الحمد لله حمد الشاكرين وأشهد أن لا إله اله وحده لا شريك له الذي يحب الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين وإمام المحسنين.
أما بعد:
فإن ذكر النعم ومعرفة أجناسها وأنواعها ومقاديرها من خصال النبيين وخلال المؤمنين ومن أعظم البواعث على الاغتباط بها وشكرها وحوافز رعايتها وحفظها ومقتضيات استقرارها وزيادتها ولهذا أكثر سبحانه من تذكير عباده بنعمه وآلائه كقوله اذكروا نعمة الله عليكم وقوله: ﴿ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ونبه سبحانه على أجناس عظيمة من نعمه وذكر أصولها وجلائلها في محكم كلامه كما في سور الإنعام والنحل والرحمن وكقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ﴾ وقوله ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ بل انه جل ذكره أخبر أن جميع النعم منه وحده فهو تعالى المتفرد بالأنعام كما انه المتفرد بكشف الضر عن الأنام؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ، ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾، ولقد تأذن الله تعالى للشاكرين بالمزيد وتهدد الكافرين بالعذاب الشديد فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾، والغفلة عن النعم واستصغارها ونسبتها إلى غير الله تعالى واتخاذها ذريعة للمعاصي ونسبتها إلى الأسباب والمعارف والأسلاف كل هذه من مظاهر الكفران وأمارات قسوة القلوب وهي من أسباب نقصها وزوالها وتبدلها بأضدادها كما كان من شأن أهل سبأ وغيرهم من القرى الظالمة التي احتقرت النعم ونسبتها إلى أسباب البشر ثم تمادى بها الأمر إلى أن سئمت النعم وملتها وجحدت حقوق المنعم وكفرتها فأزال الله النعم من بين أيديهم وجعلهم أحاديث وعبرا لمن جاء من بعدهم وجعل مواطنهم وآثارهم شاهدة عليهم بعظيم نعمة الله عليهم وظلمهم لأنفسهم ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾.
وإذا عرف هذا فإننا في هذه البلاد بلاد الحرمين ننعم ولله الحمد بنعم كبرى ومنن كبرى من مناسبة الموقع بين العالم، وكثرة ما فيه من الخيرات والثروات وأعظم من هذا كله صحة المعتقد وسلامة المنهج وتوفر الأمن ورخاء العيش ووجود أئمة هداه في العلم والعمل وتحكيم الشريعة في الجملة كل هذه ينبغي ان تذكر فتشكر وأن تعظم ولا تستصغر فتحتقر وشكرها بأمور:
الأول: الاعتراف بأجناسها وآحادها وكثرتها وأنها من الله تعالى وحده منحه للشاكرين ومحنة للكافرين.
الثاني: أن يستعان بها على طاعة الله تعالى وان يحسن بفضلها على عباد الله.
الثالث: أن يثنى على الله تعالى بها وأن يحذر من نسبتها إلى الأشخاص والأسباب والمهارات والأسلاف وأن يذكر ويثني من كان له نوع سبب بعد الله في هذه النعمة وتوفرها.
فيشكر العلماء والجهات المعنية بالعلم الشرعي على نعمة العلم والهدى بما يبينونه للناس من دين الله جل وعلا قولا وعملا.
ويشكر الحكام والجهات المسؤولة عن الأمن على جهودهم في توفير الأمن وقطع دابر الجريمة وسهرهم على حياة الأرواح والأعراض والحرمات.
وشكر الأغنياء وجهات البر على إحسانهم بأموالهم وجودهم بخيرهم على إخوانهم.
ويشكر الأطباء والجهات المسؤولة عنهم على جهودهم في علاج الأمراض والعناية بالمرضى.
وهكذا كل من له سهم في توفير نعمة يشكر على جهده في مجاله، فانه لا يشكر الله من لا يشكر الناس وان من الفضل الاعتراف بالفضل لأهله، وإنكار الجميل ونكران المعروف لؤم في الطباع ومن أخلاق الرعاع ومن أسباب انقطاع المعروف والإحسان.
الرابع: الحذر من الانشغال بها عن حق المنعم بها وموليها كالذين يتركون صلاة الفجر آمنين في البيوت أو يتعاطون الربا مفتتنين بالأموال أو يبذلون الأموال في الحرام والإعانة على الآثام، جعلنا الله جميعا من الشاكرين وأعاذنا من حال الكافرين الجاحدين وجعلها من أسباب السعادة في الدارين.