إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ، وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم
صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه
أجْمَعينْ ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم
تسْليمَاً كَثيراً .. أمْا بَعد ...
رمضان وعبادة السر
عبادة السر هي
العبادة التي تكون خالصة لله تعالى وحده, بعيدة كل البعد عن الرياء
والسمعة, وهذا ما يعلمنا إياه الصوم, فهو يربي النفوس على التقوى
والإخلاص, وحسن المراقبة والخشية من الله تعالى وحده, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة: 183]
لذا فقد جعل الله تعالى أجر الصوم منه وحده فلا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا حاسب غير الله فيحسبه, عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبِى سَعِيدٍ رضي الله عنهما قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ إِنَّ الصَّوْمَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ.
إِنَّ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَيْنِ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِىَ
اللَّهَ فَرِحَ. وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ
الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) (أخرجه أحمد 2/232، ومسلم 3/158). قال المناوي:
"أجزي به صاحبه جزاء كثيراً، وأتولى الجزاء عليه بنفسي فلا أكله إلى ملك
مقرب ولا غيره لأنه سرّ بيني وبين عبدي، لأنه لما كف نفسه عن شهواتها جوزي
بتولي الله سبحانه إحسانه". (فيض القدير 4/250).
وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان:
أحدهما: أن الصيام لماّ كان سراً بين العبد وربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويُعرفون بصيامهم بين الناس جزاءً لإخفائهم صيامهم في الدنيا. قال مكحول: "يُروّح على أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحاً منذ دخلنا الجنة أطيب من هذا الريح فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام.
فالعبادات كلها تستطيع إثباتها والتدليل عليها خلا الصوم,
فلو أقسمت على أن فلانا قد صلى, فقلنا لك: ما الدليل على ذلك؟. قلت: كان
بجواري في الصف, ساعتها نقول لك: صدقت, ولو أقسمت على أن فلاناً قد دفع
الزكاة من ماله للفقراء والمحتاجين, فقلنا لك: وكيف عرفت؟ فقلت: رأيته
بعيني, لقلنا لك: صدقت, ولو قلت: إن فلاناً قد حج إلى بيت الله الحرام
وأدى المناسك, فطالبناك بالدليل, فقلت: كان معي, لقلنا لك: صدقت.. وهكذا
في سائر العبادات. أما إذا أقسمت على أن فلاناً قد صام فقلنا لك: ما
دليلك؟ صعب عليك إثبات ذلك, فمن أدراك أنه صائم؟ لذا كان الصوم لله وحده
لا يعرف أمره ولا سره إلا من أطلع على أسرار النفوس وخبايا الصدور.
وعَنْ صَفْوَانَ، عَن أَبي سَعِيد، عَنِ النبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ صَامَ يَومًا فِي سَبِيلِ الله، عَز وَجَل، بَاعَدَ الله وَجْهَهُ مِنْ جَهَنمَ سَبْعِينَ عَامًا). (أخرجه أحمد 3/45. والنسائي 4/173).
فعلى الرغم أن الله تعالى قال في محكم تنزيله: ﴿قُلْ
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ﴾ [سورة الأنعام: 163] إلا أن الصوم له خصوصية عبادة السر التي لا يطلع عليها إلا رب العزة تبارك وتعالى. فالله تعالى
يريد من عباده أن يجعلوا عبادتهم ونسكهم خالصة له تعالى وحده حتى تُقبل,
وفي الحديث المرسل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَقِفُ الْمَوْقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللهِ، وَأُرِيدُ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَتْ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]. (البيهقي: شعب الإيمان 5/341).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ
إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِىَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ،
فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَرَجُلٌ قُتِلَ
فِى سَبِيلِ اللهِ
وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ أَلَمْ
أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ
فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ قَالَ كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ
وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ بَلْ
أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ فُلاَنًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ
عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا
رَبِّ. قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ
الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ
الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ
يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ. وَيُؤْتَى بِالَّذِى قُتِلَ
فِى سَبِيلِ اللهِ
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ فِى مَاذَا قُتِلْتَ فَيَقُولُ أُمِرْتُ
بِالْجِهَادِ فِى سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ
وَيَقُولُ اللَّهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَرِىءٌ فَقَدْ
قِيلَ ذَاكَ. ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتِى فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلاَثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَة). (أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (42) والترمذي 2382 والنَّسائي في الكبرى 11824 وابن خزيمة 2482).
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى ِللهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا
غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ
يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ
غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ) (أخرجه ابن ماجة 3989، والحاكم 4/328، والبيهقي في شعب الإيمان 2316/1). الألباني انظر حديث رقم: 2029 في ضعيف الجامع)
وفي الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بِيضًا، يجعلُها اللهُ هباءً منثور) قال ثوبان: صفهم لنا أنْ لا نكون منهم يا رسول الله! قال: (أما إنهم إخوانُكم، ومن جِلدَتِكم، ويأخذون مِن الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خَلَوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها) (أخرجه ابن ماجه 4245، وانظر حديث رقم: 5028 في صحيح الجامع).
ويروى أن مسلمة بن عبد الملك كان
في جملة من الجند يحاصرون إحدى قلاع الروم، وكانت محصنة والدخول إليها
صعباً إلا من نقب فيها تخرج منه أوساخ المدينة، فوقف مسلمة ينادي في
الجند: من يدخل النقب ويزيح الصخرة التي تحبس الباب ويبكر حتى ندخل؟ فقام
رجل قد غطى وجهه بثوبه وقال إنا يا أمير الجند، ودخل النقب وفتح الباب
ودخل الجند القلعة فاتحين.. وبعدها وقف مسلمة بين الجند ينادي عن صاحب
النقب حتى يكرمه على ما فعل، وكان يردد من الذي فتح لنا الباب؟ فما يجيبه
احد! فقال أقسمت على صاحب النقب أن يأتيني في أي ساعة من ليل أو نهار.
فطُرق باب مسلمة طارق ليلاً، فيلقاه مسلمة مستبشراُ أنت صاحب النقب؟ فقال
الطارق هو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه. قال مسلمة وما هي؟ قال: ألا ترفع
اسمه لدى الخليفة، ولا تأمر له بجائزة، ولا تنظر له بعين من التمييز، قال
مسلمة افعل له ذلك. فقال الطارق أنا صاحب النقب. وانصرف وترك جيش مسلمة
ذاهبا إلى سد الثغور في أماكن أخرى" (ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق 7/273).
لذا فإن الصوم يربينا على أفضل العبادات: عبادة السر, ورضي الله عن عمر الفاروق القائل: "فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزّين بما ليس فيه شانه الله". يقول ابن القيم معلقاً على عبارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ومن تزين بما ليس فيه شانه الله): "لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص، فإنه يظهر للناس أمراً وهو في الباطن بخلافه، عامله الله بنقيض
قصده، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعاً وقدراً، ولما كان المخلص
يُعجَّل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس، عجَّل
للمتزين بما ليس فيه من عقوبته، أن شانه الله بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا" (إعلام الموقعين: 3/180).
وقال ابن أبي عون:
صام داوود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان يحمل معه غذاءه
فيتصدق به في الطريق, فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه
قد أكل في السوق. (التذكرة الحمدونية 1/51). فكما
أن هؤلاء قد أخلصوا لله تعالى في صومهم فإنهم أيضا يجب أن يخلصوا له في
سائر عبادتهم, فيخلصون له في صلاتهم ويجعلونها له سبحانه وحده, لذا كانت
صلاة الليل من أفضل الصلوات لأنها تكون سراً بين العبد وربه, وقال تعالى
في وصف المؤمنين المتقين: ﴿إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [سورة الذاريات: 15-19].
وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني
جبريل، فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت، فإنك مفارقه،
واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، عزه
استغناؤه عن الناس) (أخرجه الطبراني في
الأوسط 1/61، وأبو نعيم في الحلية 3/253، والحاكم 4/324-325، وقال: صحيح
الإسناد! ووافقه الذهبي. وانظر: الألباني في السلسلة الصحيحة 2/505).
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ظَبْيَانَ، يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (ثَلاَثَةٌ
يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، وَثَلاَثَةٌ يَبْغَضُهُمُ اللَّهُ، فَأَمَّا
الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ، فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللهِ،
وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ،
فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا، لاَ يَعْلَمُ
بِعَطِيَّتِهِ إِلاَّ اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا
لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا
يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَقَامَ أَحَدُهُمْ
يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ،
فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا، وَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ،
أَوْ يُفْتَحَ لَهُ. وَالثَّلاَثَةُ الَّذِينَ يَبْغَضُهُمُ اللَّهُ:
الشَّيْخُ الزَّانِي، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْغَنِيُّ الظَّلُومُ). (أخرجه أحمد 5/153 والتِّرمِذي 2568 والنَّسائي 3/207 وابن خزيمة 2456 وابن حِبان 3349).
وأخرج الإمام أحمد في الزهد (ص 148) وعنه أبو نعيم الأصفهاني في الحلية (1/165) والبيهقي في الشعب (5/416-417): إن أبا ذر كان يقول: "يأيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق، صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا الدنيا لحر يوم النشور، وتصدقوا مخافة يوم عسير، يأيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق".
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنِ
اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا
رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتِ) ( أخرجه أبو داود 2/70،
رقم 1451، والنسائى فى الكبرى 1/413، رقم 1310، وابن ماجه 1/423، رقم
1335، وابن حبان 6/308، رقم 2569، والحاكم 1/461، رقم 1189، وقال: صحيح
على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. والبيهقى 2/501، رقم 4420، وصححه
الألباني في المشكاة 1238، والتعليق الرغيب 217، وصحيح أبي داود 1182
وصحيح الجامع 333).
قال العلامة شمس الحق العظيم أبادي في (عون المعبود شرح سنن أبي داود): "وَفِي الْحَدِيث إِشَارَة إِلَى تَفْسِير الْآيَة الْكَرِيمَة: ﴿إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ
وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا﴾ [سورة الأحزاب: 35].
قال الشاعر:
يا رَجالَ الليِلِ جدُّوا * * * رُبَّ صْوتٍ لا يُرَّدُّ
ما يقـــوم الليل إلا * * * من لــه عزم وجِدُّ
قال الآخر:
لله قوم أخلصوا في حبه *** فأختصهم ورضا بهم خداماَ
قوم إذا هجم الظلام عليهم *** قاموا فكانوا سجدا و قياما
يتلذذون بذكره في ليلهم *** ونهارهم لا يفترون صياما
فسيفرحون بورد حوض محمد *** وسيسكنون من الجنان خياما
وسيغنمون عراسا بعراسِ *** ويبوءون من الجنان مكانا
وتقر أعينهم بما أخفى لهم *** وسيسمعون من الجليل سلاما
ويروى
أن رجلا اشترى غلاما, فقال الغلام: يا مولاي إن لي معك ثلاثة شروط: أحدها:
أن لا تمنعني عن الصلاة المكتوبة إذا جاء وقتها. ثانيها: أن تأمرنى
بالنهار ما شئت ولا تأمرنى بالليل. ثالثها: أن تجعل لي منزلا في بيتك لا
يدخله غيري. فقال له الرجل: لك هذه الشروط، انظر في البيوت. فاختار الغلام
بيتا خرابا. فسأله الرجل عن السبب. فأجاب الغلام: يا مولاي أما علمت أن
الخراب مع الله بستان؟
فكان يخدم مولاه بالنهار ويتفرغ للعبادة بالليل، وفى يوم طاف مولاه في
الدار فبلغ حجرته فإذا هي منورة والغلام ساجد وعلى رأسه قنديل من نور معلق
بين السماء والأرض، والغلام يناجي ربه ويتضرع ويقول: إلهي أوجبت علي حق
مولاي خدمته بالنهار، ولولا ذلك ما اشتغلت ليلي ولا نهاري إلا بخدمتك
فاعذرني يا رب. ومولاه ينظر إليه حتى انفجر الصبح ورد القنديل. فاخبر
امرأته، فلما كانت الليلة الثانية أخذ بيد امرأته وأراها ما يحدث، وظلا
يبكيان حتى الصباح، فدعا الغلام وقال له: أنت عتيق لوجه الله تعالى حتى تتفرغ لعبادة من كنت تعتذر إليه، فرفع الغلام يده إلى السماء وقال:
يا صاحب السر إن السر قد ظهرا * * * ولا أريد حياتي بعدما اشتهرا
ثم خر الغلام ميتا.
وكما أخلصوا في صلاتهم وجعلوها سراً بينهم وبين ربهم فإنهم – كذلك –
يخلصون في صدقاتهم ويجعلونها خالصة له تعالى وحده, قال تعالى: ﴿الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة: 274]. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ
صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ* جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ
بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [سورة الرعد: 22-24]. وقال تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ
تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [سورة فاطر: 30].
وعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (صَدَقَةُ
السِّرِّ تُطْفِئ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيْدُ فِي
الْعُمرِ، وَفِعلُ الْمَعْرُوف يَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ) (شعب الإيمان 3442, صحيح الجامع 3760).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَبْعَةٌ
يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ
إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِى خَلاَءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ،
وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا فِى الْمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ
تَحَابَّا في اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ
وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَمْ تَعْلَمْ شِمَالُهُ مَا
صَنَعَتْ يَمِينُهُ) [أخرجه: البخاري 2/138 (1423)، ومسلم 3/93 (1031) (91)].
وهذا علي بن الحسين زين العابدين يحمل
الصدقات والطعام ليلاً على ظهره، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في
المدينة، ولا يعلمون من وضعها، وكان لا يستعين بخادم ولا عبد أو غيره..
لئلا يطلع عليه أحد.. وبقي كذلك سنوات طويلة، وما كان الفقراء والأرامل
يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام.. فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد،
فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره، فما انقطعت صدقة السر في
المدينة حتى مات زين العابدين. وعن ابن عائشة قال: سمعت أهل المدينة
يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين!! (الحلية 3/136, صفة الصفوة 2/96).
ولقد ضرب السلف الصالح رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في حسن الإخلاص في العبادة لله رب العالمين, من ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه كان يصلي في بيته فإذا شَعَرَ بأحدٍ قطع صلاة النافلة ونام على فراشه - كأنه نائم - فيدخل عليه الداخل ويقول: هذا لا يفتر من النوم؟! غالب وقته على فراشه نائم؟! وما علموا أنه يصلي ويخفي ذلك عليهم.
وقال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف وقال: لا يراني هذا أنِّي أقرأ فيه كل ساعة.
وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في
تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء
في حياته, ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني
كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي، فإن
قبضت عليها فاعلم أنه لم يُقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة
بالليل، وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قُبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية
الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
ودخل عبد الله بن محيريز دكاناً يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل قد عَرَفَه لصاحب المحل: هذا ابن محيريز فأحسِن بيعه، فغضب ابن محيريز وطرح الثوب وقال: "إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا".
وروى صاحب طبقات الحنابلة: أن عبد الغني المقدسي المحدث الشهير, كان مسجوناً في بيت المقدس في فلسطين, فقام من الليل صادقاً مع الله مخلصاً,
فأخذ يصلي, ومعه في السجن قوم من اليهود والنصارى, فأخذ يبكي حتى الصباح,
فلما أصبح الصباح ورأى أولئك النفر هذا الصادق العابد المخلص, ذهبوا إلى
السجان, وقالوا: أطلقنا فإنا قد أسلمنا, ودخلنا في دين هذا الرجل, قال:
ولِمَ؟ أدعاكم للإسلام؟ قالوا: ما دعانا للإسلام, ولكن بتنا معه في ليلة
ذكرنا بيوم القيامة..!.
ووقف رجل يصلي في المسجد، فسجد وجعل يبكي بكاءً شديداً، فجاء إليه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه فقال: "أنت.. أنت.. لو كان هذا في بيتك".
كان الإمام أحمد يقول: "أحب أن أكون بشعبٍ في مكة حتى لا أُعرف، قد بُليتُ بالشهرة، إنني أتمنى الموت صباحاً ومساءً". وقال الشافعي: "وددت أن الناس تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليَّ منهُ شيء".
روي عن ابن الجوزي عن الحسن أنه قال:
كنت مع ابن المبارك فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب
ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا،
يعني حيث لم نُعرف ولم نُوقر. انظر: (خمسون قصة من إخلاص السلف: أرشيف ملتقى المحدثين ( الموسوعة الشاملة 2/403 ).
فتعلم من الصوم حسن الإخلاص لله تعالى, وحسن المراقبة له وحده, وتعلم منه أن تدفن حسناتك كما تدفن سيئاتك.
اللهم اجعلنا ممن يقولون فيعملون, ويعملون فيخلصون, ويخلصون فيقبلون, ويقبلون فيفوزون.
د. بدر عبد الحميد هميسة