فقال : أُحبُّ لمَن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب ، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر.
وقال ابن العربي : هذا كله في غير المجاهر ، فأما إذا كان متظاهراً بالفاحشة مجاهراً ، فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره " انتهى .
سادسًا : في أحكام جريمة الزنا راعت الشريعة الإسلامية حفظ الأعراض والدماء بالتشديد في إثبات الجريمة ، كما راعت حفظ الدين والأخلاق وحق المجتمع بالتشديد في العقوبة برجم الزاني المحصن ، وجلد غير المحصن وتغريبه ، مع العلنية في تنفيذ العقوبة لمزيد من الاتعاظ والردع ، وهذا من محاسن الشريعة وكمالها وتمامها .
ولذلك يصعب أن تثبت جريمة الزنا بشهادة الشهود إلا في حق فاجر مجاهر بالفاحشة مستخف بالحرمات يمارس الزنا علنًا بحيث يراه أربعة من الرجال رؤية عينية لا ريب فيها ، وهذا لا يحدث عادة إلا في مجتمعات متهتكة فاسقة يفشو فيها الفجور والرذيلة وتشيع فيها الفواحش والموبقات بلا إنكار ولا تثريب ، كما قد يحدث في بلاد الكفار ، نسأل الله السلامة والعافية .
أما في المجتمعات الإسلامية فلا تكاد تثبت جريمة الزنا إلا بالإقرار والاعتراف ؛ لأن طبيعة هذه المجتمعات في العادة لا تفرز هذا النوع من الانحلال والتهتك الذي يسمح لفاجر بالمجاهرة بجريمة كالزنا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " منهاج السنة النبوية " (6/95) :
" والشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حد ، وما أعرف حدًا أقيم بها ، وإنما تقام الحدود إما باعتراف وإما بحبل " انتهى .
والله أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب