بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , فهذا مبحث لطيف في اجتماع العيد مع الجمعة وكيف تصلّي الجمعة والعيد فيه ,
أولا أقوال العلماء في المسألة :
وفي الجملة , في المسألة أربعة أقوال :
الأول : أن الجمعة تجب ولا تسقط بالعيد أو إحداهما بالأخرى , ونقل في المغني هذا القول (1/404) عن أكثر الفقهاء .
الثاني : تسقط حضور الجمعة عمّن صلّى العيد , قال في المغني : وقيل هذا مذهب عمر , وعثمان , وعليّ , وسعيد , وابن عمر , قال الإمام أحمد : بشرط أن تصلّى الظهر (المجموع 4/359)
الثالث : تسقط الجمعة عن أهل العوالي البعيدين عن المدن والقرى , دون غيرهم من أهل المدن والأمصار, وهو قول عثمان رضي الله عنه ونقله في المجموع عن الجمهور .
الرابع : تؤخر صلاة العيد وتصلّى حين يرتفع النهار , ولا يصلي الجمعة ولا الظهر وهذا مذهب ابن الزبير وابن عباس , وهو داخل في القول الثاني من وجه سقوط أحد الصلاتين , وروي عن أحمد أنها تجزئه الأولى منهما , فتجزئه عن العيد وعن الظهر , ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جوّز الجمعة في وقت العيد ( المغني 1/404)
ثانيا : أدلة الأقوال ومناقشتها
(1) أما القول الأول , أن الجمعة والعيد لا تسقطان عن أحد , فقال المنتصرون لهذا القول :
- تجب الجمعة لعوم الآية , والأخبار الدالة على وجوبها , ولأنهما صلاتان واجبتان , فلم تسقط احداهما بالأخرى كالظهر مع العيد , (أي ان كان العيد في يوم غير الجمعة ) (المغني 1/404) ,
- وقال ابن المنذر (الأوسط ح 2185) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، وَدَلَّتِ الأَخْبَارُ الثَّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَوَاتِ خَمْسٌ، وَصَلاةُ الْعِيدَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْخَمْسِ، وَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ، وَدَلَّتِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَلاةَ الْعِيدَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْخَمْسِ، وَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَدَلَّتِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى أَنَّ صَلاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ، لَمْ يَجُزْ تَرْكُ فَرْضٍ بِتَطَوُّعٍ ا.هـ.
قلت : وهذا القول , وهو مروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يصلي العيد مع الجمعة كما عند عبد الرزاق ( 5733) لكن سنده ضعيف ,
وهو قول أبي حنيفة : لا تسقط الجمعة عن أهل البلد ولا أهل القرى (المجموع 4/359)
وكذلك هو قول ابن حزم ( المحلّى 5/98-99) واستدلّ بضعف الآثار الواردة في الترخيص في ترك الجمعة ,
وهذا من أقوى الأقوال في الحقيقة , إلا أنه لم يجب عن حديث عثمان الآتي , أنه رخّص لأهل العالية , وسيأتي أنه في صحيح البخاري , ولم ينكر أحد من الصحابة على عثمان في هذا , وهو أصحّ ما روي في الباب , إلا ما جاء عند الشوكاني في النيل (2/295) أن قول عثمان لا يخصصّ قوله صلّى الله عليه وسلّم .ا.هـ.
قلت : هذا على العين والرأس لو صحّ الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك , وسيأتي ان شاء الله ما فيه .
(2) أن حضور الجمعة يسقط , بشرط أن يصلي الظهر , واستدل أصحاب هذا القول
- بحديث إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، قَالَ: أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعَ؟ قَالَ: صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: " مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ " ,
و نقل الحافظ بن حجر في التلخيص عن ابن المديني تصحيحه ,
وما وقفت على كلام ابن المديني إلا ما نقله عنه ابن عبد البرّ في الاستذكار (ح 9518) " وَقَالَ عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرُ مَا حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ ا.هـ. , فلم يصرح بتصحيحه ,
و قال ابن المنذر : هذا الحديث لا يثبت وإياس بن أبي رمله راويه عن زيد مجهول ,
وقال ابن خزيمة لم يثبت فيه جرح ولا تعديل كما نقل عنه الحافظ في إتحاف المهرة , وهناك لفظ مغاير لهذا الحديث أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (1/394) إشارة منه كعادته إلى تعليل لفظه المشهور به , ولفظه البخاري " ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ الشَّامِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، يَسْأَلُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ هَلْ شَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ " , وهذا موافق لحديث النعمان بن بشير كما سيأتي عند مسلم .
وواضح الفرق بين اللفظين , فلفظ البخاري معناه أنه ما رخص في ترك الجمعة , فالله أعلم .
- وضعّف الحديث كذلك ابن حزم في المحلّى (5/99) , واعترض عليه الشيخ أحمد شاكر وصحّحه , ولم يأت الشيخ بحجة قوية في تصحيحه , بل نقل تصحيح ابن المديني له , وقد تقدم ما فيه .
- واحتجوا كذلك بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ " , وهو حديث معلول , وصحّح ارساله الإمام أحمد والدارقطني (العلل 10/2015) وانظر (التلخيص الحبير 2/185) والعلل المتناهية (1/374) ,
وقال ابن عبد البرّ : وهذا الحديث لم يروه فيما علمت عن شعبة أحد من ثقات أصحابه الحفاظ، وإنما رواه عنه بقية بن الوليد، وليس بشيء في شعبة أصلا.وروايته عن أهل بلده: أهل الشام فيها كلام، وأكثر أهل العلم يضعفون بقية عن الشاميين وغيرهم، وله مناكير، وهو ضعيف، ليس ممن يحتج به , وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، مُرْسَلا، قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِنَّا مُجَمِّعُونَ: فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ فَلْيَرْجِعْ ".فَاقْتَصَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ إِبَاحَةِ الرُّجُوعِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الإِجْزَاءَ، وَرَوَاهُ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، إِلا أَنَّهُ أَسْنَدَهُ , ثم أخرجه أبو عمر من طريق زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ الْبَكَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: اجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عِيدٍ، وَيَوْمِ جُمُعَةٍ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْعِيدِ: " هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ: عِيدُكُمْ هَذَا، وَالْجُمُعَةُ، وَإِنِّي مُجَمِّعٌ إِذَا رَجَعْتُ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ فَلْيَشْهَدْهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَّعَ بِالنَّاسِ " ثم قال أبو عمر : فقد بان في هذه الرواية، ورواية الثوري لهذا الحديث أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جمع ذلك اليوم بالناس، وفي ذلك دليل على أن فرض الجمعة والظهر لازم، وأنها غير ساقطة، وأن الرخصة إنما أريد بها من لم تجب عليه الجمعة ممن شهد العيد من أهل البوادي، والله أعلم.وهذا تأويل تعضده الأصول، وتقوم عليه الدلائل، ومن خالفه فلا دليل معه، ولا حجة له.ا.هـ.
وقد روي عن ابن عمر " قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ شَاءَ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَأْتِهَا، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَخَلَّفَ فَلْيَتَخَلَّفْ " , وفي اسناده مندل بن علي , متروك الحديث , والراوي عنه جبارة بن مغلّس ضعيف أو متروك أيضا ( ابن ماجة ح 1312)
وكذلك استدلّ لهذا القول بحديث مرسل عن ذكوان بن صالح , أن عيدين اجتمعا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى بهم صلاة العيد، وقال: " إنكم قد أصبتم ذكرا وخيرا، ونحن مجمعون إن شاء الله، فمن شاء منكم أن يجمع فليجمع، ومن شاء أن يجلس فليجلس ", أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ( ح 5728)
قلت : فالحديث ضعيف أيضا , وهذا القول مروي عن :
علي بن أبي طالب كما عند ابن أبي شيبة (5837) وسنده صالح
وهو قول أحمد : تسقط الجمعة عن أهل القرى وأهل البلد ولكن يجب الظهر (المجموع 4/359) , وذهب إليه ابن تميمية كما في مجموع الفتاوى ( 24/ 210- 211 )0
قلت : وقيد أحمد هذا , يعني بعدم سقوط صلاة الظهر , لازم , وسيأتي بيانه عند الكلام عن القول الرابع .
(3) القول الثالث , : تسقط الجمعة عن أهل العوالي البعيدين عن المدن والقرى ممن لا تجب عليهم الجمعة فقط , إذ أنهم لا يسمعونها أصلا , وهذا قول عثمان رضي الله عنه , وقد أخرجه البخاري في صحيحه , من حديث الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الْأَضْحَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ مِنْ نُسُكِكُمْ "، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي، فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ "، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: " إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ " .
والشاهد في قول عثمان : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي، فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ " .
وهذا أقدم الأقوال صحّة عن الصحابة , وأصحّها , ولا يعرف لعثمان رضي الله عنه مخالف في ذلك أو معترض من الصحابة رضوان الله عليهم ,
ونقله النووي في المجموع عن الجمهور (4/359) " قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الجمعة على أهل البلد وسقوطها عن أهل القرى وبه قال عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز وجمهور العلماء .ا.هـ.
وذهب إلى هذا الحديث الطحاوي أيضا , كما في شرحه على مشكل الآثار (2/414) , وكذلك ابن عبد البرّ.
ويعضد هذا القول ما أخرجه مسلم (ح1452) من حديث حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ مَوْلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى » وَ « هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ » ، قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْنِ .
وهذا واضح وصريح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي العيد والجمعة ,
نعم .. يبقى الأمر هل هو على الإيجاب أو الندب , فإذا انضم هذا إلى فعل عثمان , دلّ على أن المستثنى فقط هم أهل العالية , والله أعلم .
(4) القول الرابع , وهو أن الجمعة والظهر يسقطان عمّن صلّى العيد , قيل صلّى العيد فقط , وقيل العيد وبعده ركعتين ,
, وهذا قول ابن الزبير وابن عباس , وعطاء , واستدلّوا بما رواه أبوداود (907) عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ " فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا " وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَلَمَّا قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ "
وهذا الأثر , ننقل كلام ابن عبد البرّ عليه فقد كفانا الردّ عليه , قال أبو عمر كما في التمهيد " فذهب عطاء بن أبي رباح إلى أن شهود العيد يوم الجمعة يجزئ عن الجمعة إذا صلى بعدها ركعتين على طريق الجمع.وروي عنه أيضا أنه يجزيه، وإن لم يصل غير صلاة العيد، ولا صلاة بعد صلاة العيد حتى العصر.وحكي ذلك عن ابن الزبير، وهذا القول مهجور، لأن اللَّه عزّ وجلّ افترض صلاة الجمعة في يوم الجمعة على كل من في الأمصار من البالغين الذكور الأحرار، فمن لم يكن بهذه الصفات، ففرضه الظهر في وقتها فرضا مطلقا، لم يختص به يوم عيد من غيره .. إلى أن قال " ليس في حديث ابن الزبير بيان أنه صلى مع صلاة العيد ركعتين للجمعة وأي الأمرين كان، فإن ذلك أمر متروك مهجور، وإن كان لم يصل مع صلاة العيد غيرها حتى العصر، فإن الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول، لأن الفرضين إذا اجتمعا في فرض واحد، لم يسقط أحدهما بالآخر، فكيف أن يسقط فرض لسنة حضرت في يومه؟ هذا ما لا يشك في فساده، ذو فهم، وإن كان صلى مع صلاة الفطر ركعتين للجمعة، فقد صلى الجمعة في غير وقتها عند أكثر الناس، إلا أن هذا موضع قد اختلف فيه السلف: فذهب قوم إلى أن وقت الجمعة صدر النهار، وأنها صلاة عيد، وقد مضى القول في ذلك في باب ابن شهاب، عن عروة.وذهب الجمهور إلى أن وقت الجمعة وقت الظهر، وعلى هذا فقهاء الأمصار .. ثم قال " وأما القول الأول إن الجمعة تسقط بالعيد، ولا تصلى ظهرا، ولا جمعة فقول بين الفساد، وظاهر الخطأ، متروك مهجور، لا يعرج عليه، لأن اللَّه عزّ وجلّ، يقول:{ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } ولم يخص يوم عيد من غيره، وأما الآثار المرفوعة في ذلك، فليس فيها بيان سقوط الجمعة والظهر، ولكن فيها الرخصة في التخلف عن شهود الجمعة، وهذا محمول عند أهل العلم على وجهين: أحدهما: أن تسقط الجمعة عن أهل المصر وغيرهم، ويصلون ظهرا.والآخر: أن الرخصة إنما وردت في ذلك لأهل البادية، ومن لا تجب عليه الجمعة .. ثم قال أبو عمر " وليس فيه دليل على سقوط الجمعة، وإنما فيه دليل أنه رخص في شهودها، وأحسن ما يتأول في ذلك أن الأذان رخص به من لم تجب الجمعة عليه ممن شهد ذلك العيد، والله أعلم.وإذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه، لأن اللَّه عزّ وجلّ يقول:{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } ولم يخص اللَّه ورسوله يوم عيد من غيره من وجه تجب حجته، فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة، والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع بأحاديث ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث ولم يخرج البخاري، ولا مسلم بن الحجاج منها حديثا واحدا، وحسبك بذلك ضعفا لها" ا.هـ.
قلت : يضاف على هذا , أن عمل عثمان رضي الله عنه السابق متقدّم عنه وكان الصحابة أشهر وأكثر , ولو كان فيهم من عنده علم بخلاف قول عثمان لاعترض , حتى لو ابن عباس رضي الله عنه , فعمل عثمان مقدّم ولا شكّ على عمل ابن الزبير عند التعارض , والغريب أن الشوكاني وغيره استدلّ لحديث ابن الزبير أن أحدا لم يعارضه من الصحابه , وهذه الحجة أولى أن تنسحب على قول وفعل عثمان رضي الله عنه .
- وأما قول ابن عباس أصاب السنّة , فقال ابن خزيمة في صحيحه (2/360) " قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَابَ ابْنُ الزُّبَيْرِ السُّنَّةَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ سُنَّةَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ عُمَرَ، أَوْ عُثْمَانَ، أَوْ عَلِيٍّ، وَلا أَخَالُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَصَابَ السُّنَّةَ فِي تَقْدِيمِهِ الْخُطْبَةَ قَبْلَ صَلاةِ الْعِيدِ، لأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ خِلافُ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَرْكَهُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِمْ بَعْدَمَا قَدْ صَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الْعِيدِ فَقَطْ دُونَ تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ قَبْلَ صَلاةِ الْعِيدِ ا.هـ .
قلت : ويردّ على ذلك بما قدّمنا , أن فعل عثمان رضي الله عنه متقدّم على ذلك , ولو كان فيه سنّة صحيحة ما خفيت على الصحابة , خاصّة وأن هذا أمر مشهود , ويحضره الجماعات من الناس , وكذلك ما ورد في الأثر أنه قدم الخطبة على الصلاة , وهذا ليس من سنة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا الخلفاء من بعده , والله أعلم .
- وحديث ابن الزبير له طرق عنه من رواية أبي الزبير , وعطاء , ووهب بن كيسان , وقد أعلّه ابن عبد البرّ بالاضطراب , وفي حال صحّته , فهو معارض بفعل عثمان ,
وهذا أصحّ الأجوبة عن هذا الحديث من وجهة نظري .
تكملة :
و يروى عن أحمد قول هو من مفردات المذهب , قال في المغني (1/404) وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت عيد , فقد روي عن أحمد قال : تجزئ الأولى منهما , فعلى هذا تجزئه عن العيد والظهر , ولا يلزمه شيء إلى العصر عند من جوّز الجمعة في وقت العيد .. وذكر أثر ابن الزبير , ثم قال , قال الخطابيّ : وهذا لا يجوز أن يحمل إلا على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال , فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلّى الجمعة فسقط العيد , والظهر , ولأن الجمعة اذا سقطت مع تأكدها , فالعيد أولى أن يسقط بها , أما إذا قدم العيد , فإنه يحتاج إلى أن يصلي الظهر في وقتها إذا لم يصلّ الجمعة ا.هـ.
قال إبراهيم النخعي كما في مصنف عبد الرزاق (5727) اذا اجتمعا عيدين يجزيء أحدهما عن الآخر وسنده صحيح ,
وكذلك هو مروي عن الشعبي كما عند ابن أبي شيبة (5897) , ولم أجد لهما سلفا أو دليلا على هذا القول , والغريب أن ابن أبي شيبة في مصنفه ترجم للمسألة بهذا فقال " في العيدين يجتمعان بجزيء أحدهما من الآخر "
النـتـيـجـة :
بعد هذا العرض , للأقوال والأدلّة , يظهر لنا ما يلي :
- لم يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثا في الباب .
- أصحّ ما ورد عن الصحابة في ذلك أثر عثمان , وهو في صحيح البخاري , وأثر ابن الزبير وهو لا يعارض أثر ابن عثمان قوّة , لا في السند ولا في العمل , ولم يقل به أحد من الفقهاء ,
- قوة القول الثالث ظاهرة, وهو قول عثمان رضي الله عنه , في أنه رخّص لأهل العالية فقط الذين لا جمعة عليهم أصلا, ممن لا يسمع النداء يوم الجمعة عدم حضور الجمعة, وأما من سمع النداء داخل الأمصار , فحق عليه أن يحضر الجمعة وإن صلّى العيد , وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها , خاصّة لو اجتمع معها حديث النعمان بن بشير عند مسلم كما قدّمناه , وهو أولى لأن كلّ الأقوال الأخرى استعمال أدلتها يبطل الأخرى , والله أعلم .
. انتهى .
القول المفيد في اجتماع الجمعة مع العيد
محمود بن أحمد أبو مسلّم