ابتلى العالم الإسلامي بموجات من الزحف المغولي الذي لم يرحم صغيرا ولا كبيرا ، وانطلق يدمر كل شيء في طريقه حتى انتشر الفزع والهلع في كل مكان (1) فمن هؤلاء المغول الذين نشروا الرعب والفزع في العالم الإسلامي ؟ ومن أين أتوا ؟ وماذا فعلوا بالمسلمين ؟ ومن تصدى لهم من المسلمين واستطاع أن يوقف زحفهم ، وأن يحطم كبرياءهم ؟
يذكر كثير من المؤرخين والباحثين أن المغول هم عدة قبائل بدوية رعوية كان يشار إليهم غالبا باسم التتار أو التتر ، وهو اسم كان يطلق على إحدى مجموعاتهم وهي قبيلة التتر ، وكانت القبائل المغولية في مستهل القرن السابع الهجري ، الثالث عشر الميلادي تعيش في هضبة منغوليا الواقعة شمال صحراء جوبي بين بحيرة بايكال في الغرب وجبال خنجان (Khingan ) على حدود منشوريا في الشرق (2).
وكانت هذه القبائل تعيش على الصيد والقنص ، ويتغذون باللحم ولبن الخيل (3) ولم يكن لهم دور يذكر في التاريخ قبل ظهور جنكيزخان ، بل كانوا ينقسمون إلى عدة قبائل كما يلي :
1 ــ قبيلة القيات الصغيرة ، التي ظهر منها جنكيزخان، وكانوا يسكنون على شواطيء الشعب العليا ، الآمور وجبال قراقورم أي يابلونوي الحالية (Iablonoi ) (4).
2 ــ قبيلة الأويرات ، وكانوا يقيمون في المنطقة الواقعة ما بين نهر أونن (Onan ) وبحيرة بايكال ، وكانوا كثيري العدد ، وقد انقسموا إلى عدة فرق ، إلا أنهم كانوا يأتمرون بأمر ملك واحد ، ولما جاء جنكيزخان استطاع أن يخضعهم لطاعته (5).
3 ــ قبيلة النايمان ، وهي من قبائل الأتراك الذين غلب عليهم الطابع المغولي ، وكانوا يقيمون في أقاصي الغرب بين أعالى نهر أرتش ونهر أرخون شمال جبال التاي ، وبسبب اقتراب هذه القبيلة من قبائل الأوغور في الجنوب ، فقد اعتنقوا الديانة المسيحية حسب الطقوس النسطورية(6) .
4 ــ قبيلة الكراييت (Kerait ) وكانت تقطن الواحات الشرقية لصحراء جوبي (7) وجنوب بحيرة بايكال حتى سور الصين ، وكانت هذه القبيلة من أقوى قبائل المغول في القرنين الخامس والسادس الهجريين ، واستطاعت السيطرة على معظم القبائل حولها ، وقد اعتنق رئيس هذه القبيلة الديانة المسيحيةعام 398هـ/1008م (8).
5 ــ قبائل المركييت (Markit ) وهم من المغول وكانوا يسكنون المنطقة الواقعة شمالي بلاد الكراييت على مجرى نهر " سلنجا " وجنوبي بحيرة بايكال ، وكان لهم جيش قوي ذو بأس شديد ، ولهذا شنّ عليهم جنكيزخان حربا شعواء استعمل فيها القسوة والشدة حتى أباد معظمهم (9).
6 ــ قبائل التتار ، وكانوا يقطنون المنطقة التي تحد شمالا بنهري " أرخون " و "سيلنجا " (Selenga ) ومملكة القرغيز ، وشرقا بإقليم الخطا ( الصين الشمالية ) وغربا قبائل الأويغور وجنوبا بإقليم التبت (10) وقبائل التتار من أشد قبائل الجنس الأصفر بطشا وجبروتا في أقاليم آسيا الشمالية ، وكانوا يتمتعون باحترام زائد نتيجة قوتهم بالإضافة إلى أنهم كانوا أكثر القبائل رفاهية وتنعما (11).
وكانت قبائل التتار في صراع دائم وشديد مع قبائل المغول حتى ظهر جنكيز خان ، فقام ومعه جنوده بالإجهاز عليهم واستئصال شأفتهم ، وأصدر أمرا قاطعا بألا يترك أحد منهم على قيد الحياة ، وعلى أثر انتصاره عليهم ، أطلق اسمهم عليه ، ربما لما كانوا يتمتعون به من القوة والشجاعة والثراء والنبل (12).
والحقيقة أن المغول في بدء هجومهم على العالم الإسلامي كانوا يعرفون بالتتار كما أطلق عليهم اسم "المغول " و " مغل " واشتهروا في التاريخ بهذين الاسمين (13).
ولقد تمكن الزعيم المغولي جنكيز خان (14) من جمع شمل القبائل المغولية المتفرقة ، وأخضعها كلها لسلطانه ، ونصب نفسه عليها خاقانا (15) سنة 603هـ / 1206م ، وبعد أن تولى جنكيز خان عرش المغول سعى إلى التوسع في الأقاليم الجنوبية بهدف اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من البلاد الصينية ، والتوسع في الأقاليم الغربية بقصد تعقب بعض القبائل المغولية التي فرت من وجهه ، وأبت الرضوخ لسلطانه ، وبينما هو يستعد لتوسيع ملكه قرر وضع دستور لشعبه ؛ كي يلتزم المغول به ، ويسيرون وفق قواعده في حياتهم ، وقد نظم هذا الدستور الحياة العامة المغولية لمدة طويلة بعد موته (16).
وبعد أن نظم جنكيزخان الأمور داخل دولته واطمأن إلى استقرارها زحف نحو البلاد الشمالية من بلاد الصين ، وتمكن من إخضاعها ، كما تمكن من الانتقام من أعدائه الذين فروا من وجهه تجاه الغرب ، ومن ثم اصطدم بالقوى الإسلامية ، ولاسيما الدولة الخوارزمية التي كانت قد وصلت إلى أقصى اتساع لها في عهد علاء الدين محمد خوارزم شاه ، وقد استطاع جنكيزخان تخريب أقاليم هذه الدولة ، والتنكيل بسلطانها وجيوشها وسكانها في مدة لاتزيد على أربع سنوات ، إذ بلغ حدودها سنة 616هـ/1219م وشرع في العودة إلى منغوليا سنة 620هـ/1223م(17).
وقد كان غزو جنكيز خان للشرق الإسلامي عنيفا وشديدا ، فقد خرَب ودمر كل ما صادفه من البلاد التي وطئتها أقدامه ، ونكل بالمسلمين وتفانى في تعذيبهم بشتى الوسائل والأساليب(18).
وفي أثناء هذه الفتوح الكبيرة مات جنكيزخان سنة 624هـ/1227م عن اثنين وسبعين عاما ، وكانت البلاد التي فتحها هو وأولاده تمتد من البحر الأصفر إلى البحر الأسود ، وكانت تضم بلادا وقبائل انفصلت عن حكم الصين والتانغوت والأفغان وإيران والترك (19).
لم يترك جنكيز خان قبل موته أية تعليمات بالنسبة لوحدة الامبراطورية المغولية ؛ لذا فقد اتفق على أن يجرى اختيار من يخلفه من أبنائه عن طريق الانتخاب ، وفي سنة 626هـ/1229م تم عقد الجمعية الوطنية العامة " القوريلتاي " واتفق أبناء جنكيز خان على تنصيب أوكتاي خلفا لأبيه ، ودخل الجميع في طاعته (20) ..
وامتاز عصر أوكتاي بتوسيع الممتلكات المغولية بشكل واضح ، حيث تم إخضاع دولة " كين " الواقعة في النصف الشمالي من الصين ، والتي كانت قد أخضعت جزئيا في أيام جنكيزخان (21) ثم شن المغول على أوربا حملة كبيرة ، فدخلوا موسكو ونوجرود ، وهاجموا بلاد المجر ، وأحرقوا كزاكاو ، وحاصروا بشته ، ولقد أنقذ أوربا من الخطر المغولي موت أوكتاي سنة 639هـ/1241م (22) وقد قبضت زوجته "توراكينا خان" على أزمة الأمور حتى استطاعت بذكائها وحسن دهائها أن تجعل السلاطين والأمراء الكبار يوافقون على اختيار ابنها "كيوك خان" في مؤتمر"القوريلتاي" الذي انعقد سنة644هـ/1246م (23) وأعاد كيوك خان الأمن الذي اختل في حكم أمه ، ثم أرسل جيوشه إلى إيران والصين (24) ولم يمكث كيوك خان في الحكم سوى عام وبعض العام حتى لقي حتفه (25).
وبوفاة كيوك خان انتقل زمام الدولة إلى شعبة أولاد تولوي ، فتولى منكو بن تولوي العرش سنة 648هـ/1250م (26)، وفي سنة 651هـ/ 1253 م أرسل القان منكو أخاه هولاكو ومعه أسرته على رأس جيش كبير إلى إيران ليحارب الإسماعيلية والعباسيين في بغداد (27).
وقد حرص منكو على إعداد أخيه هولاكو إعدادا دقيقا ، وباشر ذلك بنفسه فأمده بكثير من القوات التي مارست الطعن والنزال واقتحمت ميادين القتال ، وأمده بكثير من الجند الذين مهروا في استخدام أدوات الحرب ، مثل المنجنيق وقاذفات النفط ورمي السهام ، ووصل تعداد هذا الجيش إلى 120000 جندي من خيرة محاربي المغول (28)، وخرج هولاكو على رأس جيشه من عاصمة المغول " قراقورم " سنة 651هـ/1253م حتى وصل إلى إيران ، واستطاع أن يخضعها لسلطانه سنة 653هـ/1255م وفي العام التالي فتح قلعة ألموت ، وحطم المغول ما وجدوه من الأسلحة وأدوات القتال التي كانت لدى الإسماعيلية ، وبذلك زالت دولة الاسماعيلية الباطنية بعد أن استمرت 171 عاما تثير الرعب والفزع في بلاد العالم الإسلامي كافة (29) ليحل محلهم المغول الذين انتقلوا إلى همدان وعسكروا فيها ؛ ليكونوا بالقرب من العاصمة العباسية بغداد ليعدوا العدة لفتحها.
ويبدو أن هولاكو طمع في أن ينشيء لنفسه بوصفه تابعا لأخيه منكو إمبراطورية خاصة في الغرب ، أو أن يكون أخوه الخاقان قد أوعز له بذلك ليكون في بيتهم الملك والسلطان ، وحقق هولاكو هدفه الأول بالقضاء على طائفة الإسماعيلية ، وجعلها عبرة لمن يفكرون في مقاومته ، ثم سار إلى بغداد لتحقيق هدفه الثاني ، وهو القضاء على الخلافة العباسية وفتح بغداد (30) ..
وفي التاسع من المحرم سنة 656هـ / السادس عشر من يناير سنة 1258م وصلت جيوش هولاكو إلى بغداد ، وأعمل السيف في أهلها لمدة أربعين يوما ، فقتل من المسلمين عدد كبير ، وقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله وآل بيته ، ولم ينج من بين أيديهم إلا العدد القليل (31) .
وقضى هولاكو بذلك على الخلافة الإسلامية ، ثم تقدم نحو بلاد الشام ، وفي طريقه استولى على ميافارقين في ديار بكر ، وقتل صاحبها الملك الكامل محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وحمل التتار رأسه على رمح قصير وطيف به ؛ لأنه رفض الاستسلام للمغول (32) .
وفي سنة 658هـ/ 1259م دخل جيش المغول إلى حلب عنوة بعد أن رفض حاكمها الاستسلام ، وأعملوا في أهلها القتل والأسر (33) وسقطت دمشق في أيديهم ، واستمروا في إسقاط كافة البلدان بالشام حتى وصلوا إلى غزة والخليل ، فقتلوا الرجال ، وسبوا النساء والأطفال ، واستاقوا من الأسرى والأبقار والأغنام والمواشي شيئا كثيرا ، وأخذوا من الأسلاب والأثاث ما لايحصى عده (34) وصاروا على مقربة من الحدود المملوكية المصرية.
فماذا حدث هذا ما سوف نتناوله في الجزء الثاني من المقال إن شاء الله