يقول هارون الرشيد حين رأى غيمة في سماء بغداد تنطلق بعيداً : أمطري حيث شئت ، فسيأتيني خراجك .. يقولها وهو الخليفة العظيم الذي يحكم أعظم قوة في العالم آنذاك ، ويمتد سلطانه من المحيط الأطلسي غرباً إلى ما بعد المحيط الهندي شرقاً ، رقعة تضم عشرات الدول في هذا الزمان الرديء الذي نعيشه ، حيث تفرقنا أيدي سبأ ، وتجرأ علينا الأعداء من كل حدب وصوب ، فسطوا على خيراتنا ، واستباحوا بلادنا ، وملكوا نواصينا .
قسمنا العدو ممالك مفتتة ، فرضينا هذا التقسيم ، وعضضنا عليه بالنواجذ ، وسعينا إلى الحفاظ على هذا الوضع ( القزم القميء) وكرسنا الحدود المصطنعة ، ونادينا بمبادئ إقليمية ما أنزل الله بها من سلطان ، وتحاكمنا في تثبيت هذه الحدود إلى مَن وضعها ، كأنها قدر لا ينبغي تجاوزه ، وحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وضعٌ هزيل كهذا لا يبني أمة عزيزة ، ولا يرفع قدرها بين الأمم ، إنما يقيدها بالعدو القوي ، ويشدها إليه ، فيبقى السيد المطاع ، والحكمَ الفصل ، والمتصرفَ الأول والأخير في مقدرات الأمة سياسة واقتصاداً وثقافة وكينونة ! .
صار الأخ غريباً يعز عليه التنقل في أرض الله وبلاد المسلمين إلا بقيود تزداد يوماً بعد يوم ، وأضحى البعيد صديقاً يطوف أو يقيم في هذه الممالك دون قليل عناء . وهذا حال الضعيف المبهور بالسيد الغريب ، والمتعالى على بني جلدته النائي عن أخيه في العقيدة واللغة والأرض ، يرى أنسه وراحته في التقرب من الغربي ، ويكاد ينسلخ عن القريب إلا لحاجة أو غاية مؤقتة .
وأضحى الانتماء إلى الغرب فكراً وعادات وتقاليدَ مهوى القلوب وشغلَ العقول ، وكثرت المفردات واللكنات الغريبة في التخاطب ، فهي علامة التقدم وسبيل الحضارة – في معتقد الفارغين – والدليل على الرقي الفكري الثقافي لدى التافهين ! .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول " لتتبعـُنَسـَننَمنقبلكمشبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه،قلنا : يا رسول الله ، آليهود والنصارى ؟ قال : فمَن ؟ " ولو تأملنا قوله صلى الله عليه وسلم " جحر ضب " لعـَلـِمنا أي دركٍ وصلناه في المسخ الفكري والهزيمة النفسية والخواء العقيدي والشخصية الاعتبارية المهزوزة ، إذ نتبع هؤلاء دون تفكير ولا تمحيص ، فهم القدوة التي نتأسـّاها ، وهم القادة الذين نسلمهم زمام أمورنا، ونسير وراءهم ، ونتبع نهجهم .
رحم الله الخليفة هارون الرشيد ذلك القائد الفذ والمجاهد البطل الذي كان يغزو سنة ويحج سنة ، يحمى ثغور المسلمين ، وينشر العلم والامان معاً في النفوس والمرابع .
لقد كانت بغداد- حماها الله ونصرَها ، وفكّ أسرَها - والمدنُ الكبرى في عهده منارة العرفان ومناهلَ العلم ، يقصدها المسلمون وغيرُهم ، يغترفون الآداب والعلوم ، ويستقون المعارف والفنون ، بينما كان الغرب يرقد في عميق الجهل ودياجير الظلام ، فكانت القرون الوسطى شمس الشرق وليل الغرب ، وما قصة الساعة التي أهداها هارود الرشيد لشارلمان ملك الروم الغربيين ، وظنها جلساؤه سحراً حين دقت في تمام الوقت ، فأوقعتهم في حَيـْرة ، وهمـّوا بكسرها ، إلا إشارة واضحة لتقدم المسلمين وتأخر الصليبيين .
أما العزة التي افتقدناها بسبب جثوم حفنة من الفاسدين القائمين على صدور الأمة في أغلب بلاد المسلمين اليوم وغياب الإسلام القوي فقد كوى غيابها قلوبنا حسرة وألماً ونحن نرى هؤلاء المتنفذين أدوات في أيدي الغرب يحركونها دُمى تافهة ً لحرب الإسلام وأهله ، فهم دعاة على أبواب جهنم يزيـّنون السقوط فيها ، ويدفعون أهلها إلى الردّة والانغماس في وحل الجاهلية والارتكاس إلى وهدتها .
هارون الرشيد كان علـَماً قـَلّ نظيره ، يرفرف في سماء الكرامة ، فقد ضغط بجيشه الإسلامي المظفر على القسطنطينية التي حكمتها بين عامي ثمانين وسبع مئة للميلاد وثمان مئة وعامين / 780- 802 / الإمبراطورة إريني وفرض عليها الجزية ، فلما انتفض عليها نقفور – أحد أتباعها – ونصّب نفسه إمبراطوراً أرسل كتاب تهديد إلى الخليفة هارون الرشيد يقول فيه : " من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب ؛ أما بعد ، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مكان ( الرخّ ) وأقامت نفسها مكان ( البيدق ) ، فحملت إليك من أموالها ما كنتَ حقيقاً بحمل أمثاله إليها ، لكنّ ذلك ضعفُ النساء وحُمقُهنّ ، فإذا قرأت كتابي فأعِدْ ما وصل إليك منها ، وافتدِ نفسك بمثله تنجُ من عقابي ، وإلا فالسيف بيني وبينك .
" الرخ " القلعة " والبيدق " الجندي الصغير " في لعبة الشطرنج .
فما كان من الخليفة المجاهد إلا أن كتب على ظهر الرسالة نفسها – استصغاراً للصعلوك نقفور - : " من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور " كلب الروم " قد قرأت كتابك ، والجواب ما تراه ، لا ما تسمعه " .
ثم شخص من يومه بجيشه المسلم البطل يدق باب القسطنطينية بعنف ، وأذل نقفوراً الكلبَ هذا الذي استطال على المسلمين فنال جزاءه ذلاً وضعة ً ودفع راغماً ذليلاً ضعف ما كانت الأمبراطورة السابقة تدفعه .. فعلى الذكر ضعف ما على الأنثى من الغرامة والجزية .
فهل مِنْ هارون ٍ جديد يسير على نور من الله وهدي من شريعته ؟! فيطرد نقفور العصر الحاضر ، ويرغم أنفه ، ويحرر البلاد ، ويستنقذ العباد ؟؟
إنّ ذلك لن يكون بالشعارات القومية الجوفاء ، ولا الإقليمية الرعناء ، ولا الإلحادية الشنعاء ، أو الطائفية البلهاء ..
لن يكون التحرير إلا بهدي السماء ، والسير على خطا سيد الأنبياء .. فهل من مدّكر؟
المصدر : رابطة أدباء الشام