وُلد سعيد بن المسيب في المدينة المنورة بعد عامَين من بدء خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يتميز بذاكرةٍ قويةٍ وحافظةٍ واعيةٍ، وتروى عنه الحكايات الكثيرة في هذا الشأن، كما كان يتميز- رضي الله عنه- بحُسن الهيئة ومظهره المهندم، وهو ما كان يرجع إلى ثرائه، وكان مع ذلك رجلاً يغلب عليه الجدّ ويُهيَّأ لمَن يقف أمامه أنه يقف أمام رجلٍ تمَّ تكليفُه بحراسة موازين الحق والعدل، فكان الحفاظ على العدالة وحب الحق من أبرز الصفات التي اتسم بها ابن المسيب.
وقد عاش ابن المسيب حياةً هادئةً تستند إلى التعاليم الإسلامية؛ حيث تزوَّج وأنجب ولدًا وبنتًا رباهما تربيةً إسلاميةً صحيحةً، كما كان لا يرجو في تجارته إلا وجه الله تعالى، ويُذكر عنه في هذا الصدد أنه كان يقول: "الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أَمْيَل.. والتجارة الحلال ليست من الدنيا النذلة"، كما كان يؤدي الزكاة كاملةً غير منقوصة.
مواقفه من السلطان
كان ابن المسيّب يبتعد عن الحكَّام الجائرين الذين يحاولون إحاطة أنفسهم بالرجال الصالحين ذوي الرأي الثاقب والمصداقية عند عامةِ الناسِ؛ من أجل تبرير كل خطاياهم وآثامهم تبريرًا دينيًّا، وهو الأمر الذي أدَّى إلى فوز ابن المسيب بقلوبِ العامة؛ مما زاد من أنصاره وأتباعه، كما أنه قام بتزويج ابنته بطالب علم فقيرٍ ماديًّا غنيٍّ روحيًّا ودينيًّا، ويرفض في المقابل طلب الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بأن يزوجها لولي العهد وهو ابنه الوليد.
آراؤه الدينية
الفتاوى التي قدَّمها ابن المسيّب يوضح أنه كان مَرِنًا على الرغم من الخطِّ العام الذي تبنَّاه بالأخذ بالرأي الأكثر حيطةً، ومن أهم هذه الفتاوى التي وضُحت فيها مرونتُه ما قاله لرجل سأله عن كيفية التصرف إذا وجد أحد الرجال وهو مخمور.. هل يسلمه إلى السلطان لكي يقيم عليه الحد؟! حيث ردَّ ابن المسيب على الرجل بأن ستر المخمور خيرٌ عند الله تعالى من تسليمه إلى السلطان.
ومن أهم التفسيرات التي قدَّمها للقرآن الكريم تفسيره لقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ(88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء)؛ حيث فسَّرهما ابن المسيب بأنَّ القلبَ السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن؛ لأنَّ قلب الكافر والمنافق مريض، وشاهد ذلك قوله تعالى ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ (البقرة: من الآية 10).
وفاته
يُقال إنه تُوفي في العام 93 هجرية، إلا أنَّ القول الأرجح أنه تُوفي في العام 94 هجريًّا، وهو العام الذي سُمِّي باسم "عام الفقهاء" لكثرةِ الفقهاء الذين ماتوا في هذا العام، ويرحم الله تعالى هذا الفقيه العالِم الذي ترك في التراث الإسلامي نموذجًا للمثقَّف والفقيه الرشيد، الذي لم يكن يبغي في حياته إلا الإصلاح، والذي رفض بكل صدقٍ متاعَ الحياة الدنيا.