" اعلموا -أسعدكم الله- أنّ ضرر الباطنيّة على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارىوالمجوس عليهم، بل أعظم من مضرّة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضررالدجّال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأنّ الذين ضلّوا عن الدين بدعوة الباطنيّة منوقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلّون بالدجّال في وقت ظهوره، لأنّ فتنةالدجّال لا تزيد مدّتها على أربعين يوماً ، وفضائح الباطنيّة أكثر من عدد الرملوالقطر " الإمام الإسفرائيني.
مع سطوع شمس الإسلام وبداية إشراقها على منجاورها من الدول والإمارات، قاضيةً بذلك على نفوذ بعض النفعيين الذين كانوا يقتاتونعلى خيرات تلك الشعوب والأمم لجهلها وبعدها عن خالقها ،كما كان يفعل اليهود فيالمدينة المنوّرة واليمن، والمجوس في فارس، والرومان في بلاد الشام وشمال أفريقيا،فحين فتح المسلمون تلك البقاع وطهّروا الأرض من رجسهم ونقلوا العباد من عبادةالعباد إلى عبادة ربّ العباد، لم يرقْ ذلك لأعداء الله لأنّه بعبادة الناس لربّهمخسرانٌ لهم وانحسارٌ لنفوذهم، ولقوّة شوكة الإسلام وضعفهم، وجدوا أنّ خير أسلوبلبثّ حقدهم هو السير على درب بولس محرّف دين النصارى... ألا وهو الدخول في الإسلامظاهراً ،والعمل على نقض عُراه من الداخل... وأوّل من بدأ بذلك مؤسّس دين الرافضة عبدالله بن سبأ اليهودي الصنعاني حين ألّب الناس على أمير المؤمنين عثمان بن عفّانمُحدثاً الفتنة الشهيرة التي انتهت بمقتل عثمان ، ثمّ بدأ بتطبيق الخطوة الثانيةبالدعوة إلى سيّدنا عليّ بن أبي طالب ، وإظهار التفاني في حبّه ،وتلفيق بعض القصصوالروايات المكذوبة عن أحقّيته بالخلافة وما شابه ذلك، حتّى إنّ بعض أتباع الصنعانيألصقوا صفة الألوهيّة بعليّ والعياذ بالله، فقتلهم الخليفة عليّ وحرّقهم.
أمّا بالنسبة للمجوس فإنّهم وإن تتلمذوا على يد اليهود في الكيد للإسلام،إلاّ أنّ الفرصة لم تواتيهم، إلى أن دبّ الضعف في أطراف الدولة الإسلامية ،وانتشرالجهل بين عامّة المسلمين، عندئذ وجدوا الفرصة الذهبية للانتقام من المسلمين وإعادةأمجادهم السابقة، فأنشأوا مذاهبَ ومللاً ظاهرها الإسلام وباطنها المجوسيّة ليلبسواعلى المسلمين دينهم، ومن ذلك أنّهمقالوا:" يجب أن يوضع في كلّ مسجد مجمرة يوضع عليها البخّور "، ومقصدهم من ذلك أن يحوّلوهامن بيوت لله إلى بيوت للنار.
وإذا نظرنا خلال التاريخ الإسلامي لوجدناأنّ كلّ من أنشأ خرقاً في الإسلام كان من أحفاد اليهود أو النصارى، وأغلب مُنشئيمذاهب الباطنيّة من المجوس، قصدهم بذلك هدم الإسلام وإعادة عبادة النيران، ومن ضمنهذه الطوائف الباطنيّة، الطائفة التي نحن بصددها.
نشأة القرامطة وأهم معتقداتهم:
تشير أكثر المصادرإلى أنّ مؤسّس مذهب القرامطة هو حمدان بن الأشعس الملقّب بقرمط، وكان أكاراً منالكوفة وأصله فارسيّ مجوسيّ، وقيل صابئيّ، وكان قد دخل في بداية حياته في مذهبالإسماعيلية الباطنيّة على يد حسين الأهوازي ابن مؤسّس المذهب الإسماعيلي العبيديعبد الله بن ميمون بن ديعان القدّاح اليهودي، وقد عُرف عن حمدان شخصيّته القويّةوعلاقاته الاجتماعية الكثيرة ورأيه المقنع، وكان يعيش ضمن مجتمع يحقد على الخلافةالعبّاسية، كلّ هذه الأمور مجتمعة ساعدته على نشر مذهبه، لكنّ حمدان القرمطي سرعانما انقلب على الإسماعيليّة الباطنيّة منشئاً مذهبه الخاصّ به، كما أنشأ مركزاً لهفي الكوفة عام 277هـ أسماه دار الهجرة.
ومن هذا المركز بدأ حمدان بإرسال دعاتهالذين انتقاهم بدقّة لنشر دعوته بين جهلة الناس عامّة وبين المجوس المتستّرينوأحفاد اليهود بصورة خاصّة، ومن أشهر دعاته أخوه مأمون وزكرويه بن مهرويه الذي ورثعن أبيه كره الإسلام وأمل القضاء عليه وتأسيس دولة فارسية على أنقاضه تقوم على أساسالدين المجوسي، وكذلك كان ابن عمّ حمدان وصهره عبدان مفكّر القرامطة ، وأبو الفوارسقائد تمرّدهم عام 289، وأبو سعيد الجباني في البحرين، ومن أشهر من كتب لهم محمّد بنأحمد النسفي صاحب كتاب المحصول، وأبو يعقوب السجزي المعروف ببذاته صاحب كتاب( أساسالدعوة وكتاب تأويل الشرائع وكتاب كشف الأسرار) لاحظ أن للخميني كتاب بنفس الاسم.
عــقــيــدتــهــم:
اعتمدتعقيدة القرامطة كغيرها من فرق الباطنيّة على إخفاء ما يؤمنون به وإظهار أنفسهم علىأنّهم مسلمون ليسهل عليهم الاندماج في المجتمع والدعوة إلى دينهم، حتّى إذا وثقوامن تابعهم أطلعوه على خفايا عقيدتهم، وهم يتأوّلون الأحكام الشرعية على ما يوافقضلالاتهم وأهوائهم، فيتأوّلون قوله سبحانه وتعالى ": وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَالْيَقِينُ"الحجر: 99 على أنّه من عرفالتأويل فقد أتاه اليقين، وعليه فمن عرف معنى العبادة فقد سقط عنه فرضها، وأوّلواكذلك أركان الشريعة: فالصلاة عندهم موالاة إمامهم، والحجّ زيارته وإدمان خدمته،والصوم هو الإمساك عن إفشاء سرّ الإمام لا الإمساك عن الطعام والشراب، والمرادبالزنا عندهم إفشاء سرّهم بغير عهد وميثاق.
وقد اختلف المؤرّخون والمصنّفونفي أصل مذهبهم، فمنهم من قال بأنّهم صابئة، ومنهم من ذكر بأنّهم من المجوسالإباحيّة أتباع فزدك المؤبد ،كما ذكر ابن حزم الظاهري حين وصفهم فقال: ومن هذهالأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلامجملة، قائلتان بالمجوسيّة المحضة، ثمّ مذهب مزدك المؤبد... وكان يقول بوجوب تواسي(تساوي) الناس في النساء والأموال.
وقد نسبهم الإمام عبد القاهر الإسفرائينيإلى الدهرية الزنادقة،فيقول: " الذي يصحّ عندي من دين الباطنيّة أنّهم دهرية زنادقة ، يقولون بقدم العالم ، وينكرونالرسل والشرائع كلّها، لميلها إلى استباحة كلّ ما يميل إليه الطبع ".
ويستدلّ علىقوله برسالة عبد الله بن الحسين القيرواني إلى سليمان بن الحسين بن سعيد الجَنَّابيفي كتابهم ( السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم ) يوصيه فيها: ادع الناس بأنتتقرّب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كلّ واحد منهم بأنّك منهم، فمن آنست منه رشداًفاكشف له الغطاء وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به فعلى الفلاسفة مُعَوَّلُنا، وأناوإيّاهم مجموعون على ردّ نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنافيه بعضهم من أنّ للعالم مدبّراً لا نعرفه...
وأنا أميل إلى أنّهم قد جمعوابين الدهرية الزنادقة والمجوسية الإباحية ،فقدقال القيرواني في آخر رسالة له إلى سليمانبن الحسن: " وما العجب من رجل يدّعي العقل ثمّيكون له أخت أو بنت حسناء وليست له زوجة في حسنها يحرّمها على نفسه وينكحها منأجنبيّ، ولو عقل الجاهل لعلم أنّه أحقّ بأخته وبنته من الأجنبي، وما وجه ذلك إلاّأنّه صاحبهم حرّم عليهم الطيّبات ،وخوّفهم بغائب لا يعقل، وهو الإله الذي يزعمونه،وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور والحساب والجنة والنار حتّىأتعبَهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذرّيته من بعد وفاته خَولاً (عبيداً أوخدماً) واستباح بذلك أموالهم بقوله: " لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّاالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى" [الشورى: 23]. فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم علىانتظار موعد لا يكون، وهل الجنّة إلاّ هذه الدنيا ونعيمها، وهل النار وعذابها إلاّما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحجّ..
وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتمنعيمها ولذّاتها المحرّمة على الجاهلين المتمسّكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئاًلكم على ما نلتم من الراحة عن أمرهم ".
ومما ذكرت آنفاً يتبيّن أخذهمبعقيدة المجوسيّ من ناحية زواج الأخت والبنت، واتّباعهم لمذاهب الدهرية الزنادقة مننفي النبوّة والرسالة والشرائع.
نـشـرمـذهـبـهـم:
لقد استغلّ القرامطة -كغيرهم من الحركات الباطنيّة الهدامة- الظروف المحيطة بهم، خاصّة وأنّ بدايةدعوتهم وافقت القضاء على حركة الزنج، ولقد كانت الدولة الإسلاميّة آنذاك في بدايةضعفها وتسلّط العسكر عليها من ناحية، وانتشار الشعوبيّون في أرجائها، وعمّ الجهل فيتعاليم الإسلام بين أبنائها، ولقد ركّز القرامطة في دعوتهم على الأراضي الخصبةبنظرهم، كالموالي والعبيد الحاقدين على أسيادهم والأُجراء والمزارعين الناقمين علىأصحاب المهن والأراضي، لاعتقادهم بأنّهم لا يعطونهم ما يستحقّونه لقاء كدّهموتعبهم، ولكي يستقطبوهم ابتدعوا فكرة إشاعة المال وشيوعيّة الأراضي، وكذلك بثّوابين الشعوبيّين الحاقدين على دولة الإسلام وعدهم بالقضاء على المسلمين وسلطانهموإعادة الملك لهم ،سواءً كانوا مجوساً أو هنوداً أو يهوداً ونصارى... وبقي عندهمالعنصر الرئيسي ألا وهو الشباب، الوقود الأساسي لكلّ تمرّد وثورة.. ووجدوا أن خيرأسلوب لجذبهم هو بثّ الفكر الانحلالي وجذبهم بالشهوات.. فاستباحوا الزنا والخمرواللواط وسائر المحرّمات، وجعلوا النساء مشاعاً بينهم، وأباحوا نكاح الأقارب منأخوات وبنات وما شابه هذا، بالإضافة إلى التخطيط الدقيق والإرهاب والبطش.. كلّ ذلكجعل العنصر الشبابي ينجذب إليهم انجذاب الفراش للنار...
وقد اعتمدوا في نشردعوتهم على مراحل وأقسام أسموها - كما ذكرها الإمام عبد القاهر الإسفرائيني- علىالنحو التالي: التفرّس، والتأنيس، والتشكيك، والتلقين، والربط، والتدليس، والتأسيس،والمواثيق بالأيمان والعهود، وآخرها الخلع والسلخ.
فالتفرّس: أن يعرف الداعي من يدعو وكيف يدعوه، مميّزاً من يطمع في إغوائه ممّن لا يطمع فيه،وقد قالوا في وصاياهم لدعاتهم: لا تضعوا بذرتكم في أرض سبخة، ولا تتكلّموا في بيتفيه سراج، يقصدون من عنده علم، ومن شروط الداعي عندهم أن يكون عالماً بأنواع الناسوأصنافهم واختلاف مذاهبهم ونقاط ضعفهم والأبواب التي يدخل على كلّ واحد منهم.. فمنكان مشتغلاً بالعبادة حبّبها إليه وحضّه عليها، ثمّ سأله عن معاني العبادات وعللالفرائض، وشكّكه فيها حتى أبدعها وأدخله مذهبه، ومن كان رافضيّاً جاراه في تعظيم آلالبيت وحبّ عليّ ويطعن في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطّاب وخيار الصحابة، ثم يبغضهفي بني تميم لكون الصدّيق منهم وبني عديّ لانتساب الفاروق إليهم، ويبغض في بنيأميّة لكون عثمان ومعاوية رضي اللـه عنهما منهم، وكذلك الأنصار لعدم وقوفهم مع عليّومطالبتهم بحقّه في الخلافة.. ثمّ يدخل عليه من باب الولاية والتأويل حتّى يخرجه منالدين.
وإن رآه ممّن يحبّ الشيخان مدحهما عنده ورفع من شأنهما وذكر له بأنّصحبة الرسول لأبي بكر في الغار كان القصد منها تعليمه التأويل، فإذا سأله المسكينعن التأويل يكون قد وقع في المصيدة، ووصل درجة التأنيس.. وأمّا إن كان المراد جذبهمن أهل الفسق والمجون، فإنّه هو الصيد السهل، فيذكر أمامه قول الشاعر الماجن:
أَتُركَلذَّة الصهباء صرفاً لما وعدوه من طم و ضمر **حياةٌ ثمّ موتٌ ثم نشرٌ حديث خرافةيا أمَّ عمرو
ويشجّعونه على الانغماس فيالمعاصي واستباحة الحرمات وإنكار البعث والثواب والعقاب وإنكار اللـه والخروج منالإسلام.
ثم تأتي المرحلة الثانية،التأنيس: وهو التفرّس تقريباً، إلاّ أنّه بعد أن يزيّنللصيد مذهبه ويشكّكه فيه لما يسأله عن التأويل.. فإذا سأله المدعو عن علم ذلك أجابهبأنّ علمه عند الإمام.. ويكون قد انتقل إلى مرحلة التشكيك، وهو الوصول بالضحية إلىالاعتقاد بأنّ المراد بالفرائض والظواهر شيئاً آخر غير معناها اللغوي أو الشرعي.. ينهون عليه ترك الفرائض وارتكاب الموبقات، ويكون قد أصبح جاهزاً لمرحلة الربط،والربط عندهم طلب المدعوّ إلى معرفة تأويل أركان الشريعة، فيتأوّلونها به، فإنقبلَها على الوجه الذي دفعوها إليه، وإلا بقي على الشكّ والحيرة فيها.
أمّاالتدليس.. فهو قولهم للضحية الجاهل : إن الظواهرعذاب وباطنها فيه الرحمة.. ويستدلّون بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌبَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِالْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وإنّ لكلّ عبادة أوأمر ظاهراً هو كالقشر وباطنه كاللّب، واللبّ خير من القشر، فإذا سألهم عن تأويلباطن الباب.. طلبوا منه وأخذوا منه المواثيق والأيمان المغلّظة كالطلاق والعتاق،وتسبيل الأموال والبراءة من اللـه ورسوله.. إلى آخر هذه الأيمان والنذور.. بأن لايحدّث أحداً بما سيخبرونه إلاّ بإذنٍ من الإمام صاحب الزمان، أو المأذون له فيدعوته، وأن يستر أمرهم ويحمي جماعتهم.
فإن فعل المقرّر به ذكروا له حقيقةدينهم واعتقادهم، فإن قبل الجاهل مذهبهم فقد انسلخ من الملّة وخلع الإسلام من عنقه،وإن رفض الدخول في عقيدتهم لعدم تقبّله لها واستهجانه بها لم يستطع أن يذيع سرّهمويدلّ عليهم، بل إنّه يكتم أمرهم، وقد يساعدهم، وذلك لما أخذوه منه من أيمانومواثيق ونذر يظنّ لجهله أن لا فكاك منها ولا يمكن حلّها.. وبذلك يضمن القرامطة عدمإفشاء سرّهم حتّى وإن لم يقبل المغرّر به الدخول في مذهبهم ودينهم..
قرامطة البحرين وخروجهم علىالخلافة:
لقد مكث القرامطةعهداً من الزمن ينشرون دينهم ،ويبثّون عقيدتهم الباطنيّة بين العوام والجهلة، ومعازدياد أعدادهم اتّجهوا إلى تنظيم صفوفهم وإعداد خططهم، فلمّا قويت شوكتهم واشتدّساعدهم ووجدوا أنّ الفرصة سانحة للخروج على دولة الخلافة أعلنوا تمرّدهم، وكانتبدايتهم من البحرين عام 286 هـ، وكان على رأسهم أبو سعيد الجنابي القرمطي، ويقالأنّه كان يعمل كيّالاً في البصرة، ويعود أصله إلى الأهواز، وفي رواية أخرى منالبحرين، وكان جلّ جنده آنذاك من بقايا فلول الزنج والخرميّة وبعض الأعراب، وقد بدأتمرّده بغزو القرى المجاورة لمكان إقامته في الأحساء ، يعيث إفساداً فيها ، مرتكباًالأعمال الوحشيّة من قتل وتذبيح واستباحة أموال وأعراض، وقد كان يتّبع خطّة الإرهابلغايتين اثنتين، أوّلهما إرضاء أتباعه وشفاء صدورهم وبثّ الأحقاد التي يكنّونهاتجاه المسلمين، والثانية لإرهاب أعدائه ،وجعلهم يتركون له حواضرهم وأموالهم قبلدخوله لبلادهم.
ولم يمض عام 286هـ حتّى كوّن لنفسه جيشاً عظيماً ،واحتلّ أغلبالمناطق المحيطة به كالقطيف وغيرها من المدن، وحوّل وجهته للبصرة بقصد أخذها، وقدوجّه لهم الخليفة العبّاسي المعتضد جيشاً قوامه عشرة آلاف بإمرة العبّاس بن عمروالغنوي، والتقى الجيشان في الطريق إلى البصرة ،وكانت نتيجة المعركة أن أُسِر الجيشالعبّاسي بكامله وأميرهم معهم، وكان جزاؤهم كما يروي ابن خلكان في وفيّات الأعلام [6/431] أنّه أُحضر الأسرى جميعاً فأمر بقتلهم وتحريقهم ولم يبقِ منهم إلاّ أميرهمالعبّاس بن عمرو الذي أرسله إلى الخلفية العبّاسي نذيراً وليعلمه بمقدار قوّته.
وقد استمرّ أبو سعد الجنابي في حربه للمسلمين وفتكه بهم، وإن كان النصر فيأغلب حروبه معهم بجانبه إلاّ أنّه هُزِم مراراً، وأشهر المعارك التي خسرها كانتمعركة عام 288 هـ مع الجيش الإسلامي بقيادة الأمير بدر، وكانت نهايته لعنه اللـهعلى يد خادم له عام 301هـ ،حيث قتله وقتل معه عدداً من قادة القرامطة.
واختلفالمؤرّخون في سبب قتل خادم أبي سعيد له، وإن كانوا قد اتّفقوا على طريقة مقتله،والقول الأرجح أنّه في إحدى غزواته أسر أحد الغلمان واستخلصه لنفسه وجعله علىطعامه، وكان هذا الغلام لا يزال على دين الإسلام يكتمه عن أبي سعيد، فلمّا رأى فسقأبي سعيد وفجوره أكمن في نفسه قتله والتخلّص منه، وقد حانت له الفرصة حين دخلوالقرمطيّ الحمام وحاول أن يفجر به فقتله الغلام، ثمّ ذهب الغلام وأخبر أحد قوّادالقرمطي بأنّ أبا سعيد يطلبه في الحمّام، فلمّا دخل ذلك القائد الحمّام عمد إلىقتله أيضاً، وفعل ذلك بخمسة منهم أيضاً، ولمّا اكتشف القرامطة أمره قبضوا عليهوقَرّضوا لحمه بالمقاريض فتوفّي رحمه اللـه بعد أن خلّص الأمّة من خمسة من أشدّأعداء الإسلام ومن قواد جيش الكفر.
واستلم بعده قيادة القرامطة ولده سعيدثمّ سليمان الذي خرج على أخيه، وقد كان سليمان من أشدّ ما ابتُلي به المسلمون منأعداء في تاريخهم، وقد كان زيادة على كفره وخروجه عن الملّة الإسلامية قد أباح نكاحالمحارم وأشاع اللواط ونكاح الغلمان، بل إنّه أوجب قتل الغلام الذي يمتنع على منيريد الفجور به، وكذلك أمر بمعاقبة كلّ من أطفأ ناراً، فإنّ أطفأها بيده قطعت يده،وإن أطفأها بالنفخ قطعوا لسانه، وذلك يظهر تعصّبهم لدين آبائهم من المجوس، ولم يترك -لعنه اللـه- رذيلة إلاّ فعلها، وقد كان يفعل ما يعجز اللسان عن ذكره من أفاعيلإجرامية بكلّ أرض وشعب تصل قبضته إليه، وهو أوّل من سنّ هتك الأعراض الجماعي أمامأعين محارمهم، وقد أدّت أفعاله تلك إلى نشر الرعب في بلاد المسلمين، وقد دخل البصرةعام 311هـ في ربيع الآخر ،فاستباح الحريم والأموال وذبح الشيوخ والأطفال ،وأحرقالمسجد الجامع ومسجد طلحة، وكذلك قطع الطريق على حجّاج العراق عام 312هـ، فأخذالأموال والحريم والمتاع وترك الرجال بدون طعام أو ماء أو ركب فمات أغلبهم جوعاًوعطشاً، ثم أرسل يطلب من الخليفة المقتدر أن يتخلّى له عن الأهواز، وحين رفضالمقتدر ذلك اتّجه إلى الكوفة فدخلها وقتل أهلها ونهب ما استطاع نهبه وجعلها مباحةلجنده وزبانيته، وقد حاول قطع الطريق على حجّاج العراق مرّة أخرى ،ولكنّ حماة الركبالعراقي اشتبكوا معهم بحرب خاطفة حتّى استطاعوا إعادة الركب إلى العراق ،ولم يحجّواعامهم ذلك.
وبقي على حاله تلك في قطع طريق الحجّاج أكثر أيّامه، حتّى إنّ حجّاجخراسان والعراق والمشرق توقّفوا عن الذهاب إلى الحج، وفي عام 315هـ قصد بغدادوالتقى بجيش المسلمين في الأنبار ،وكان عدد جيشه ألف فارس وسبعمائة راجِل، وجيشالخليفة أربعين ألف فارس، وعلى الرغم من ذلك فقد فرّ جيش العراق حتّى قبل أن يلتقوابجنود القرمطيّ، فدخل القرمطي الأنبار ،وحاول دخول هيت ولكنّ أهلها حصّنوها وأنقذوهامن يد القرمطيّ.
وفي عام 316هـ دخل القرمطيّ الرحبة وقتل رجالها واستحلّ نساءهاوأموالها ،وحاول دخول الرقة إلاّ أنّه رُدّ عنها، ولم يحجّ أحد في هذه السنة خوفاًمن القرامطة.
وفي عام 317هـ اتّجه عدوّ اللـه سليمان أبو طاهر القرمطيّ إلى مكّةفدخلها يوم التروية فقتل الحجيج في المسجد الحرام ،وداخل البيت المعمور ورمى جثثهمفي بئر زمزم ،وقتل أمير مكّة ابن محارب ،وعرّى البيت ،وقلع بابه ،وقلع الحجر الأسود،وأخذه معه إلى عاصمته هجر، وأقام بمكّة ستّة أيّام، وقد رُوِيَ أنّه قد قتل ثلاثينألفاً من الحجّاج ومن سكّان مكّة، وكان ينشد وهو يقتل الحجّاج والأبرياء من سكّانمكّة:
أنـــا باللـه و باللـه أنــــا يخـــلق الخـــلق وأفنـــيهمأنـــا
وكان من جملة من قُتل ذلك العام التابعيّ الجليل عبد الرحمن بنعبد اللـه بن الزبير، وقد سبى ما يقارب الثلاثين ألفاً من النساء والغلمان ، وبقي فيإفساده وقتله للمسلمين وقطع طريق الحجّاج وتقتيلهم حتّى امتنع الناس عن الحجّ كماحصل مع حجّاج بغداد بين عام 319-327هـ، حيث لم يذهبوا لتأدية فريضة الحجّ خوفاًمنهم ومن بطشهم.
وقد حاول الركب العراقي خلال هذه الفترة أكثر من مرّة الذهاب للحجكما حدث عام 323هـ، إلاّ أن تعرّض القرمطيّ لهم وقتل الحجّاج وسبي الحريم جعلهميقلعون عن محاولاتهم تلك، حتى أمّنهم القرامطة مقابل دفع ضريبة مقدارها خمسة دنانيرعلى كلّ جمل وذلك عام 327هـ، وكانت أوّل مرة يدفع الحاج ضريبة لقاء توجّهه لأداءفرضٍ شرعه اللـه عليه.
ومع هلاك سليمان القرمطيّ عام 331هـ وانقسام الحكمبين أبنائه، خفّت قوّة القرامطة وتهديدهم لدولة الإسلام، واقتصرت أعمالهم على قطعالطريق وبعض الهجمات الخفيفة لتأمين مصدرٍ لعيشهم، وقد كان الزمن كفيلاً بزيادةضعفهم وحاجتهم إلى المال، فما أتى عام 339هـ حتّى استبدلوا الحجر الأسود بخمسين ألفدينار أعطاهم إيّاها الخليفة المطيع، وذلك إن دلّنا على شيء فإنّما يدلّنا علىمقدار ضعفهم وحاجتهم، وقد تكفل اللـه سبحانه وتعالى أمر تلك الطائفة، وإن كان قدأمهلها بعض الوقت، فقضى عليهم ومحا ذكرهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر، ولم يبقَ فيأيّامنا هذه إلاّ بقايا لهم في تلك الديار.
قــــــرامطة الشــــــام:
يعتبر مؤسّس القرامطة في بلادالشام زكرويه بن مهرويه، إذ إنّه عندما شقّ حمدان وعبدان عصى الطاعة على مؤسّسمذهبهم الإسماعيلي وأسّس حمدان قرمط مذهبه الخاص، بقي زكرويه على ولائه للقداحيين،وذلك لغاية في نفسه، وقد حاول مراراً التخلّص من مؤسّسي المذهب القرمطي كعبدانوغيره، وقد نجح في قتل عبدان إلاّ أنّ نقمة أتباع عبدان عليه جعلته يختبئ في جنوبالعراق ،وبعث أبناءه إلى بلاد الشام عامّة وإلى السلمية الإسماعيلية بشكل خاص لبثّدعوته والسيطرة على أتباع أسرة ميمون القداح، وقد نجح في ذلك ممّا دفع أبناء ميمونالقداح للهجرة إلى المغرب، فأسّسوا هناك دولة العبيديين (الفاطميين) وإن كان أبناءزكرويه اتّخذوا أسماءً أخرى ،وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ،كما فعل يحيى بنزكرويه حين ادّعى أنّه حفيد إسماعيل بن جعفر الصادق إلاّ أنّهم لم يستطيعوا أنيلصقوا أنفسهم بأهل البيت كما نجح العبيديون.
خروجهم عنالخلافة:
بعث زكرويه من مخبئهفي العراق ابنه يحيى إلى بلاد الشام مع أتباع له من السلمية ومن بادية الشام وذلكعام 289هـ، وهاجموا الرقة وانتصروا على عسكرها وساروا إلى دمشق وحاصروها، إلاّ أنجيوشها والمدافعين عنها رفضوا تسليمها ،واستطاع المدافعون عنها الصمود بمساعدة منأتاهم من مصر ومن الموصل بعد معارك طاحنة قتل فيها الكثير من الجيش الإسلامي، وماأن آلت إمارة الجيوش إلى بدر الحمامي صاحب ابن طولون حتّى انقلبت موازين المعركةلصالح المسلمين، فهزم عساكر القرامطة ،وقتل يحيى بن زكرويه القرمطي، وقبل مقتله -لعنه اللـه- أخبر جيشه بأنّه سيتركهم ويطلع إلى السماء، وأنّه سيبقى فيها أربعينيوماً ،وأنّ أخاه الحسين سيأتي ليحلّ محلّه في قيادة الجيش ،وأمرهم بالسمع لأخيهوالطاعة له، ومع استلام الحسين لإمارة الجيش القرمطي انسحب من دمشق ،وهاجم حماةوالمعرة وبعلبك، وكان يبثّ حقده على كلّ منطقة يصل بطشه إليها ،فيقتل أهلها ويستحلّنساءها ،ويعيث في الأرض الفساد.
وقصد حلب في عام 291هـ غير أنّهم هُزموا وعادوا إلىحمص، ولكنّهم فوجئوا بجيش الخليفة هناك وعلى رأسه محمّد بن سليمان الذي ما لبث أناشتبك معه في معركة كان النصر فيها للمسلمين والخزي والعار للقرامطة، وأُسِر الحسينهذا وأُرسِل إلى الخليفة ببغداد، فعذّبهم وقطّع أيديهم ثمّ أحرقهم.
فلمّا رأىزكرويه أنّه قد فقد ولديه رأى أن لا شيء أمامه إلاّ أن يظهر نفسه، فجمع جموعاًواتّجه بهم إلى الكوفة وقاتل أهلها في عام 293هـ يوم النحر وقاتله أهلها قتالاًثبتوا فيه وردّوا جيوشه إلى القادسيّة، ووجّه الخليفة جيشاً لحربهم إلاّ أنّ جيشالخليفة هُزم شرّ هزيمة، مما أعطى قوّة معنوية لزكرويه القرمطيّ، وبدأ في قطعالطريق على الحجّاج كصاحبه القرمطيّ السابق، وكان إذا اعترض قافلة للحجّاج لا يتركأحداً من رجالها إلاّ وقتله وأخذ أمواله، ولم يترك امرأة في ذلك الركب إلاّ سباهاواستحلّ عرضها.
وفي عام 294هـ اعترض قافلة فيها نساء وخواصّاً للخليفة وأموالاًوخزائن له، فقتلوا الرجال وسبوا النساء وأخذوا الأموال، فلمّا علم الخليفة المكتفيبذلك أرسل جيشاً على رأسه وصيف بن صوارتكين والتقى جيش الخليفة بجيش القرمطي، وبعدمعركة طاحنة استبسل فيها جيش المسلمين انتهى اليوم الأوّل فيها سجالاً، وما إن أصبحالصبح حتّى رجحت كفّة جيش المسلمين وأعملوا بجيش اللعين السيف، ومع حلول الظهيرةجرح زكرويه وقتل أغلب جيشه وفرّ من بقي منهم فماتوا عطشاً في البادية، وحُمِلزكرويه إلى الخليفة إلاّ أنّه هلك في الطريق بعد خمسة أيّام، فشقّوا بطنه وحملوهإلى بغداد ليجعلوه عبرةً لمن يعتبر، ومع مقتله لعنه اللـه انتهت سطوة القرامطة فيالعراق والشام، وبقيت فلول لهم غير ذات أثر هناك.
القــــرامطة فـــي العصــــرالحديــــــث:
بقيت آثارللقرامطة تغيّر جلودها واسمها من آن لآخر حسب الظروف التي تحيط بهم، وكانوا على مرّالعصور يحملون الحقد في صدورهم لأمّة الإسلام، فما إن تأتيهم الفرصة للكيد للمسلمينحتّى تراهم يسرعون في اقتناصها والعمل بها ،سواء كانت خيانة أومساعدة لغاز محتل،كما حصل بمساعدتهم للتتار في العراق وبلاد الشام، وكذلك وقوفهم بجانب الصليبيين فيحملاتهم المشهورة ضدّ المسلمين في مصر والشام.
ومن بقاياهم الآن جزء منهم في عُمانواليمن يلقّبون بالصوالحيين والمكرمية، ولا تزال بقايا للإسماعيليين البهرة فيالعراق وفارس والهند، وما زالوا يتربّصون الفرصة للفتك بالمسلمين وإعادة دولتهم منالشام إلى الجزيرة العربية، وبفضل اللـه ثمّ وعي بعض المسلمين على مرّ العصورفإنّهم لم ولن يستطيعوا القضاء على بيضة الإسلام، وذلك لوعد اللـه بنصرة دينهواستخلاف عباده فيالأرض