يندرج فتح الأندلس في سياسة الفتوحات التي بلغت مداها في عهد الخليفة الأموي (المرواني) الوليد بن عبد الملك، غير أنه امتاز عن سواه من العمليات الحربية الكبيرة بسماتٍ، إن لم نقل بخصوصيات، ظلّت عبر القرون تستفزّ «قرائح» المؤرخين،فيلجئون إلى فرضيات تتعمّد أحيانًا الإثارة، من خلال مرويات أَطلقت العنان للخيال،ليبنوا عليها أوهامًا، أو على الأقل، شكوكًا، ما برحت تنال من صدقية الحدث الذي كاد «يقلب» التاريخ، ويُعيد رسم خارطة العالم الأوربي، لو تمّ - بالدقة عينها – ضبط التوقيت، بما يطابق انتشار العرب المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية.
ومن آخر ما صدر في هذا السياق كتاب هو عبارة عن ترجمة مختزلة وغير دقيقة لدراسة مفصّلة ظهرت في السبعينيات للمؤرخ الإسباني «أجناسيو أولاجي» تحت عنوان «الثورة الإسلامية في الغرب»، مختلفًا عمّا جاء في الترجمة العربية، التي ربما اعتمدت على نسخة باللغة الإنجليزية عنوانها: «العرب لم يغزوا الأندلس».
ولعل الإثارة ولفت النظر ما توخاهما الكتاب في طبعته العربية، بصرف النظر عن العبث بالتاريخ الذي تبقى له هالته المستمدّة من المرويات، وليست الأساطير ما تعبّر عنه،إلا إذا نمّت عن دلالة ما في سياق التفسير لحالة اجتماعية أو نفسية، أو حتى سياسية تنعكس بصورة ما على النصر أو الهزيمة، والتاريخ الأندلسي يموج بالأخبار المؤسطرة ،ومنها على سبيل المثال ما تواتر عن «فلورندا»، و«الأبواب السبعة» في طليطلة،و«المائدة»، فضلاً عن الأسطورة التي أوردها «ابن عذاري» وقد جاء فيها: «أن أساقفة الروم (كانت) تجد صفة موسى في كتبها»، وأنه - أي موسى - بعد فتحه سرقسطة وحصونًا كثيرة وراءها، «انتهى إلى صنم، فوجد في صدره مكتوبًا: يا بني إسماعيل، فإلى هنا منتهاكم».
وإذا كانت الأسطورة مما طغى على بعض صورة الفتح فإنها لم توقر بطله القائد الشهير موسى بن نصير، الذي كان وراء الإنجاز العظيم، وحمله طموحه على أن يخطّط لاجتياز البرينية وصولاً إلى القسطنطينية التي امتنعت على الأمويين، وحالت بتحصينها البحري دون تقدّمهم غربًا في المجال الأوربي، وفقًا لما جاء في روايتي ابن «القوطية» وابن خلدون.
وليس ثمة شك في أن موسى بشخصيته الفذّة وحضوره الساطع،كان من أولئك الذين يصحّ فيهم القول إنهم صانعو التاريخ، وهم غالبًا ما يحاطون باهتمام غير عادي، ويُثار حولهم من القصص والأخبار، ما يُشكّل تربة خصبة للأسطورة.
لعل « تاريخ افتتاح الأندلس» لابن القوطية - المتّصل من جهة أمه بالنسب الإسباني - من المصادر الرصينة التي يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لموسى بن نصير، إذ هو يتفق مع «أخبار مجموعة»، لمصنّف أندلسي مجهول، في تفاصيل أساسية عن المرحلة ، ولكن ابن القوطية لم يتطرّق إلى سيرة موسى قبل الفتح، الأمر الذي عرض له بصورة مقتضبة ابن عذاري المراكشي في إشارته إلى أن ولادته كانت سنة تسع عشرة للهجرة، ثم تدرّج في خدمة الأمويين، حتى أصبح واليًا على إفريقيا، حيث انبثقت فكرة الفتح لإسبانيا، بعد إتمام السيطرة على المغرب الأقصى.
وكانت أولى العمليات الحربية لموسى في المغرب، فتح قلعة زغوان، على مسافة يوم من القيروان مقرّ ولايته، ثم تابع تقدمه إلى سجومة، ومنها أغار على قبائل البربر: هوارة وزناته وكُتامة، فاستسلمت جميعها له، لتنفتح أمامه أبواب المغرب الأقصى الذي اجتاحه، ومعه أولاده الأربعة (عبد الله، عبد الملك، عبد العزيز، مروان)حيث توزّعوا في مهمات عزّزت مسيرة الحملة الرئيسة حتى السوس الأقصى ، ومن ثمّ الانعطاف شمالاً إلى طنجة ، ولعل من أسباب النجاح الذي حققه موسى في السيطرة الكاملة على المغرب أنه تبنى سياسة سلفه في التودّد للبربر، والاستعانة بمقاتلين منهم في حملته، مما وضع حدًا لحالة العداء التي ما برحت لوقت طويل تعوق حركة العرب المسلمين في هذه البلاد، وتجعل فتحها من أشقّ ما واجهوه في هذا السبيل، مقارنة بالعمليات التوسعية على الجبهات الأخرى ، وكان من التحق بموسى من البربر قائد أثبت كفاءة عالية في الحرب، هو طارق بن زياد، فقرّبه إليه، وعيّنه واليا على طنجة ونواحيها، وعهد إلى قادة عرب تعليم البربر القرآن وتثقيفهم بأمور الإسلام قبل أن يعود إلى القيروان.
الشاطئ الآخر :
ولكن هل انتهت مهمة موسى عند هذا الحد بوضعه الخاتمة لأطول عملية عسكرية في تاريخ العرب المسلمين ؟ إنه سؤال إشكالي قد لا نجد إجابة مباشرة عنه، ولكن ما يمكن استشرافه من سلوك القائد المظفر في تلك المرحلة أنه وقد بلغ ساحل المحيط، ربما ذهب في هواجسه إلى ما هو أبعد من ذلك،خصوصًا إذا كان فعلاً، حينذاك، قد وقف على أخبار البلاد الواقعة على الضفة الأخرى من المضيق، أو عرف ما تكابده من أزمات داخلية معقدة.
فثمة مؤشرات تتراءى لنا في تلك الفترة ليست منفصلة عن تلك الهواجس،إذا توقفنا عند اثنين منها على الأقل: الأول، ما ذكره ابن عذاري عن وجود سبعة عشر ألفًا من المقاتلين العرب، واثني عشر ألفًا من البربر في طنجة مع طارق، حيث أصبح على تخوم الثغر الأخير (سبتة) الذي بقي خارج السيادة الأموية في المغرب.
والثاني،ما ورد في «الإمامة والسياسة» المنسوب لابن قتيبة، عن جهود قام بها موسى حينذاك،لسدّ ثغرة أساسية في قوته الحربية، وذلك بإنجاز الأسطول البحري في قاعدة تونس، وشنّ غزوات منها استهدفت جزرًا في البحر المتوسط، ومنها «مايورقه» الواقعة على مقربة من الساحل الإسباني الشرقي.
هذه القوة العسكرية الخارجة لتوّها، بروح معنوية عالية، من نصر كبير، والتي ضمّت في صفوفها جيلاً من المقاتلين خَبِر صنوف الحرب، ربما أصبحت عبئًا على القيادة التي كان عليها إيجاد حلول لها، والإفادة من طاقتها في مهام جديدة، قد لا تكون واضحة تمامًا حينذاك في خطط أمير القيروان ، بيد أن عاملين اثنين بدا لهما تأثير بارز على مسار المرحلة، أولهما عبّرت عنه النزعة التوسعية للحكم الأموي، والآخر تمثل في اضطراب أحوال الدولة القوطية في إسبانيا، حيث الصراع المتفاقم على السلطة بين الملك لزريق (رودريك)، ومعارضيه من مؤيدي الملك المخلوع السابق غيطشة (ويتيزا) هذا الصراع الذي يجعله ابن القوطية سببًا مباشرًا لمغامرة القائد الجريء موسى، حين قرّر متابعة الفتوح باتجاه إسبانيا، دون أن يكون ما سُمي ببحر الزقاق،الفاصل بين سبتة والجزيرة الخضراء، عائقا أمام قواته المعززة بالسلاح البحري.
ولعل ابن القوطية وقد مال إلى تسويغ انكسار القوط بالغ من هذا المنظور في إظهار صورة الواقع المتردّي على الجبهة الإسبانية، متوكئًا على الأسطورة التي مفادها أن الملك تحدى إرادة رجال الكنيسة بفتح «الأبواب السبعة» للبيت الذي يُصرّون على إبقائه مغلقًا، وفيه «الأناجيل الأربعة التي يقسمون بها... وكان إذا مات ملك منهم كتب عليه اسمه.. فوجد فيه تصاوير العرب، ووجد فيه كتابًا إذا فُتح هذا البيت دخل هؤلاء الذين هيئتهم هكذا، هذه البلاد، فكان دخول المسلمين في عامهم ذلك» .
ومن اللافت أن مثل هذه الأساطير التي ربما نُسجت في أوقات متأخرة على الحدث ورسخت في الوعي الشعبي، بهدف إثارة الحوافز ضد العرب المسلمين، ترافق مع انتشار هؤلاء في أوربا، في إسبانيا كما في صقلية، مما لم يتمّ التداول به على الجبهات الأخرى الواسعة في ذلك الزمن ، ولكن هذا المؤرخ الذي وُلد مسلمًا ربما أورد هذه الأسطورة، ليس بهدف التقليل من شأن الفتح الذي اختصّه عنوانًا لكتابه، ولكنه شأن مؤرخين آخرين، دوّنوا ما تناهى إلى أسماعهم من أخبار لم يحققوا فيها، أو أنها استثارت اهتمامهم في تركيبها المفعم بالخيال، دون أن تخلو من الأسطرة حينذاك،مرويات مكرّسة، كالتي تجعل من (يليان - خوليان)، أحد مفاتيح الغزو لإسبانيا القوطية، فمن هو هذا الرجل؟ وكيف تجلّت علاقته بأمير القيروان الذي اتخذ لنفسه قسطًا من الراحة في ذلك الوقت، قبل العودة إلى ساحة الحرب؟
شخصية غامضة :
لقد تضاربت المعلومات حول هذه الشخصية الغامضة، سواء ما تعلق بأصوله،أو بحقيقة دوره في سبتة، وإن كان على الأرجح، واسمه يوحي بذلك، تابعًا للسيادة الإسبانية، أو ربما حاكمًا شبه مستقل يمتد نفوذه ما بين طنجة وسبتة.
وقد وصفه ابن القوطية بأنه «تاجر من تجار العجم... كان يختلف من الأندلس إلى بلاد البربر.. ويجلب إلى لزريق عتاق الخيل والبزاة» فهو بناء على الرواية، من أصل إسباني، ومرة أخرى تتقدّم الأسطورة على الرواية، حين يعهد لزريق إلى يليان بمهمة اعتذر عنها بسبب وفاة زوجته، وأنه لا يوجد أحد يترك ابنته (فلورندا)معه، فأمر (الملك) بإدخالها القصر، فوقعت (عينه) عليها فاستحسنها فنالها، فأعلمت أباها بذلك عند قدومه»، استنادًا إلى مروية ابن القوطية نفسه، وقد بات يليان بعد عودته إلى سبتة، يتوسّل طريقة للانتقام لشرفه من الملك، فاتصّل بطارق في طنجة وأغواه بالزحف على إسبانيا، كاشفًا له نقاط الضعف فيها، وعارضًا خدماته لتسهيل مهمته.
ولعل المتابع بدقّة لعملية الفتح لن يجد - في ثنايا المرويات – في شخصية يليان، أو على الأقل في دوره، سوى إضافة أسطورية لم ينقطع تواترها حتى بعد العبور إلى إسبانيا، وإذا سلّمنا باجتماعه مع موسى، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج لمصلحة الفتح، فإن القائد الأموي لم يبد ثقة تامة بمعلومات محاوره، بدليل توجيهه حملات استطلاعية، توجّتها حملة طريف بن مالك الذي عبر المضيق مع بضع مئات من الجنود( 91هـ/710م) ونزل في جزيرة «بالوماس» التي ستعرف باسمه، وفقًا لما ورد في «أخبار مجموعة» حيث وقف على معلومات مهمة شجعت أمير القيروان على اتخاذ قراره النهائي بتنفيذ عملية الفتح ، وكان طارق، المتصل نسبا - كما تتفق المرويات - بقبيلة «نغزة» البربرية، القائد الذي وثق به موسى، والمؤهل لتبوؤ المهمة الصعبة، حيث دأب منذ نزوله في طنجة على دراسة الموقف وخيارات المرحلة المقبلة.
وبعد شهور تسعة على حملة طريف (رجب 92هـ/أبريل 711م) عبر بقواته المضيق، الذي سيُعرف باسمه أيضًا، وقد اختلف في عدد قواتها ما بين سبعة آلاف واثني عشر ألفًا، كانوا جميعهم، على الأرجح، من البربر، ممّا شكّل سابقة في فتوح العرب المسلمين حتى ذلك الحين، وقد جاءت هذه تعبيرًا عن سياسة موسى المرنة في المغرب،وانفتاحه على البربر الذين أخذوا في الاندماج كجبهة واحدة مع العرب، ولم يتردّدوا في أن يكونوا طليعة الحملة إلى بلاد كانوا أكثر احتكاكًا بها، واطّلاعًا على شئونها الداخلة.
بيد أن قيادتها لم تكن مطلقة لطارق فقد أنشأ موسى مجلس قيادة غالبيته من العرب، تمتّع بالصفة المرجعية في اتخاذ القرارات الحاسمة، ولعل التوقيت كان في منتهى الدقّة، إذ نزل طارق في الجزيرة الخضراء، فيما كان لزريق يقود حملة تأديبية في أقصى الشمال ضد قبائل البشكس (الباسك)، مما أربك حركته ودفعه إلى العودة سريعًا إلى عاصمته (طليطلة)، في محاولة لاستنهاض القوى كافة لصدّ الغزو القادم من الجنوب،وعلى الرغم من توحيد الموقف بصورة عامة تحت قيادته، فإن جيشه كان يفتقد إلى التماسك، خصوصًا أن فريق الملك السابق الذي اغتصب منه الحكم، لم يكن مخلصًا في الولاء له، وربما رأى في الغزو فرصة لاستعادة نفوذه المفقود.
معركة الحشر:
لقد وصف موسى المعركة الشهيرة في تقريره إلى الخليفة، قائلاً: «إنها ليست الفتوح ولكنها الحشر»، كما جاء في «نفح الطيب» للمقري، وكان ذلك يعكس الانهيار الذي عمّ الجبهة الإسبانية، وأفقدها القدرة على مواجهة تقدم الجيوش الأموية، وإنقاذ المدن الكبرى التي أخذت تتساقط تباعًا، لاسيما قرطبة «فتحها مغيث الرومي»، وصولا إلى العاصمة التي استسلمت لطارق دون مقاومة تذكر، وبعد استراحة قصيرة، تابع طارق فتوحه باتجاه الشمال، متعقبًا فلول الإسبان في وادي الحجارة، ثم قطع الجبل الذي يليها إلى «المائدة»، قبل أن يعود إلى العاصمة منتظرًا أوامر أمير القيروان.
وقد انعكس ذلك خصوصًا على العلاقة «المتوترة» بين موسى وطارق، والتي اندرج فيها المؤرخون طرفًا، وبعضهم كان انحيازه واضحًا لأحدهما ضد الآخر، من دون الارتكاز إلى معطيات موثقة في هذا السبيل. وفي هذه الدائرة الإشكالية، بدا موسى وكأن طارقًا خطف منه الضوء، في عبوره التاريخي، إلى حد الذهاب بأن الحسد هو ما دفعه إلى القيام بحملته في العام التالي، كما عبّر عن ذلك ابن القوطية، أو أن حالة غرور تنازعته ، ليكون في الموقع المتقدم على صاحبه، وفقًا لرأي المؤرخ حسين مؤنس.
هرطقة تأريخية:
لقد وقع موسى ضحية هذه «الهرطقة» التاريخية، حين استهدفته حملات من المرجح أن خلافات أهل السلطة في دمشق انعكست عليها، ومن ثم تأثرت بها المرويات التي تبنّت عادة الموقف «الرسمي»، على حساب قادة آخرين من ضحاياه ، فقد كان «أمير القيروان» ما اشتهر لقبًا له، بما يعنيه ذلك من سلطة واسعة امتدت على البلاد الواقعة إلى الغرب من مصر، حتى إسبانيا التي ستعرف بالأندلس، اشتقاقًا من vandalucia، حيث أقام الفندال vendal، من الجرمان، في الأجزاء الجنوبية التي نُسبت إليهم في شبه جزيرة إيبيرية، وذلك قبل حلول «القوط» الغربيين من القبائل عينها،مكانهم، وفي ضوء ذلك يصبح «حسد» القائد الأعلى لـ«مولاه» أقل احتمالاً، خصوصا لمن كان في موقع الأول وله نفوذه، إذ تنتفي حينئذ عناصر المنافسة بين الاثنين، ولعل «الضبّي» في «بغية الملتمس» حسم الأمر في هذه المسألة، فلم ير موسى ملهم تلك العملية الكبيرة فحسب، بل إنها ارتبطت باسمه، وكان بطلها الحقيقي، وهو ما عبّر عنه بقوله: «نسب الفتح إلى موسى بن نصير، لأن طارقًا من قِبله، ولأنه استزاد في الفتح ما بقي على طارق».
وليس ثمة شك في أن ما حققه طارق كان إنجازًا عظيمًا، ولكن فتح إسبانيا بالمعنى الشمولي كان دون عقبات وتحديات، حيث الأجزاء الشرقية والغربية، فضلاً عن أن المواقع النائية في الشمال، كانت لا تزال خارج السيادة الأموية، ذلك ما سوغ لموسى القيام بحملة حشد لها قوة كبيرة في العام التالي (93هـ/712م) عبر بها المضيق إلى الجزيرة الخضراء، ومنها تحرك باتجاه «شذونة» إلى الشمال الغربي، ومنها إلى قرمونة، فإشبيلية، فماردة، حيث سقطت جميعها بعد مقاومة شديدة، قبل أن يسارع طارق إلى لقائه في «طلبيرة» على بعد سبعين ميلاً إلى الغرب من طليطلة ، ولن نتوقف هنا عند ما زُعم من أن لقاء عاصفًا كان بين الاثنين.
ولعل ما يدحض مثل هذا الخلاف أن حملة واحدة جمعت الاثنين تحت قيادة موسى، إلى سرقسطة في إقليم أراغون، قبل أن يفترقا بعد سقوطها، وفقًا لخطة معدّة مسبقًا، حيث توغّل موسى في الاتجاه الشمالي الشرقي إلى لاردة، ومنها انعطف إلىطركونة على ساحل البحر المتوسط، تاركًا فتح المدينة المهمة «برشلونة» - كما يرجح ليفي بروفنسال - لابنه وخليفته عبد العزيز الذي يُنسب له أيضًا فتح الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة ، أما طارق فقد سار في الاتجاه المعاكس، واجتاز وادي الإيبرو إلى ليون وأستورقه، مستهدفًا - ربما - فلول القوط الذين لجئوا إلى كهوف جيلقية في أقصى الشمال الغربي.
ولكن هذه الحملة لم تنجز مهامها، خصوصًا ما قيل عن خطة لموسى باجتياز البيرينيه والوغول في أوربا، إذ وصل حينذاك مغيث الرومي قادمًا من الشام،ومعه أوامر الخليفة بوقف العمليات الحربية واستدعاء القائدين إلى دمشق (95هـ/714م) .ومهما كانت مسوغات الخلافة في اتخاذ هذا القرار، فإن توقيته لم يكن مناسبًا على الإطلاق، إذ إن التراجع ترك وراءه ثغرتين كبيرتين في السيادة العربية الإسلامية في إسبانيا سواء البؤرة المقاومة في جيلقية، أو الثغرة الأوربية عبر البيرينيه،وكلتاهما ظلت مصدر خطر متنام على الأندلس خلال القرون التالية.
تهديد الخلافة:
ويبدو أن أمير القيروان الذي امتدّت سلطته حينئذ من المغرب الأدنى حتى الثغر الأعلى في شبه الجزيرة الإيبيرية خشي الوليد تعاظم نفوذه في تلك البلاد النائية، إلى حد يدفع به إلى تهديد سيادة الخلافة، وفي هذا السياق يروي ابن القوطية «أن الوليد بن عبد الملك لمّا بلغه سير موسى إلى الأندلس، ووُصفت له ظن أنه يريد أن يقيم بها وأن يمتنع فيها، وقيل له ذلك...».
فثمة إذن من أثار حفيظة الخليفة نحو قائده، وزعزع ثقته به، الأمر الذي حدا بموسى إلى إيفاد رسول «علي بنربّاع» إلى دمشق، لنفي ما يشاع عنه، والتأكيد على ولائه للخليفة، إلا أنه اصطدم بحملة عدائية يقودها عبد الملك القاضي في المسجد، فاستنكر الرسول ذلك، مصرّحا – حسب رواية المؤرخ نفسه - «والله ما نزع «موسى» يدًا، ولا فارق جماعة، وإنه لفي طاعة أمير المؤمنين».
بيد أن هذه المسألة تحمل بعدا معاكسا لدى المؤرخ «أولاجي» الذي غالبًا ما يؤسس على معطيات خلافية ليست موثقة في المصادر العربية، فيرى أن النزاع استشرى بين موسى وطارق، «فذهبا - والكلام له - إلى الشام للتقاضي، وتركا إيبيريا من دون سلطات»، متعمّدا تشويه صورة موسى، وكأن الغنائم قضيته المحورية، وموضوع خلافه مع طارق، وذلك بهدف إسقاط الهالة عن القائد الكبير، بما يوائم طبيعة منهاجه في التشكيك بدور موسى في فتح الأندلس.
مخاطبة قرطبة:
مع بدء رحلة العودة عرّج موسى على قرطبة، وقد أودعها هواجسه الثقيلة،فيما الأسطورة لا تزال تلاحقه، وتنسج عليها أيضًا بعض المرويات العربية، كتلك التي نُسبت إليه في مخاطبة المدينة قبل الانكفاء عنها قائلاً: «ما أطيب تربتك وأشرف بقعتك، وأعجب أمرك، ولعنك الله بعد الثلاثمائة سنة». ولم يفسر لنا ابن عذاري معنى التوقيت السالف في روايته، والذي ربما طابق في ذهنه سقوط خلافة الأمويين في الأندلس، فيما يقارب هذه المسافة من الزمن.
وإذا صح شيء من ذلك فقد يكون له علاقة بإيثار إشبيلية، مقرًا للحكم على قرطبة إلا أن الأخيرة فرضت نفسها عاصمة للولاية بعد عامين فقط، إثر اغتيال عبد العزيز بن موسى في سياق موجة التغيّرات السياسية التي امتدّ تأثيرها من الشام إلى الأندلس.
ولعل موسى، وهو يحدّق في قرطبة، راوده شعور بعدم العودة إليها، ولكنه سرعان ما طوى صفحتها لينهك في ترتيب موكب النصر إلى الشام، والذي شكّل سابقة في تاريخ الفتوح، وربما كان له تأثير سلبي على مصيره السياسي، إذا توقفنا عند وصف المرويات لعظمته وفخامته والدويّ الذي رافقه خلال طريقه، فقد بدأ الحظ حينذاك يتخلى عن القائد الكبير، حيث لم يدرك الشام إلا والوليد في آخر أيامه.
ولم يكن اعتباطًا ما يبرر منه إزاء الشخصيات، التي ارتبطت أسماؤها بالفتوحات الكبيرة، بقدر ما جاء استجابة لإجراءات توخّت إحكام سيطرته على مرافق الدولة، والقضاء على مراكز النفوذ فيها، فثمة ما جعله غير مطمئن إلى هؤلاء القادة من عهد سلفه، والذين انتهوا إلى مصير مأساوي في عهده، وإذ قام قتيبة بن مسلم، فاتح بلاد ما وراء النهر بانقلاب، أو استدرج إليه، ضد الخليفة، كما كان محمد بن القاسم،فاتح السند، قد انتدبه لهذه المهمة، قريبه الحجّاج، أحد أبرز رجال الوليد، والذي أشار عليه بخلع سليمان عن ولاية العهد، فيما الثالث، وهو موسى بن نصير، كانت سلطته،وأبناؤه الأربعة، على إفريقية والأندلس، مما أثار مخاوف السلطة المركزية، دون أن يكون اغتيال عبد العزيز بن موسى في إشبيلية، خارج سياق الحملة على مراكز النفوذ فيتلك المرحلة، وقد تختصر مروية ابن عذاري مثل هذه الهواجس لدى الخليفة، وقد جاء فيهاموجها إلى موسى بعد استدعائه وتصنيفه: «لأفلّن غَربك، ولأفرّقن جمعك، ولأصغرنّ من قدرك» .
وليبقى الغموض، على الرغم من ذلك، محيطًا بهذه الشخصية المتعملقة على مساحة الغرب الإسلامي، فلم يكتنه المؤرخون الشرقيون بدقة تفاصيلها، التي وصلتهم مجتزئة بالتواتر الإخباري، أو عبر المرويات الأندلسية، المتشحة بملامح التراث الأسطوري الإسباني، ولعل ابن القوطية، الأشد تأثرًا بهذا التراث، يحملنا على الشكبكثير من أخباره، لاسيما المتصلة بتداعيات العودة إلى الشام، والتي اقتبسها عنه مؤرخون مغاربة أو مشارقة بصورة شبه حرفية.
وفي هذا السياق الذي يخبو فيه منطق الحدث يتابع المؤرخ الأندلسي حوارًا جرى ذات ليلة في مجلس ابن المهلب، حيث سأل هذا موسى قائلاً: كم تعد مواليك وأهل بيتك؟ قال له موسى: «ألف وألف حتى ينقطع النفس،لقد خلّفت من الموالي ما لا أظن أحدًا خلّف مثلهم أبدًا». قال يزيد... «ألا أقمت فيدار عزّك وموضع سلطانك، وبعثت بما قدمت به، فإن أعطيت الرضا أعطيت الطاعة، وإلا كنت على التخيير من أمرك». قال موسى: «والله لو أردت ذلك، ما تناولوا طرفًا من أطرافي إلى أن تقوم الساعة، ولكن آثرت حق الله ولم أرد الخروج من الطاعة والجماعة» .
إن في هذا النص من المفارقة ما يدعو إلى الدهشة، لاسيما أن يزيدًا كان ملاذ موسى عندما اشتدت المحنة عليه، حتى إن الخليفة أخذه الندم حين تشفّع به، فهل خشي يزيد منافسة موسى، وهو الطامح حينئذ إلى أن يكون رجل العهد القومي، متملقًا للخليفة بدفع صاحبه إلى التمرّد؟ وقد نجد في حيثيات حملة القسطنطينية ما يسوّغ هذا السؤال، إذ احتاج سليمان إلى تمويلها مما كان في حوزة موسى، ربما بناء على نصيحة يزيد، وإذ استجاب فاتح الأندلس - حسب الرواية السالفة - لطلب الخليفة، إلا أنه اشترط عليه إبقاء ولديه عبد الله وعبد العزيز واليين على إفريقية والأندلس، وأن يدفع إليه بمولاه طارق بن زياد، وليست هذه الرواية سوى مقال على ما اكتنف تاريخ الأندلس، خصوصًا في مرحلته الأولى من لبس واضطراب،متسائلين في هذا السياق، إذا كان موسى آنذاك في الموقع الذي يتيح له التفاوض مع الخليفة وإملاء الشروط عليه؟!